الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نشأة الرأسمالية الاميركية ومحو الآخر (قراءة في العدو الرئيسي وما يجب ان يعرفه كل عربي)

مسعد عربيد

2011 / 5 / 14
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


مقدمة
في فهم"اميركا" وطمس البعد الطبقي
لقد أكدت إنتفاضات الشعوب العربية التي إجتاحت الوطن العربي في الاشهر الاخيرة، وفي مصر وتونس على وجه الخصوص، اننا لم نمسك بعد بالفهم الجذري لطبيعة وخطورة الثورة المضادة وقوى معسكر الاعداء، واننا لم ندرك بعد ان الراسمالية ـ الامبريالية الاميركية هي "رأس الافعى" والعدو الرئيسي الاكبر.
لم تعد التعميمات والمسميات الفضفاضة تفي بتشخيص المرحلة بالدقة المطلوبة، ولم يعد كافياً ان نقول "الغرب الراسمالي"، إلاّ اذا طورنا الوعي الشعبي والادراك العميق بان الولايات المتحدة هي زعيمته وصاحبة القرار فيه، أما الآخرون من مكونات هذا الغرب فهم "مكونات ثانوية"، صغيرة كانت أم كبيرة، ومهما على صوتها أوخفت، فانها تظل، من دون إستثناء، تأتمر بالامر والنهي الاميركيين.
ولعل الحالة الليبية هي الاكثر تعبيراً عن هذا الخلل: ففي وجه البطش الدموي للنظام الديكتاتوري، وجدنا الحجة والذريعة لطلب "النجدة" من الغرب وصدقنا نواياه ووعوده بانه سيبقى محلقاً في سماء ليبيا يمطر قوات القذافي قصفا ليردها عن قتل المدنيين الابرياء (ما سُمي في تسعينات القرن الماضي بالامبريالية الانسانية)، بل صدقنا اوباما الذي لا يصدقه حتى اكثر الاميركيين بلاهة بان بلاده لن تسمح بالتدخل البري في ليبيا. وفي الماضي قالت العرب: رب غدٍ لناظره قريب.
هذا هو بايجاز شديد ومؤلم مشهد البشرية في مطلع الالفية الثالثة حيث تقف في مواجهة شاملة مع العدو الرئيسي: الامبريالية الاميركية زعيمة الغرب الراسمالي. وما عدا ذلك فهو إما فيض من الثرثرة في الهوامش والتفاصيل او هراء مهين للعقل والمنطق. ولعل حالتنا العربية هي الاكثر فداحة ودموية.
لكن أن نبقى في مواقع التعامي والتجاهل عن هذه الحقائق ، او مراوحين بين الخوف والتردد، او المواربة والتزلف، فهذا يعني واحداً من أمرين، وكلاهما كارثة:
1) اننا ما زلنا نرزح تحت عبء إنكار الواقع القائم والجهل بالتاريخ، وتاريخ اميركا على وجه الخصوص، والتعامي عن قراءة وقائعه والإتعاظ بعبره ودروسه. وهو تاريخ امتد على مدى حروب اميركية لما ينوف عن نصف قرن، منذ الحرب العالمية الثانية، حروب حرقت الاخضر واليابس واودت بحياة ما يقارب 15 مليونا من الارواح البريئة.
2) أو ان بيننا من العملاء والخونة، العلنيين والمندسين على حدٍ سواء، ما لا ندركه وما لم نقوى على تداركه وتفادية: عملاء وخونة يمتدون على المساحة المجتمعية باسرها (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى مستويات الحياة اليومية). ولعل الأدهى والأكثر خطورة هم المثقفون والكتاب والمفكرون من صنّاع الوعي الشعبي وأصحاب الفكر والرؤية وقادة حراك الجماهير ونضالها.
هما خياران "أحلاهما مر" بل، والادق، ان كليهما قاتلان للثورة الشعبية وحراك الجماهير وحركة التاريخ.
ليس في هذا التحليل تقليل للتضحيات التي قدمتها الجماهير العربية بل دفاع مستميت عن الانجازات العظيمة التي حققتها والتي هزت العالم والتاريخ وأودت بحقبة كاملة منه الى غير عودة. وليس فيه أي إستخفاف بجسامة المهام، العاجلة والمؤجلة، والتحديات التي ما زالت تواجهنا.
* * *
قد تبدو هذه المقدمة بعيدة عن عنوان وموضوع الدراسة، إلا انها كانت ضرورية لتجليس القضايا التي تتناولها في سياقها الموضوعي، والتي تتمحور جوهرياً، حول النقاط التالية:
أولا: ان الامبريالية الاميركية، بنظامها الراسمالي، تشكل التناقض الرئيسي الذي يواجه البشرية في عصرنا كما يواجه الشعب الاميركي ذاته، وتمثل أكبر وأخطر التحديات التي تقف امام حرية الانسان وانعتاقه. وعليه، فان اميركا، الراسمالية ـ الامبريالية، تصبح العدو الرئيس للانسانية. وبهذا المعنى، فهي أيضاً العدو الرئيسي والمركزي للشعوب العربية، وما عداها من أعداء وهم كثر، ثانويون يندرجون بعدها في قائمة معسكر الاعداء واولويات المهام النضالية.
ثانيا: لم يكن يتسنى لاميركا ان تبسط هيمنتها على شعوبنا وشعوب العالم بما تملكه من اسحلة التدمير والقتل وتكنولوجيا الحروب وحسب، بل، وبما لا يقل اهمية، بما تملكه من قدرة على تزييف حقيقتها وتاريخها وإختلاق "صورة جميلة" عن ذاتها فبركتها بحنكة ودهاء قل نظيرهما وأوهمت العالم بها وأوقعته في شرك تصديقها.
