الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آن للفارس ان يترجل

الياس المدني

2004 / 10 / 31
القضية الفلسطينية


لم يكن مرض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والضجة الاعلامية التي رافقته شيئاً جديداٌ. فمن المعروف ان عرفات منذ عدة سنوات يعاني من مرض بار كينسون، اضافة إلى العديد من الامراض العادية المرافقة للانسان حينما يبلغ مرحلة من العمر، يصبح معها عاجزا عن التصرف مثل الانسان الشاب. وليس من الغريب ان يدعى الانسان الكبير العمر بالعجوز، وذلك انطلاقا من عجزه عن القيام ببعض المسائل.
ولأنني لست طبيبا فلن ادخل بتفاصيل الاعراض العديدة المرافقة لمرض باركنسون والتي تمنع الانسان عن القيام بنشاطات طبيعية جسدية ولا بتأثيرها على عملية التفكير المنطقي. ويقول الاطباء المختصون ان احد اهم الاسباب التي ادت الى هزيمة النازيين في الحرب العالمية الثانية هو مرض باركنسون الذي كان يعاني منه هتلر والذي اثر كثيرا على عملية التفكير المنطقي لديه مما ادى الى تخبط في العمليات العسكرية التي كان من المفروض ان يربحها النازيون فخسروها.
اما فيما يتعلق بالرئيس عرفات الذي بلغ الخامسة والسبعين من عمره والذي قضى اغلبها في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقوات الثورة الفلسطينية وقيادة فتح ثم رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية، فاعتقد انه حان الوقت ليتنحى عن هذه المناصب العديدة وان يفسح المجال للآخرين كي يقوموا بدورهم لخدمة القضية الفلسطينية واعتقد ان الشعب الفلسطيني كما يعترف عرفات ذاته لا ينقصه كوادر مؤهلة للقيام بهذه المهمات واجزم أنهم سيقومون بها بشكل افضل مما نراه اليوم في السياسة الفلسطينية (ان صح الكلام عن سياسة فلسطينية في هذه الايام).
ان مطلبي هذا ليس هجوما على عرفات رغم انني لست من انصار فكره وطريقة حكمه ولا اعتبر انني اضم صوتي الى عواء الذئاب التي تريد ان تنهش من لحم الرجل الضعيف. بل ابني مطلبي هذا على اسس موضوعية تأخذ بعين الاعتبار المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني التي قضى عرفات معظم حياته يطالب بها ويناضل من اجلها.
رجل الثورة ورجل الحكم:
مما لا شك فيه ان الشعب الفلسطيني وانا واحد منهم مدان لعرفات شخصيا بالكثير من الفضل على نضاله المستمر منذ خمسينات القرن الماضي الى اليوم. ولا يمكن لاي انسان موضوعي ان ينسى فضل هذا الانسان على ولادة الهوية الوطنية المستقلة للشعب الفلسطيني في اطارها العربي، ولا يمكن ان ننسى له دوره فيما اطلق عليه اسم فترة الثورة الرومانسية التي امتدت منذ معركة الكرامة عام 1968 حتى الخروج من بيروت، والتي كان احد اهم رموزها وابطالها العالميين الى جانب جيفارا وكاسترو.
ورغم الكثير من الاخطاء التي ارتكبها وارتكبتها قيادة منظمة التحرير وهي اخطاء تكتيكية، الا انه قاد زورق الثورة بحكمة في يحر مليء بالعواصف، اراد ان يوصله بامان الى مرفأ يدعى فلسطين. لكنه للاسف تاه في اهم المراحل والانعطافات، وبدل الوصول الى المرفأ المنشود وقفت سفينتنا على صخرة في البحر تتلاطمها الامواج العاتية.
هنا كان من المفروض على قبطان السفينة ان يتنحى عن قيادتها وان يترك الامر لمن هم اقدر منه على التعامل مع العواصف والرياح والصخور الواقعة تحت الماء. لكنه للاسف ارتكب الخطأ ذاته الذي ارتكبه قبله باعوام قليلة احد اهم رموز التاريخ الحديث الا وهو ليش فاليسيا (او ليخ فاونسا) زعيم حركة التضامن البولندية الذي ادى نضالها الطويل والمرير الى سقوط الحكم الاشتراكي ليس في بولندا وحسب انما في كل منطقة اوروبا الشرقية.

