الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي

عبدالباسط سيدا

2004 / 10 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


ضرورة التزام القطيعة مع الذهنية الخرافية:


وما نعنيه بهذه الأخيرة هو النزوع إلى تفسير الظواهر والأحداث بأسباب تتماهى مع الرغبات غير المشبعة، والهواجس المزمنة، فضلا عن التوجهات الانفعالية التي تحكمها عقد التسلط والاستعلاء والانغلاق.

أما الواقع العياني بتنوعه وتباينانه، بثرائه وتفصيلاته، فيبقى بعيداً عن التحليل الموضوعي العلمي الذي من شأنه الإسهام في عملية تحديد ابعاده وفهم آلياته، الأمر الذي يجعل التفاعل ممكناً حيوياً، لامنفعلاً مسدود الآفاق كما هو عليه الحال راهناً.

إن ذهنية من هذا القبيل تكتفي بجهودها التفسيرية الذاتية غير المتواصلة مع الوقائع، بل انها تسعى من أجل تطويع هذه الأخيرة كي تغدو في خيالها موائمة لشطحات اللامعقول، بغض النظر عن ألوانها وأسمائها، أو هوية مروجيها. إن هذه الذهنية بدلا من أن تُخرج رأسها للعصر تخرج هذا الأخير منه، فتعيش لحظة عدمية رهيبة مؤرقة، تجتازها بانزوائها على ذاتها، مستعينة بأحلام وتمنيات الفردوسين، المفقود الغائب والموعود الآتي......

أما الأدوات التي تعتمد في إطار هذه الذهنية فهي تتمثّل بصورة أساسية في الشعارات الهلامية غير المقرونة بالافعال والأحكام المسبقة التي أفرزتها استدلالات فاسدة، ومخاوف ناجمة عن غرائز ضالّة أو مضللّة. هذا إلى جانب الايحاءات التبشيرية التي توظف الحاجات، وتستثمر الطموحات المشروعة في الاتجاه النقيض. ومنعا لأي سوء تفسير، ودفعا لأي التباس قد يتمترس خلفه أحدهم، نرى أهمية تأكيد واقعة خلاصتها ان الذهنية الخرافية المعاصرة هذه لاتمثّل طبعا أصيلا يجسّد توجهات العربي وتطلعاته، بل انها تعد في حقيقة الأمر حصيلة الجهود المستمرة المتشابكة التي بذلتها وتبذلها المؤسسات السياسية العربية على مختلف المستويات بغرض فرض الهيمنة، وتعزيزها من خلال سلب الناس المقدرة على التفكير النقدي الحر الذي من شأنه تفعيل الإرادة، وتعزيز الثقة بالنفس، وهذا مؤداه التمرد على الخنوع، والالحاف على الحقوق التي بها ومن أجلها تسن الواجبات وتنجز. وللمصادرة على ذلك كله، كان السعي الحثيث دائما من جانب المؤسسة السياسية هو إفراغ الجهد الثقافي من قدرته التفعيلية بين الناس. وقد تراوحت الأدوات هنا بين شراء الذمم والحجز على الحريات الشخصية، بل انها امتدت أحيانا إلى التصفية بسائر معانيها.

وما نجم عن ذلك تمثّل في توزّع المثقفين بين مجموعات متعارضة متباينة المواقع والرؤى. فمنهم من ربط مصيره تماما بالمؤسسة الحاكمة، والتزم دور الاعلامي لديها، يتستّر على نواقصها، ويعمل من أجل اضفاء المساحيق على مثالبها. ومنهم من نأى بنفسه قليلاً عن المؤسسة المعنية رغبة في احترام الذات، إلا أنه لم يتمكّن من تجاوز حدود المنظومة المفهومية الرسمية المفروضة، فيظل يتنقّل ضمن دائرة المباح، يكتفي بالاحكام النقدية العامة التي لاتخصص عادة إلى الحد الذي قد تثار بموجبه شكوك المسؤولين. بل انها تكون أحيانا مادة مفيدة في إطار لعبة التضليل التي ربما أوحت - كما أسلفنا في موضع سالف- للآخرين بامكانية تحمل الراي المخالف المعارض، مادام هذا الأخير يتحرك ضمن الفسحة المتاحة، يسير وفق مشئية أولي الأمر، خاصة المخفيين منهم....