وواقعنا العربي خير دليل على ذلك. فعلى الرغم من اننا وعلى مدى عقود طويلة، كنا وما زلنا الهدف الاول والرئيسي للسياسة والاستراتيجية الاميركيتين، وبالرغم من كافة اشكال الهيمنة الاميركية على مقاليد الامور في بلادنا ونهب مواردنا واحتلال اوطاننا، بالرغم من هذا كله، ما زال الكثيرون منا يقفون مفتونين امام هذه اللوحة الجميلة المسماة "اميركا".
ثالثا: يقع كثيرون، في نظرتهم الى اميركا، في ثنائية الداخل والخارج الاميركي والفصل بينهما، وكذلك في الفصل بين حاضر اميركا "الجميل" وماضيها الدموي وهو فصل قسري لاتاريخي رغم نجاح اميركا في إختلاقة وإيهام الدنيا بمصداقيته. بعبارة اخرى، تعمد هذه النظرة، القاصرة والمبتورة من جذورها الى اقحامنا في أمرين:
أ) ان الداخل الاميركي وما يسوده من أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وما يحتدم فيه من توترات وتناقضات وأزمات، تعود في مجملها الى ازمات اجتماعية وتعقيدات التمييز العنصري والعرقي او مشاكل دينية واخلاقية، وكلها معقدة ومستعصية بدون شك، وذلك بمعزل عن الاسباب والعوامل الطبقية والتي هي وراء هذه الاوضاع.
ب) ان الحراك الخارجي الاميركي (السياسات والاستراتيجيات الامبريالية) الذي ينزع نحو الهيمنة الكونية والعولمة الاقتصادية والثقافية وتسخيرها لخدمة مصالح راس المال الاميركي، منفصل عن الداخل الاميركي واوضاعه ومصالح الطبقة الحاكمة في اميركا. وينطبق هذا المنطق العاجز ذاته على الانفصام الحاصل بين حاضر اميركا وتاريخها الدموي الذي تم طمسه تدريجياً وعلى نحو ممنهج حتى انتهى الى عالم النسيان.
رابعاً: تظل هذه النظرة قاصرة عن صياغة فهم مادي وموضوعي "لاميركا" ـ كظاهرة تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية وكقوة امبريالية عسكرية وتكنولوجية ـ تهدد أمن العالم ومصير الانسان ومستقبل البيئة. هي نظرة تتسم بالقصور النظري احياناً والمكر المتعمد احياناً اخرى، تودي بنا في التحليل النهائي الى:
أ) انها تغفل حقائق تاريخية هامة وتحديداً فيما يتعلق بنشأة الراسمالية الاميركية (وما انتجته من هيمنة اقتصادية وعسكرية وثقافية معولمة)، وبناء "اميركا" كدولة ومجتمع وتعزو الفضل في ذلك الى الرجل الابيض في تجاهل مقصود ومغرق في عنصريته لدور الآخر في بنائها (الابادة العرقي الجماعية للهنود الاصلانيين واستحضار الافارقة واستعبادهم كعاملين اساسيين في بناء الراسمالية الاميركية ومن ثَمّ للدولة الاميركية عام 1776 ). والحقيقة انه من دون فهم هذه الوقائع التاريخية، فانه لا يتسنى فهم الحاضر الاميركي وطبيعة القوى الطبقية المهيمنة عليه وآليات عملها وما ينضح به من اتجاهات مستقبلية.
ب) طمس العامل الطبقي والمصالح الطبقية ـ المحرك الرئيسي للسياسة الاميركية الداخلية والخارجية ـ ودورها في فهم اميركا وتفسير سياساتها على كافة الاصعدة (الداخلي والخارجي، الحاضر والماضي)، وإلهائنا بالتركيز على العوامل الاجتماعية، على أهيمتها، (وخصوصاً التمييز العرقي والعنصري) والاوضاع الاقتصادية ("الازمة العابرة والتي ستجتازها اميركا بلا شك ودون عناء وبلا شك" كما يدعي ابواق النظام) في تفسير اميركا كسياسة وكظاهرة وكقوة ضاربة.
* * *
ملاحظات منهجية
لماذا "اميركا"؟
أستخدم لفظة "اميركا" في سياق هذه الدراسة بمعناها الفضفاض. فـ " اميركا " هي الولايات المتحدة الاميركية بالمدلول الجغرافي والدبلوماسي والسياسي، ولكنني أضمن مفردة اميركا ايضاً العديد من الجوانب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية التي تحتل جزءاً هاماً من هذه الدراسة. كما انني احرص ألاّ تغيب عن ذهن القارىء الابعاد الاعلامية والايديولوجية والتلقينية والبروباغندية لاميركا والتي تقع في صلب "اميركا" والتي تعولمت الى حد يصعب معه تقدير مخاطرها ومؤثراتها. كيف لا وقد دخلت "اميركا" وصورتها المعولمة بيوتنا وغرف نومنا، وتخللت أحاديثنا ، واحتلت ساعات طويلة من مشاهدة التلفاز وقراءة الصحف وجلسات موائد الطعام وليالي السمر. لهذا كله، آثرت استخدام مفردة "اميركا" مع ادراكي لما فيها من تجاوزات علمية واكاديمية.
مهما ابدينا من التوضيح والاحتراز، فان الكثيرين سيجدون في هذه التسمية وما تتضمنه هذه الدراسة من آراء تحاملاً على اميركا والاميركيين وقسوة في الحكم عليها وإفراطا في تحميلها هذا القدر من المسؤولية المادية والتاريخية. وفي الرد على هؤلاء، لا يسعنا إلا ان نحيلهم الى قراءة الوقائع المادية الماثلة في كل انحاء العالم بعيون موضوعية تتوخى الحقيقة والى ما ينطق به حاضر اميركا وماضيها، وكلها امور في متناول الجميع ولم تعد خافية على أحد.