سقوط الاسطورة:
ففاونسا الرجل الاسطورة، الكهربائي شبه الامي العامل البسيط في حوض بناء السفن في مدينة غدانسك، كان واحد من آلاف العمال المستخدمين في هذا المصنع وواحد من ملايين العمال المضطهدين في المصانع الحكومية باسم الاشتراكية والثورة وما شابه. وبغض النظر عن الاسباب الحقيقية التي دفعت هذا الرجل الى قيادة حركة التضامن، الا انه اصبح رمز الحرية في كل اوروبا والعالم "الحر"، حتى اضحت حياته الشخصية محل اهتمام حكومات العالم من الساحة الحمراء حتى البيت الابيض مرورا ببرلين وباريس والفاتكان. ثم حصل على جائزة نوبل للسلام واصبح اسمه في فترة الثمانينات اشهر من نار على علم حتى في بلادنا العربية ودول امريكا اللاتينية وغيرها. حتى ان النكتة البولندية تقول انه حينما اجتمع مع الرئيس ريغان وعرضت التلفزة الامريكية مقاطع من اللقاء، اخذ المشاهدون الامريكيون يتساءلون بدهشة من هذا الرجل الضاحك الذي يقف الى جانب فاونسا (ريغان).
ولكن فاونسا الاسطورة بعد سقوط النظام الشيوعي في بولندا اصر على اسقاط نفسه بنفسه بسبب غباء مستشاريه. فقرروا ان يرشح هذا الرجل الامي الفظ والغليظ اللسان نفسه للانتخابات الرئاسية، فقام باول خطوة وهي تفريق معارضيه فسرّع من عملية الانشقاق في حركة التضامن للتولد منها مجموعة كبيرة جدا من الاحزاب على مبدأ فرق تسد، فاطاح بكل منافسيه في الانتخابات الرئاسية. غير ان سنوات رئاسته الاربع كشفت عورة هذا الانسان الذي كان يمثل اسطورة التضامن، واثبتت جهله بأبسط مبادئ السياسة والاقتصاد، فسقطت الاسطورة بضجيج كبير. اذا انه خسر الانتخابات الرئاسية التالية وحصل على ما يقارب 3 % من مجموع اصوات الناخبين في حين حصل منافسه مرشح اليسار والعضو السابق في الحكومات الشيوعية على ما يفوق 70% من الاصوات.
من هنا اتضح ان رجل الثورة وزعيم المعارضة ليس بالضرورة قادر على ان يكون قائدا فعليا لدولة حيث القوانين والانظمة والتشريعات وحتى الاقوال والتصريحات تلعب دورا اساسيا في الحكم. فلم يتعلم فاونسا من درس مؤسس الدولة البولندية في سنوات العشرينات المارشال يوسف بوسودسكي الذي اعتزل الحكم بعد قيام الدولة ليكون حكما وقاضيا في اهم المسائل بين كل الاحزاب وليكون الحاكم الفعلي ولكن من وراء الحجاب.
هذا الدرس ايضا لم يدركه الرئيس عرفات. ولم يتعلم ان القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية والرمز الرومانسي لكل اماني الشعب الفلسطيني لا يمكن بالضرورة ان يكون رئيسا قادرا على ادارة شؤون الدولة. فالدولة ليس الثورة، والشعب ليس وحدة عسكرية يتحرك بامر حزبي او عسكري. فكان ما رأينا ونحن شهود له من تخبط في السياسة الفلسطينية بدءا من العدوان العراقي على الكويت مرورا باوسلو وصولا الى قيام الحكم الذاتي الفلسطيني وتزعم عرفات لكل السلطات الممكنة في منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية انتهاءا بغياب السياسة الفلسطينية لتصبح فقط سياسة رد الفعل القاصر عن التأثير على مجرى الاحداث.
تختلف الظروف اليوم اختلافا جوهريا عن الظروف التي كانت سائدة بعد معركة الكرامة او حتى بعد معركة بيروت. حتى عرفات ذاته ليس ابو عمار الرجل الشاب النشيط القادر على التصرف والخروج من اقصى المحن. ليس الانسان الذي قاد شعبه عبر كل المنعطفات ليخرج بهم الى الطريق الصحيح. انه اليوم ابو عمار الاسطورة التاريخية، انه شبح ما كان يمثله هذا الرجل الكبير عبر تاريخه المجيد. فقيادته للسلطة الوطنية الفلسطينية - ناهيك عن الظروف الخارجية الغير مناسبة – اثبتت فشله في قيادة الدولة، واصبح رهينة سيطرته على صراع السلطة بين اعوانه واقرب المقربين اليه. فهل هذا ما نريده نحن الفلسطينيون؟ هل نريد ان تسقط الاسطورة التاريخية التي قادت نضال شعبنا منذ ما يقارب الاربعين عاما؟ هل نريد ان نذكر اسم عرفات ونشعر بالفخر بالانتماء الفلسطيني ام نريد ان نلعن اليوم الذي تسلم فيه رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية؟
اعقد ان الرئيس عرفات يستحق كل التقدير ويستحق كل الوفاء، فمن باب الوفاء له ومن باب الوفاء لتاريخه وتاريخ نضاله يجب علينا الا نحمله اكثر مما يحتمل اليوم. من حقه علينا ان نحافظ علي الاسطورة العظيمة التي اعادت للهوية الفلسطينية معناها الحقيقي. فاذا كانت الشعوب تبنى المتاحف لعرض تاريخها فمن واجبنا اتجاه ابو عمار ان نحافظ عليه اسطورة حية لامعة ومشرقة في تاريخ نضالنا الطويل. وان نجعل ذكراه تجلب الى انفسنا الفخر والاباء وليس الغضب على سياسته المتخبطة والتي لا تؤدي الا الى نظام حكم ديكتاتوري شبيه بالانظمة العربية الاخرى.
ان المطالبة باعفاء عرفات من مناصبه الرسمية تعني المطالبة بالحفاظ على التراث العظيم الذي خصص له جل حياته، ليصبح الحكم والقاضي ليصبح كبير القوم وليصبح ختيار العائلة. بعد هذه السنوات الطويلة من النضال وبعد تكالب الامراض عليه من حقنا اليوم ان نقول بأنه آن لهذا الفارس ان يترجل. آن له ان يسلم الراية لمن هو قادر على رفعها عاليا. ان حبنا لعرفات لا يجب ان يغيب حبنا للقضية التي أفنى حياته من اجلها. فالانسان يحيى ويموت ولا تبقى في الذاكرة الا الاساطير العظيمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. باريس سان جرمان يأمل بتخطي دورتموند ومبابي يحلم بـ-وداع- مثا


.. غزة.. حركة حماس توافق على مقترح مصري قطري لوقف إطلاق النار




.. لوموند: -الأصوات المتضامنة مع غزة مكممة في مصر- • فرانس 24 /


.. الجيش الإسرائيلي يدعو إلى إخلاء -فوري- لأحياء شرق رفح.. ما ر




.. فرنسا - الصين: ما الذي تنتظره باريس من شي جينبينغ؟