الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق بعد اثنتين وثلاثين سنة (3)

سهر العامري

2011 / 5 / 9
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق



لم تعد البصرة مثلما عهدتها من قبل ، تلك المدينة التي كنت أزورها أيام الصبا رفقت والدي ، حيث كانت محط رحال التجار القادمين من داخل العراق وخارجها ، وحيث كانت أسواقها مزدهرة ، وأنهارها تحتضن السفن الشراعية والبخارية ، ونخيلها كث ، تطاول أعناقه السماء.
كتب عنها ابن بطوطة فقال : (... قام الخطيب الى الخطبة سردها ، لحن فيها لحنا كثيرا جليا ، فعجبت من أمره ، وذكرتُ ذلك للقاضي حجة الدين ، فقال لي " إن هذا البلد لم يبق به من يعرف شيئا من علم النحو " وهذه عبرة لمن تفكر فيها ، سبحان مغير الأشياء ، ومقلب الأمور . هذه البصرة التي الى أهلها انتهت رياسة النحو ، وفيها أصله وفرعه ، ومن أهلها أمامه الذي لا ينكر سبقه ..)
كان ذاك في القرن الثامن الهجري ، فكيف بها اليوم ومجاري مياها تتدفق نتنا وروائح كريهة وهي تمر مفتوحة كالأنهار في كل صوب وحدب منها ، كيف بها وشوارعها مهدمة تتطاير الأتربة منها ، كيف بها ثالثة ونهر العشار عاد مكبا للنفايات ، آسن الماء بعد أن كان سلسلا عذبا يزهو بالسفن الشراعية !
لم يلفت انتباهي شيء جديد من البصرة ، ألقيت نظري على كل شارع وزاوية مررت بهما ، ومع هذا لم تقع عيني على ذاك الجديد الذي نشدته ... فسبحانه مغير الأشياء ، ومقلب الأمور ، كنا قبلا حين نقترب من مدينة البصرة يطالعنا نخيلها ، فهي المدينة التي قال عنها ابن بطوطة : ( ليس في الدنيا أكثر نخيلا منها .! )
لقد حولت الفوضى الخلاقة بساتين النخيل في مدينة البصرة ، ومدينة كربلاء ، وغيرهما من المدن في العراق الى أرض تباع وتشترى ، فالنخل لم يعد مصدر رزق كبير ، وإنما صارت الأرض التي يقف عليها هذا النخل هي مصدر الرزق الكبير ، وذلك بعدما تفاخر رامسفليد ، وزير الدفاع الأمريكي ، بعلو هامة أسعار العقار في العراق ، مبرهنا على التطور والبركة التي حلت بالعراق وأهله بعد أن قاد هو تلك الفوضى الخلاقة التي نزلت به وبهم ... السلعة التي غلا ثمنها ، وأرتفع ربحها ، وصارت ميدانا لمضاربات قتلة النخيل في عراق اليوم هي الأرض ، وليست كل الأرض ، وإنما أرض بساتين النخيل التي تحيط بمدن العراق المنكوبة بفقدانها باسقات الطلع جمالا وخيرا ، والغرض من ذلك هو تحويل تلك البساتين الى دور سكنية وفنادق تدر مالا كثيرا على المضاربين أولئك ، حتى صار النخيل في العراق اليوم يقتل أمام أنظار الجميع مثلما يقتل الإنسان فيه ، رغم أن العراق بلد شحت الأشجار فيه ، وقلت الزراعة في أرضه ، ففي السويد مثلا ورغم كثرة غابات الأشجار فيها إلا أنهم يغرسون شجرة بدل كل شجرة تقطع . لكنها الفوضى الخلاقة التي أتت على كل شيء جميل في العراق .
أسواق البصرة تقادم بها الزمن ، وساحاتها تعرضت لتخريب متعمد وغير متعمد ، تعلوها أكوام من النفايات ، هي مثل أكوام النفايات التي شاهدتها في ساحات بغداد وأنا في طريقي الى بغداد الجديدة منها ...
إذا رغبت بشراء قنينة ماء من تلك الأسواق ثم سألت عن أفضلها ، قالوا لك : الماء السعودي أو الكويتي هو الأفضل ! عجيب أمر العراق صار لا يصنع الأفضل بل غابت الصناعة عنه ، فالمعامل معطلة ، مهملة ، ورجالها بين البطالة والرحيل ، وإذا كان حال الصناعة هو ذاك ، فحال الزراعة ليس أفضل منه في عراق اليوم ، فالريف قد هجره فلاحه بعد أن شحت مياهه ، وبعد أن عضه الجوع هناك ، فوجه وجهه صوب المدن ينشد لقمة العيش ، بائعا على رصيف ، أو سائق سيارة وهي المهن الأكثر انتشارا في عراق اليوم ... وعلام البقاء في ريف لا تتوفر فيه شروط الحياة المتوفر في المدن ؟ ولذا حين تود شراء ثمار الرقي أو البطيخ الأخضر كما يسميه أهل الشام أو الدلاع مثلما يطلق عليه في بلاد المغرب العربي ، قال لك البائع : هذا إيراني ، أو هذا سوري ، أما رقي الموصل فلا وجود له ، ولا وجود لرقي " إصلين " من البصرة كذلك ... كان هارون الرشيد قد اتخذ من مدينة الرقة في سورية مصيفا في بعض سنوات حكمه ، وكان عرب الشام يزرعون ثمار الرقي في تلك المدينة ، فهب العراقيون قديما الى زراعته في أرضهم ، ونسبوا اسمه الى مدينة الرقة التي عرفوه فيها ، ومن هنا قالوا عليه بطيخ رقي ثم اكتفوا بالصفة فقالوا : رقي .
لم تلفح وجهي ريح باردة ، وأنا عائد من البصرة الى مدينة النجف مرورا بالناصرية إلا بعد أن عبرت بنا السيارة جسر تتقاطع الطرق عنده بعيد مدينة الديوانية ، طوال ذلك الطريق كانت السيارة تسير بنا في صحراء قاحلة ... أهذه هي الأرض السواد التي عرفها العالم القديم ، فكيف أصبحت في العالم الجديد أرضا يبابا ؟ وا حسرتاه ثم وا حسرتاه !!
هبت علينا ريح باردة فجأة ، ونحن نعبر ذاك التقاطع ، عرفت حالا أننا نمر على أرض زراعية تصعد عليها سيقان القمح ، وهناك بعض أشجار لم أتبينها ، لكنها لا تبتعد كثيرا عن شجيرات الكروم ، مثلما هناك بعض من شتلات نخيل ناهضة ، شاهدت مثلها وأنا أقترب من ناحية الفهود في محافظة ذي قار ، وقد سرني ذلك المنظر أيما سرور .
تتفاقم في مدينة البصرة وغيرها من المدن التي زرتها مشكلة التسول والمتسولين خاصة الشابات من النساء على وجه الخصوص ، كن يعترضن أصحاب السيارات وهم يمرون في شوارع تلك المدينة ، وحين لاح مني استفهام عن هذه الظاهرة قال لي محدثي البصري : اعتقد أن هؤلاء من نساء الغجر مثلما يقول البعض ! ولكن أشكالهن تكذب ما يقولونه عنهن . رددت على محدثي .
في عراق اليوم تسحق البطالة الملايين من البشر نساء ورجالا ، فتحيل الكثير منهم الى متسولين رغم أنوفهم بعد أن تشح عليهم فرصة العمل ، فالفوضى الخلاقة خلقت شريحة اجتماعية غنية ، إن لم أقل طبقة ، تعلقت بأذيال المستعمرين الجدد ، وهذا الشريحة تمثلت بأصحاب الوظائف الكبيرة من وزراء وأعضاء برلمان ، وعسكريين برتب عالية ، وموظفين كبارا وصغارا ، يضاف الى هؤلاء التجار الكبار ، وبعض الكسبة الصغار ، حتى صار هؤلاء ينكرون الفقر الذي يستبد بالملايين من العراقيين ، وعادوا لا يشعرون أن هناك من العراقيين من يعيش على الفضلات الملقاة في مكبات النفايات خارج المدن .
مع كل ذلك تظل العواصف الترابية التي تجتاح المدن العراقية مشكلة حقيقة يعاني منها العراقيون اليوم ، ولا أنسى ما حييت تلك العاصفة التي ضربت مدينة كربلاء ، فصار الواحد منها لا يتبين طريقه على مدى خطوات قليلة ، وقد تستمر هذه العواصف لساعات طوال ، تنزل فيها حمولاتها من التراب على الطرقات والبيوت على حد سواء . ومن الطريف هنا أن أذكر أنني ما شاهدت طائرة تنوي الطيران وتخلف وراءها عاصفة من التراب إلا في مطار النجف ، حيث كانت كل طائرة تريد الصعود تترك وراءها مثل تلك العاصفة حتى لكأنها سيارة تسير على طريق ترابي ، والسبب في ذلك أن أرض المطار تغطيه الأتربة التي تحملها عواصف تهب بين حين وآخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو: الكوفية الفلسطينية تتحول لرمز دولي للتضامن مع المدنيي


.. مراسلنا يكشف تفاصيل المرحلة الرابعة من تصعيد الحوثيين ضد الس




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. برز ما ورد في الصحف والمواقع العالمية بشأن الحرب الإسرائيلية




.. غارات إسرائيلية على حي الجنينة في مدينة رفح