* * *
ليس القصد من هذه الدرسة العودة الى التاريخ السحيق، ولا التباكي على دماء الهنود الاصلانيين التي سفكها الاوروبيون البيض من اجل الاستيلاء على اميركا الشمالية، على جسامة هذه الضحايا، أو من باب الحنين الرومانسي الى الماضي. بل ان الغرض هو التأكيد على ان "اميركا" وتاريخها بحاجة ماسة وعاجلة الى دراسة واهتمام كبيرين وخصوصاً في الوطن العربي من اجل إماطة اللثام عن حقيقة وبشاعة "اللوحة الجميلة" المسماة "اميركا" التي قدمها اصحابها للعالم بكل ما لديها من قدرات التكنولوجيا والثورة المعلوماتية. لكن هذا لا يتسنى لنا من دون تعرية تزييف الاوروبي ـ الاميركي الابيض للتاريخ والرد على إدعاءاتهم الكاذبة وتفنيد المقولات التي حذق في إختلاقها وتكرراها وتلقينها للاجيال الناشئة من ابنائه وخداع العالم بها من خلال آلياته الاعلامية والايديولوجية الفتاكة. وعليه، فلن نعمد هنا الى شرح ما حدث، بل البحث في الاسباب والدوافع والقوى المحركة لتلك التطورات التاريخية.
وقد اخترنا اكثر الحقبات دموية في التاريخ الاميركي والتي تشمل البدايات المبكرة لنشأة الراسمالية الاميركية التي إقتضت بالضرورة إبادة السكان الاصليين كي ندلل على ان محو الآخر، بما في ذلك من نهب للموارد وإبادة جسدية وحضارية ، هي في صلب العقيدة الراسمالية الاميركية منذ ان وطئ المستوطنون الاوائل شواطئ اميركا الشمالية. وعليه، فان ما نشهده اليوم من وحشية الامبريالية الاميركية في بلادنا وغيرها من بقاع الارض، ليس امراً مستحدثاً بل هو متأصل في التاريخ والسياسة الاميركية.
التراكم: المحرك الرئيسي للراسمالية
يشكل التراكم الراسمالي محركاً رئيسياً، إن لم يكن الرئيسي، للراسمالية الاميركية وتاريخها المعاصر. وعلى خلاف ما يدعي مروجو الراسمالية من ان هذا التراكم جلب الرخاء والوفرة للناس وخلق "المجتمع الاميركي السعيد"، فانه بمآله الطبيعي يتسبب في انعدام المساواة والتكافؤ بين الناس اللذين يشكلان سمة اساسية وبنيوية للراسمالية. وهذا يؤدي، في مجمل تداعياته وآثارة على الانسان والمجتمع، الى فوارق طبقية واجتماعية واقتصادية لا تفتأ تتعاظم لتتحول الى تناقضات تناحرية لا تحسم الا بتصفية احد طرفي الصراع للآخر.
تكمن احدى الخصوصيات الرئيسية للتراكم الراسمالي في اميركا في انه لم يكن حصيلة التطور الطبيعي للتشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية في سياقها التاريخي. لان الكيان الاستيطاني الاوروبي الابيض في اميركا الشمالية والذي سُمي فيما بعد الولايات المتحدة الاميركية لم يكن استمراراً اجتماعياً طبيعياً ولا امتداداً تاريخياً للمجتمع الذي كان قائما ومزدهراً قبله: التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية للهنود الاصلانيين. وبالمنطق ذاته، فان الرخاء الذي ينعم به المواطن الاميركي اليوم في ما يسموه "دولة الرفاه" لم يتأتى حصيلة الانتاج القومي الاميركي ولم يقم على سواعد الاميركيين البيض بل على إبادة واستغلال الملايين من الهنود والسود في العملية الاستيطانية والانتاجية في اميركا من جهة، وعلى نهب ثروات وموارد شعوب العالم الثالث لعقود طويلة، من جهة اخرى.
لقد شكل الافارقة، الذين إستحضرهم الاوروبي الابيض الى شواطئ اميركا الشمالية المادة البشرية والفعل الاساسي لأكبر وأسرع عملية تراكم راسمالي (الراسمالية الاميركية) في التاريخ البشري. وقبل إستحضار العبودية الى اميركا الشمالية كانت إبادة الهنود الاصلانيين قد شكلت الاساس المادي لهذه الراسمالية وما حققته من تراكم فيما بعد: إغتصاب الارض واستغلال الهنود والعبيد في العملية الانتاحية (الاقتصادية) الاميركية. أما المفارقة المؤلمة فتكمن في ان هؤلاء الهنود الاصلانيين والسود الافارقة اللذين وفروا المقدمة المادية والتاريخية لنشأة الراسمالية الاميركية، كانوا في الآن ذاته ضحيتها الاولى والكبرى. وهي ولإن كانت مفارقة، إلا انها يجب ألا تثير استغراب او فضول أحد لانها في تناغم تام مع طبيعة راس المال كنظام شمولي في بطشه وظلمه واستغلاله.
تلك هي، من دون مواربة وببساطة قد تبدو مذهلة، قصة "اميركا" وحقيقة ولادتها، وهذا هو منطق راس المال وطبيعة تناقضاته البنيوية والنتيجة الحتمية التي يؤول اليها.
سنخص الهنود الاصلانيين في هذه الدراسة، لا من باب التقليل من دورالسود الافارقة في بناء الدولة الاميركية، بل للكشف عن الحقبة المبكرة من نشوء "اميركا" قبل استحضار الافارقة اليها وهي الحقبة التي عمد مثقفو ومؤرخو البرجوازية الاميركية الى تزييفها وطمسها بكل خساسة وإزدراء بالامانة العلمية والاكاديمية والتاريخية، كي يفرشوا الطريق ل"منظومتهم" من المفاهيم والقيم منتحلين الفضل فيها الى المركزانية الاوروبية ـ الاميركية والحضارة الغربية.