وبين هؤلاء وأولئك اختار القسم الأكبر من المثقفين الصمت غير المسوّغ، وذلك تحاشيا لتبعات الاصطدام مع المؤسسة السياسية من ناحية، وعدم الرغبة في اجترار خزعبلات ومزاعم لم تعد بالنسبة لها تحظى بأية قيمة أو جاذبية من ناحية ثانية. وفي خضم التفاعلات الدراماتيكية التي تعصف بالتاريخ والجغرافيا من سائر النواحي، يلوذ هؤلاء بالعمل الأكاديمي الذي لم يعد يمتلك من دلالالته سوى الاسم في ظل أنظمة شمولية أفرغت الألقاب الجامعية من محتواها، فباتت في منظور العديد من المسؤولين مجرد شارات للتباهي والتفاخر، تضاف إلى النياشين الأخرى، علّها تمنح أصحابها هيبة اضافية تكون وسيلة لاستجرار المزيد من المنافع الشخصية. كما ان قسما آخر من الأكثرية الصامتة هذه يركن إلى موقف عدم الاكتراث بما يجري أو يقال. وعند الضرورة يكتفي هؤلاء بآراء ضبابية شمولية، تفصح عن كل شيء وتسكت عن كل شيء في الوقت عينه. وكل ذلك يساهم في تعزيز مواقع المتحكمين بمفاتيح اللعبة الذين تمكنوا من احداث شرخ عميق بين الناس والعمل السياسي، سواء الرسمي منه أو المعارض بأسمائه المختلفة. كما انهم أفقدوا المجتمع مؤسساته الفاعلة التي كان من شأنها أن تكون المحاور التي تتمفصل حولها الأنشطة العامة، أنشطة في مقدورها بلورة مواقف تعبّر بصدق عن حاجات الناس وتطلعاتهم.

إلا أنه على الرغم من جميع التدابير التي يقدم عليها امراء الظلام لاسكات الطيور المغرّدة خارج الأسراب المدّجنة، يلاحظ في الآونة الأخيرة ظهور أصوات مؤثرة تطالب بضرورة التمعن في الأسباب الحقيقية، وليست الوهمية، المختلفة لحالة الانسداد التام لجميع الآفاق التي نعاني جميعا من وطأة تداعياتها على مختلف المستويات. لكن المشكلة تتمثل هنا في واقعة أن تلك الأصوات لم تصبح بعد ظاهرة عامة لها مكانتها المؤثرة في الخارطة الثقافية العربية. إلا أنها على الرغم من ذلك تعد بمثابة بواكير نهضة منشودة، تتحقق عبر القطع الصارم مع أسباب التخلف الذاتية أولا. ولإنجاز مهمام عملية كبرى من هذا القبيل لابدّ من التمعّن مليّا في تاريخ الشعوب التي عانت قبلنا من أوضاع مماثلة، وتعرضت لهزائم كبرى، خلخلت كياناتها ومنظوماتها المفهومية من الأعماق. لكنها تمكنه في مرحلة قياسية من نفي واقع الضعف باعتماده مدخلا لازدهار عام، مكّنها من الاسهام الفاعل في الحضارة الانسانية من جديد. إننا إذا تأملنا في واقع التجربة اليابانية على سبيل المثال، سنرى أن الخطوة الأولى في النهضة اليابانية تجسّدت في الاعتراف العلني والصريح بالهزيمة على المستويين الرسمي والشعبي. لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، بل امتد ليشمل عملية البحث عن أسباب التردي وعوامل النهوض. وكان الحسم الذي اقتضى بضرورة القطيعة الفعلية مع السلبيات السالفة التي تمثلت في توجهات وممارسات لم تكن تنسجم مع الواقع الياباني في سياق التطورات الاقليمية والدولية وتفاعلاتها. وكان التركيز على ضرورة النهوض بالوطن لصالح جميع مواطنيه الأحرار. وقد تحقق هذا الهدف بفضل جهود جماعية مخلصة جبارة، كان المواطن الياباني بالنسبة لها هو المحور الهدف.