الابيض والآخر
اتسمت علاقة الاوروبيين البيض بالهنود الاصلانيين منذ البدء بمبدأ "الإخضاع" الذي فرضه الابيض على اساس الاستغلال الطبقي والفوقية العرقية (التمييز العرقي والعنصري)، وهو ما زال يحكم علاقة الاوروبي الابيض بالآخر، أي بغير الابيض، حتى يومنا هذا. فمنذ ان حط الغزاة الاسبانيون الاوائل اقدامهم على السواحل الاميركية، أبدى البيض الاوروبيون (الانكليز والفرنسيون والهولنديون والبرتغاليون ولاحقاً الاميركيون) كل اشكال العداء للهنود، سكان البلاد الاصليين. وقد انطلق هذا العداء على اساس العرق ولون البشرة وتفوق البيض وأفضليتهم، وانه ليس لهؤلاء الهنود اية حقوق، بل والابعد من ذلك وهو ان الرجل الابيض له الحق، بحكم انحداره من العرق الابيض بالنسل والولادة، في إذلال الهندي وإخضاعة لسيطرته واستغلاله لمصلحته. إلاّ ان هذا العداء، والذي كثيراً ما اتخذ مظاهر العرقية والكراهية المفرطة، يجب ألاّ يخفي الطابع الطبقي (المصالح الطبقية) المتأصل في علاقة الراسمالي الابيض بالآخر.
نخلص الى ان علاقة الاوروبي الابيض (لاحقاً الاميركي) بالهندي الاصلاني والاسود الاميركيين، إتسمت في كل محطة من محطات التاريخ الاميركي ـ منذ قدوم المستوطنين الاوروبيين الاوائل الى يومنا هذا ـ باشكال مختلفة من الفوارق العميقة والتناقضات والصراعات. ففي كل مجالات التقدم والازدهار التي احرزها الابيض في حياته وحرياته ورفاهيته ومستواه المعيشي والاقتصادي، دفع ثمنها الهنود والسود (مع اختلاف الحقبة التاريخية وحيثياتها بين الاثنين) من شغلهم وعرقهم وحريتهم بل ومن ارضهم وحياتهم ووجودهم. وكل إثراء للابيض جاء على حساب إفقار الآخريْن. وكذلك كان الامر في كل سلطة سياسية وقوة اقتصادية واجتماعية حققها الابيض، نجد انها قامت على حساب السود والهنود وخسارتهما للسلطة ومواقع القوة. بكلمة، كل ثراء للقلة في الولايات المتحدة وزيادة في دخلها أتى في الاصل والمصدر، وما زال، من إفقار الاغلبية.
* * *
مناقشة في بعض الادعاءات الاميركية الكاذبة
سأعمد في الصفحات التالية الى مناقشة بعض الادعاءات التي استطاعت "اميركا" ان تروج لها، وقد نجحت في هذا الى حدٍ بعيد. وتكمن اهمية هذه المحاججة في القيمة الاكاديمية او التاريخية المحضة، بل في تعرية التزييف الايديولوجي الراسمالي لحقائق التاريخ والمجتمع في اميركا، وتقديم هذه التجربة "الفريدة" المسماة "اميركا" على انها هبة الخالق لهذا العالم المنكوب، وفي هذه التجربة "المذهلة" ستعثر الشعوب على الحلول لكافة مآسي البشرية وعلى البديل الافضل والأمثل لما انتجه الانسان من حضارات وثقافات ومعرفة.
سأحاجج في بعض القضايا والتي يمكن ايجازها في العناوين الرئيسية التالية:
1) ان هروب الغزاة الاوربيين الى اميركا الشمالية كان بسبب الاضطهاد الديني في اوروبا.
2) الطابع الانساني والحضاري للغزوة الاوروبية لاميركا الشمالية.
3) الطابع السلمي لهذه الغزوة.
4) ولادة "اميركا" كانت طبيعية.
5) الثورة الاميركية: هل كانت ثورة؟
6) اميركا بلد التعددية والديمقراطية.
7) طبيعة التناقض الرئيسي في المجتمع الاميركي: تناقض عِرق ام طبقي؟
* * *
1) لا خلاف على ان القلة من الغزاة الاوروبيين الاوائل قطعوا المحيط الاطلسي هرباً من الاضطهاد الديني وقمع السلطة والكنيسة المسيحية. الا ان الاغلبية الغازية لم تستوطن "العالم الجديد" سعياً وراء حرية التعبد والتدين كما يدعون، بل جاءت وأحلام الإثراء الشخصي تراودها. هذه الدوافع المادية هي التي وقفت وراء قدوم الغزاة الاوروبيين البيض الى اميركا الشمالية حيث حُتم عليهم ان يتصدوا، في مواجهة مباشرة وشاملة، مع اصحاب الارض الاصليين. فقد أتوا غزاة ولصوصاً وقتلة ثم مكثوا على هذه الارض كمستوطنين وتجار ليصبحوا لاحقاً "الاباء المؤسسين" Founding Fathers للدولة الاميركية كما نعرفها اليوم.
2) الطابع الانساني والسلمي للاستيطان الاوروبي ـ الابيض في اميركا الشمالية: يقوم هذا الادعاء على ان اميركا والراسمالية الاميركية لم تقم على الفتح العسكري بل كانت عملية حضارية وسلمية. ومن هنا لا بد لنا من العودة الى التاريخ واستدعاء حقائق ودلالات الابادة الجسدية للهنود الاصلانيين وذلك من اجل تفنيد الادعاء بالطابع الانساني والسلمي للاستيطان الاوروبي ـ الابيض لاميركا الشمالية.
لم يأت المجتمع الاميركي نتيجة مسيرة تطور اجتماعي واقتصادي طبيعي اسوة بغيره من الجتمعات، بل زُرع في اميركا الشمالية، كما ان نظامه الراسمالي بُني على انقاض مجتمع كان قائماً ومتطوراً على مدى آلاف السنين وتدميره تدميراً تاماً في بناه المادية والروحية. لم تكن نشأة المجتمع الاميركي كما يدعون امتداداً سلمياً للمجتمعات الاوروبية بل نتيجة صراع عنيف ودموي أودى بانهار من دماء الهنود الاصلانيين.
اما الحقائق على الارض فهي صارخة لا تقبل التأويل:
ـ لم تكن اميركا الشمالية يوماً خالية من السكان وإن لم تكن مكتظة ديمغرافياً مثل اوروبا او آسيا. لذا فقد توجب على الغزاة الاوائل ان "يفرّغوا" الارض من سكانها الاصليين كي يتمكنوا من السيطرة عليها.
ـ قام المجتمع الاميركي على الفتح العسكري وعلى العنف المسلح والابادة الدموية للشعوب الهندية فضلاً عن حروب المزاحة الكولونيالية التي نشبت بين الاسبانيين والهولنديين والفرنسيين والانكليز من اجل من بسط سيطرتهم على اميركا الشمالية.
3) العنف: الغاية تبرر الوسيلة : لا يخفى ان الاميركي في كل الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمها مع الهنود الاصلانيين على مدى اربعة قرون، عمد الى نقضها والتحايل عليها للوصول الى غايته بقوة السلاح. وفي كل مرة فشل الاوروبي ـ الابيض في الوصول الى مآربه عن طريق المقايضة والخداع والمكر، فانه عمد الى العنف الدموي. هكذا وصلنا الى اميركا اليوم التي قامت على التدمير الشامل لما سبقها من حضارة وثقافة وتشكيلة اجتماعية تمثلت في مجتمعات هندية عريقة تواجدت على هذه الارض لالاف السنين.
4) من هذه الكذبة، توالدت أكاذيب اخرى، منها ان المجتمع البرجوازي (الراسمالي) في اميركا وُلد ولادة طبيعية، مع ان العكس هو الصحيح لكل شاهد على التاريخ وحقائقه: وهو ان البرجوازية الاميركية والمجتمع الاميركي الابيض برمته انحدر من الفاتحين الغزاة الذين استوطنوا القارة الاميركية الشمالية بالعنف والذين إستأثروا بصلاحية الحكم وأهليته وانتحلوا الحق بذلك بالنسل والوراثة.
5) تلقن أميركا ابناءها ان الحدث الفارق والاهم في تاريخها هو الكفاح ضد العرش البريطاني والفوز بالاستقلال الذي دشن ولادة الدولة الاميركية عام 1776. وتضيف الى ذلك "إرثا" من الوثائق الاساسية مثل الدستور الاميركي وإعلان الاستقلال التي شكلت، كما يدّعي مروجو الراسمالية، مساهمة اميركية كبيرة في تقدم البشرية نحو الحرية والإخاء والديمقراطية. هذا هو الخطاب السائد عن اميركا وتاريخها، لا في داخل اميركا وحسب بل وفي العديد من البلدان والمجتمعات وبين جيوش الليبراليين والمرتدين. فالنهج البرجوازي والليبرالي، والعقلية الامريكية التي تستقي اصولها منه، يرتكز دائما على تقطيع اوصال التاريخ سواء الامريكي او العالمي، وفقا لما تتطلبه مصلحة الاوليغارشية والنظام السياسي السائد، فكل فصل تاريخي لا يخدم تلك الاهداف والمصالح يُمحى تلقائيا من الذاكرة الرسمية والشعبية، وفي فقدان الذاكرة التاريخية تكمن احدى نقاط قوة النظام وقدرته على التحكم بسيرورة المجتمع وترسيخ ثقافته السياسية المهيمنة التي تخدم استدامته ولو الى حين.
في هذا الحدث، يكمن، من منظور الخطاب الايديولوجي الراسمالي الذي يروج له منظرو الراسمالية الاميركية، أول فصول التاريخ الاميركي واهمها، أي انه الحدث المركزي في نشأة اميركا، كدولة وكمجتمع ونظام اجتماعي ـ اقتصادي (راسمالي)، وهو ما يتعامى بالكامل عن الوقائع والمراحل الحاسمة التي سبقت ذلك التاريخ. وليس القصد هنا التقليل من أهمية الانتفاضة الاميركية ضد الحكومة الانكليزية، بل فهمها فهماً مادياً وأميناًً، فالاستقلال عن انكلترا ونتائجه امر لا يمكن التقليل من تداعياته وآثاره الماثلة امامنا في تطور السوق البرجوازية المحلية والمجتمع الاميركي ومجمل المسيرة الراسمالية الاميركية.
واللافت ان هؤلاء المنظرين يرون ان تدمير الاوروبي الابيض لبنى الحياة الهندية التي استمرت آلاف السنين على اساس العمل الجماعي والملكية المشاعة، امر طبيعي من اجل اقامة الملكية الخاصة وهو امر لا يعبأون به ولا يتطلب اي شرح او تبرير. وعليه، فان الخطاب الايديولوجي، الذي نجحت في تسويقه اميركا نجاحاً باهراً يقوم، على طمس حقبة كاملة من تاريخها وهي الحقبة الواقعة بين الاستيطان الاوروبي الابيض الذي بدأ برحلات كولومبس الى الشواطىء الاميركية من جهة وصولاً الى الفوز باستقلال اميركا عن الوطن الام ـ انكلترا (1776) (اي ما يسمى بـ"الثورة الاميركية") من جهة اخرى، ذلك الطمس الذي فرش الارضية للادعاء الكاذب والمجافي لحقائق التاريخ وهو ان "الثورة الاميركية" هي الحدث الفارق والاهم في تاريخ اميركا.
والحقيقة ان ولادة المجتمع والدولة المعاصرين في اميركا، قد شهدت صراعين اجتماعيين عنيفين:
أولا: الصراع بين الاقطاعية والراسمالية الناشئة في العالم القديم (اوروبا من حيث انحدر المستوطنون الاوائل).