أما إذا انتقلنا إلى الحالة التي نعيشها نحن في مجتمعاتنا فسنجد أن بونا شاسعا مازال يفصل بيننا وبين مجرد امكانية الحديث عن بدايات واعدة. فالنظام الرسمي العربي هو في حقيقة الأمر نظام مفروض بناء على توافقات اقليمية دولية. وهو بهذا المعنى يمثّل الداء لاالدواء، يستمد قوته من الخارج لا الداخل. نظام اخفق على الصعيد الواقعي لا الدعائي في جميع مهامه الوطنية. سواء ما يتصل منها بالتنمية والضمان الاجتماعي و الديمقراطية. أو ما يخص التحرير والتوحيد وغيرهما من الشعارات الكبرى التي باتت في منظور الناس مجرد تعاويذ سحرية ترافق تلك الطقوس التي تشهدها مهرجانات المبايعة والتأبيد.

ومن الطبيعي أن يجد نظام كهذا في أية عملية اصلاحية حقيقية بدايات نهايته، لذلك سيسعى - كما سعى دائما - من أجل التزيين والتضليل وشراء الذمم. وسيكون على استعداد تام - كما كان دائما – لاستباحة سائر المحظورات الروحية منها والمادية. وذلك من أجل كم الأفواه، واجبار الناس على الاحتفاظ بالنير فوق رقابهم، والسير وفق الخطوط المرسومة. لكن المفارقة الكبرى التي تواجهنا هنا تتشخّص في موقف القوى المعارضة التي لم تحزم أمرها بعد. فهي تطالب من ناحية بالتغيير الايجابي. وما يستشف من خطابها في هذا الاتجاه هو أنها لاتنتظر خيرا من الحلول الترقيعية التلفيقية التي تضلل وتفرق. لكنها من ناحية ثانية لاتستطيع الانعتاق من ربقة المؤسسة الرسمية. فهي ما زالت تعتمد أدواتها المفهومية، أو ما زالت تبحث عن عوامل التخلف بعيدا عن مكامنها، بل انها ما زالت تراهن على حسن نوايا الحاكم التي لم تجد طريقها التي التنفيذ...... وفي مناخ كهذا يكون مصير الناس هو الضياع نتيجة اختلاط الجهات والمرامي والدلالات. وما يزيد من حدة مأساة هؤلاء هو انعدام الادوات المساعدة التي من شأنها تحديد الأبعاد والأليات، والتمييز بين الأوهام - سواء القصدية منها أو العفوية – والوقائع.

إن المهمة التي لاتقبل الإرجاء في راهننا المأزوم بالنسبة إلى المعارضة بمفهومها العام الذي يشمل المعارضة السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، تتجسّد في ضرورة القطع مع الذهنية الخرافية التي هي أصلا أداة من أدوات استمرارية الأوضاع غير السوية. وعملية من هذا القبيل تقتضي الجرأة بأوسع معانيها. وذلك سواء مع الذات أو في مواجهة الآخر المتسلّط في الداخل والخارج. أما أن يتستّر المرء بعباءة السلطان الداخلي اعتقادا منه أن ذلك يمكّنه من اتقاء شر المتربص الخارجي، فهذا فحواه أن ديمومة التخلف العام بأسمائه وابعاده الكثيرة ستكون الحصيلة، وذلك مهما اجتهد وتفنن أصحاب التحليلات والتأويلات التي تثبت القرائن العيانية تباعاً خلوها من أي مضمون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن.. دعم صريح للجيش ومساندة خفية للدعم


.. رياض منصور: تغمرنا السعادة بمظاهرات الجامعات الأمريكية.. ماذ




.. استمرار موجة الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين في الجامعات


.. هدنة غزة.. ما هو مقترح إسرائيل الذي أشاد به بلينكن؟




.. مراسل الجزيرة: استشهاد طفلين بقصف إسرائيلي على مخيم الشابورة