ثانيا: الصدام العنيف بين التشكيلة الاجتماعية الهندية والحضارة الاوروبية. وهو الصدام الذي أدى الى تدمير نمط الحياة الهندية ومهّد لنشوء النظام البرجوازي الراسمالي في اميركا الشمالية.
6) ان اميركا بلد ومجتمع يقومان على "التعددية" السياسية (ديمقراطية الحكم والنظام السياسي والحزبي) والعرقية والاثنية والثقافية ـ اي التسامح بين كافة الاعراق والاثنيات والثقافية وقدرتها في التعايش المشترك بل نجاحها في الاندماج في بوتقة واحدة اسمها اميركا حيث تذوب الفروقات في الاصول القومية والعرقية والاثنية والثقافية في مجتمع سعيد وفي ظل دولة الرخاء "والرفاه".
الا ان حقيقة الامر تتمثل في ان المجتمع الاميركي يواجه اليوم، كما كان عليه الحال عبر تاريخه، ازمات ومشاكل مستعصية ناجمة عن الفوارق الطبقية العميقة والتي تأخذ في الكثير من الاحوال مظاهر التمييز العرقي والعنصري.
7) ان الصراع في المجتمع الاميركي اليوم، وعلى امتداد تاريخه منذ وصول الاروربي الابيض الى شواطئ تلك البلاد، كان في الجوهر والعمق صراعاً طبقياً بامتياز. وان جوهر هذا التناقض، بالرغم من تجلياته العرقية والاثنية والدينية العميقة التي لا مفر من الاقرار بانها تمزق النسيج الاجتماعي في اميركا، يظل طبقياً متمحوراً حول الهيمنة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للبيض على حساب "الآخر" وتهميشه، واذا استعصى الامر فإبادته (الهنود الاصلانيون) او/و استعباده (السود الافارقة)، او الحد من هجرته وحرمانه من العمل وتحصيل لقمة العيش (قانون إستثناء الصينين لعام 1882 Chinese Exclusion Act).
ان ما يدور اليوم في الحراك الاجتماعي الراهن في اميركا وما يحتدم تحت ما يبدو ساكناً في ظاهره، هي حرب ضروس وإن كانت اقل دموية وعنفاَ، تتمركز في إلاخضاع الطبقي، وبالطبع العرقي والاثني والعنصري والثقافي، لكافة فئات وطبقات المجتمع وخاصة الملونة غير البيضاء ولكن ايضاً الفقراء والمهمشين من البيض، إخضاعها للهيمنة الطبقية الراسمالية الاميركية وتعزيز إستعلاء المركزانية الاوروبية ـ الاميركية وتأبيدها.
الا ان هذا لا يتناقض، في الذهنية الراسمالية الخبيثة، مع إتاحة بعض الحيزٍ من الحريات ومظاهر الديمقراطية والتمظهر بقبول الآخر وتعدديته (في مختلف مستوياتها)، وحتى السماح لبعض من هذا الآخر (غير الابيض) من التفوق والامتياز كما هو حاصل مع السود الاميركيين في ميادين الرياضة والموسيقى والغناء وحتى وصول واحدٍ منهم الى البيت الابيض، طالما انه يضمن "السلام الطبقي" والاجتماعي ويضبط الحراك السياسي والاجتماعي ومحدودياته ويجهض مفاعيل الثورة والتغيير الجذري.
* * *
سمات التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية الهندية
إزدهرت في اميركا الشمالية قبل وصول المستوطنين البيض مجتمعات هندية اصلانية. وسوف نعرض فيما يلي بايجاز بعض السمات العامة لهذه التشكيلات الاجتماعية ـ الاقتصادية للتدليل على حتمية التناقض بينها و بين الراسمالية الاميركية التي عمدت منذ نشأتها الى تصفيه هذه التشكيلات وكافة اشكال انتاجها وحياتها وانجازاتها لتفسح المجال لقيام الدولة الاميركية الراسمالية: أميركا اليوم.
1) نمط الحياة القبلية
إنتظمت التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية للهنود الاصلانيين في إطار المئات من القبائل الصغيرة والكبيرة التي كانت موزعة في أطراف القارة الاميركية الشمالية والتي شكلت وحدات اقتصادية ذات إكتفاء ذاتي تجمع بينهم صلة القرابة والعلاقات الاسرية وقد تميزت هذه التشكيلات بالالتصاق بالارض والتمسك بمواردها الطبيعية، فكانت الرابطة بينهم وبين الارض تفوق في كثير من الاحيان، الرابطة بين القبائل بعضها ببعض. ويرى بعض المؤرخين والمحللين ان هذا كان احدى الميزات السلبية في الصراع مع الاروربي الابيض حيث لم تكن القبائل الهندية متوحدة في مقارعتها لهؤلاء الغزاة مما ساعد على زرع الفرقة بينها وتأليب قبيلة على اخرى. فبالرغم من الهوية المشتركة والبنية الاجتماعية ـ الاقتصادية المتشابهه التي كانت تجمع بين القبائل الهندية، إلا ان رابطة المصالح المشتركة كانت ضعيفة.
ومع تطور الظروف والاوضاع المادية، وبسبب شحة ومحدوديات اقتصاد الصيد الذي ساد في تلك الآونة، كان لا بد للهندي من ان يطور الزراعة ورعاية الماشية، مما نقل الاقتصاد من انشطة "جمع" الغذاء وتحصيله من مصادر الطبيعة، الى "إنتاج" الغذاء. إلا ان الهنود ظلوا متمسكين بالتواضع في المأكل واستهلاك القليل منه بما لا يتجاوز احتياجاتهم، فاكتفوا، على سبيل المثال، بحوالي اربعين صنفاً من المزروعات كان أهمها الذرة والحبوب والبندورة والبطاطا.
أمّن العمل الزراعي وتطوير نمط الانتاج الزراعي ـ الذي استند اساساً الى انتاج الذرة ومنتوجاته الغذائية ـ للهنود استقراراً ومنحهم فرصة بناء القرى الهندية الصغيرة حيث ترعرعت الجماعات السكانية وازدهرت الحياة الهندية الاميركية وحضاراتهم الثرية وخصوصاً حضارات قبائل المايا والآستك في المكسيك Maya Aztec,. إلاّ ان الانتاج الزراعي الهندي ظل بدائياً إذ لم يطور الهندي الآلات والمعدات اللازمة لمضاعفة الانتاج والايفاء بالاحتياجات الغذائية المتزايدة للهنود بفضل النمو الديمغرافي وارتفاع تعداد القبائل الهندية، فبقي متخلفاً من الناحية تطوره التكنولوجي إذا ما قورن مع ما أحضره الرجل الابيض معه من وسائل وأدوات كان قد طورها وحسنها عبر عملية تاريخية وتراكمية طويلة. وقد شكّلت هذه التحسينات التكنولوجية لاحقاً حجر الاساس في البنية الراسمالية الاوروبية البيضاء في اميركا الشمالية. غير انه تجدر ملاحظة ان الاوروبي الابيض قد أحضر معه، فضلاَ عن التحسينات التكنولوجية والوسائل التقنية، أشكالاً مختلفة من الملكية وقيماً غريبة عن نمط الحياة الهندية: واقصد هنا أشكال الملكية الخاصة والعلاقات الانتاجية والاجتماعية المعبرة والناتجة عنها.
2) الملكية المشاعة
لم يعرف الهنود يوماً ما يسمى بـ"الملكية الخاصة للارض". فالارض عندهم كانت وسيلة الانتاج الرئيسية ولكنها كانت ايضاً مصدر كل الخيرات. وحتى لحظة وصول الاوروبي الابيض الى شواطئ اميركا الشمالية، لم يكن هناك فدّاناً واحداً من المحيط الاطلسي الى المحيط الهادئ، مما يكمننا اعتباره ملكية خاصة لفردٍ ما يتصرف به كما يشاء او يستخدمه لغير ما هو مشاع وجمعي او لما لا يعود بالنفع على القبيلة باسرها. بالطبع كان للهنود الاميركيين بعض أشكال الملكية الخاصة (المقتنيات والممتلكات الشخصية البسيطة). إلا ان ما اقصده هو ان سكان اميركا الشمالية الاصليين لم يعرفوا اياً من اشكال الملكية الخاصة بالمفهوم الراسمالي والاوروبي الابيض: اي الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وتوزيع الثروة. كما أن ملكية الهنود لاحتياجاتهم الاساسية في الانتاج الاقتصادي (الصيد والزراعة) وفي الحروب والدفاع عن الارض بقيت ملكاً مشاعاً وجماعياً للقبيلة باسرها. وكذلك كان الامر لدى توزيع منتوجاتهم والتي كان يتم توزيعها على كافة افراد القبيلة.
3) نمط الانتاج: الشيوعية البدائية
يشكل نمط الانتاج وتوفير الاحتياجات المعيشية اليومية، النابع من البيئة الجغرافية والظروف الاقتصادية، العامل الرئيسي في التناثر الجغرافي للهنود الاميركيين وتوزعهم على قبائل صغيرة منفصلة عن بعضها البعض. وعلى الرغم من اختلاف الظروف التي عاشت تلك القبائل في ظلها، وإختلاف الواحدة منها عن الاخرى ومن منطقة الى اخرى، بما فيها اختلاف نمط الانتاج، إلا ان السمات الاساسية للبنية الاقتصادية ظلت مشتركة بين هذه القبائل. فعلى سبيل المثال تطور اقتصاد الصيد على اختلاف انواعه، صيد الاسماك أو الثيران أو الغزلان، والى حدٍ ما أشكال الانتاج الزراعي المختلفة، ليتوافق مع العيش في بقعة جغرافية محدودة يسيطر عليه الهنود ويستطيعون التحرك داخلها.
على ارضية هذين العاملين، تنوع الظروف البيئية والاقتصادية واختلاف نمط الانتاج، تشكّلت البنية الاجتماعية للقبائل الهندية وتكامل نموها وتطورها من حيث تنظيم شؤونها وسن القوانين التي تحكمها وتضبط احوالهم، فجاءت القوانين لتتوافق مع الاوضاع الاقتصادية ومع نمط الانتاج. وعلى وقع خطوات هذه المسيرة في التطور شكّل الهنود الاصلانيون في اميركا عاداتهم وتقاليدهم وطرائق عيشهم ورؤيتهم للبنية الاجتماعية (القبلية) وتوزيع القوى العاملة والعلاقات بين الجنسين والعلاقات العائلية، فضلاً عن انشطة حياتهم الاسرية والاجتماعية. وبسبب هذين العامين وأثرهما الاقتصادي، توزع الهنود على مئات من القبائل الصغيرة والوحدات الاجتماعية والقبلية المتناثرة على مدى حيز جغرافي شاسع في عرض اميركا الشمالية وطولها.
في مواجهة هذه البنية الاجتماعية ـ الاقتصادية المتماسكة على مدى قرونٍ طويلة، لم يكن امام الاوروبيين البيض في صراعهم مع سكان البلاد الاصلين وفي مسعاهم للاستيلاء على الارض أي خيار سوى إقتلاع الهنود من اراضيهم وتشريدهم وإبادتهم.
4) الارض: مصدر الحياة
(موقفان متناقضان من مسألة الارض)
الارض من منظور الهندي الاصلاني: لعبت الارض (امتلاكها واستخدامها وإستثمار ثرواتها وتوزيع خيراتها) دوراً مركزياً في كافة مراحل التاريخ الاميركي، منذ قدوم الغزاة الاوروبيين وعبر صراعهم الوجودي مع الهنود الاصلانيين مروراً بصراعهم مع العرش البريطاني وانفصالهم عنه (ما يسمى بالثورة الاميركية) وصولاً الى الحرب الاهلية الاميركية ومسألة الارض في الولايات الجنوبية. وفي كل محطة من هذه المحطات التاريخية، وفي القلب منها، كانت ملكية الارض هي المحور المركزي للصراع، لذلك شهدنا انتقال ملكية الارض عبر المراحل التاريخية المختلفة من يد الى يد ومن عِرق الى عِرق وبين الافراد والطبقات ايضاً.
كانت الارض عند الهندي الاميركي منبع الحياة ومصدر الماء والغذاء وكل الخيرات، وعلى سطحها وفي جوفها تختزن ثروات الحياة والطبيعة. وكذلك تصدرت الارض موقعاً متقدماً ومركزياً في ثقافة الهندي الاصلاني ونظم قيمه وفلسفته وحتى تعبده. وعليه، لم تقتصر علاقة الهندي بالارض على حياته الانتاجية والاقتصادية، بل طالت كافة مناحي حياته الاجتماعية والروحية والفلسفية والدينية. على هذا النحو نسج الهندي علاقته بارضه، وهكذا أحبها فكان مالكها الطبيعي. توارث الهنود هذه القيم مع تقادم عيشهم على تلك الارض فتمسكوا بها وحافظوا عليها حفاظهم على حياتهم ووجودهم ومستقبلهم. ولهذا، دافع الهندي عن ارضه حتى الموت وحارب الغزاة من المستوطنين البيض كما حارب في كثير من الاحيان القبائل الهندية الاخرى عندما حاولت تلك غزو ارضه والاستيلاء عليها.
الارض في الذهنية الراسمالية ـ الاروربية البيضاء: على خلاف عقيدة الهنود الاصلانيين، اختزلت مسألة الارض في الذهنية الراسمالية في ملكيتها. فالملكية الخاصة للارض (ولكافة وسائل الانتاج) تظل دوما في ايدي راس المال. في هذه الحقيقة، على وضوحها وبساطتها، يمكننا ان نختصر التاريخ الاميركي على مدى قرونه الاربعة وهو ما يشهد عليه الواقع الراهن: فَمَنْ يملك أفضل الاراضي اليوم في اميركا هم البنوك وشركات التأمين والشركات الراسمالية الكبرى وبعض الكنائس، اي القلة الثرية (الاوليغارشية).
في كل هذا، كان للاوروبي الابيض، ذي النزوع الجامح نحو الربح والإثراء، رأياً مختلفاً. فقد نظر الى الارض وما عليها من خيرات وبشر من خلال عيون أتت من بعيد، ومن سياق حضاري وتاريخي مغاير، ومن ثقافة قامت على اسس ومفاهيم مناقضة لقيم الهندي الاميركي، والأخطر ان نظرة المستوطن الابيض للارض جاءت في اطار مشروع استيطاني يسعى الى الاستيطان اولاً فالهيمنة فالنهب. وعليه، كان كل شيء، بما فيه الارض والانسان وكل خيرات الطبيعة، سلعة يمكن تحويلها الى ملكية خاصة تعني ببساطة، من منظوره، حقه الحصري في تلك الارض (السلعة) وحرمان الاخر افراداً وجماعات، بل والبشرية جمعاء، من استخدامها للمصلحة العامة او من خلال الملكية الجمعية والمشتركة لخيرات الطبيعة وثرواتها. كانت تلك هي "طبيعة الامور" وعاديات الحياة لدى الاوروبي الابيض التي حملها معه عندما غزا الشواطىء الاميركية.
ففي حين استخدم الهندي الاصلاني الارض من اجل الصيد او الانتاج الزراعي والايفاء بالاحتياجات الانسانية في الغذاء والبقاء، سعى الاوروبي الابيض الى الاستيلاء على الارض وامتلاكها لمنفعته الخاصة، وذلك من أجل بسط سيادته عليها واستغلال خيراتها لاقامة ملكية الاثرياء. وحيث تطلب مشروع الربح والإثراء هذا الاستيلاء على مساحات شاسعة من الاراض واستخدامها في الزراعة على نطاق تجاري واسع، قام الاوروبي الابيض بتدمير الاشجار والغابات كي يستخدم الخشب في بناء مستوطناته والمتاجرة وبناء المصانع، أي من اجل الملكية الخاصة والسعي وراء الربح والتراكم الراسمالي.
يمكننا ان نوجز القول دون تحامل بانه لم يكن في ذهن الاوروببين البيض، حين غزوا اميركا الشمالية (والجنوبية ايضاَ) سوى امراً واحداً: ان هذه الارض وكل ما عليها وكل ما تنتجه يؤول الى واحد من إثنين: ملكية الفرد وثروته، او ملكية الملك (الدولة) في اوروبا وبالطبع الكنيسة ايضاً. ولم يكن الانسان، الذي عاش على هذه الارض لآلاف السنين قبل قدوم الاوروبي الابيض، استثناءاً لهذا القانون الاجرامي. وعليه، فالغازي الابيض لم يغتصب الارض وحدها بل والانسان أيضاً. وكما اصبحت الارض مصدراً للزراعة وتربية الماشية، كذلك رأى الابيض في الهندي الاصلاني سلعة وملكية خاصة وأجيراً للصيد ورعاية الماشية وغيرها.
قد يقول قائل ان ملكية الابيض للارض إستحضرت وسائل التقدم التكنولوجي والازدهار الاقتصادي. وهذا صحيح. ولا أخال ان بيننا مًنْ يعارض التقدم البشري في كافة مجالاته (التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، إلا ان مربط الفرس كان دوماً، من منظور راس المال الاميركي، أن مَنْ يملك الارض هو الذي يتحكم بتوزيع الثروات. لذلك كان تدمير الشيوعية البدائية ضرورة تاريخية لنشأة وتطور الراسمالية الاميركية، لان هذا النمط الذي طوره الهنود الاصلانيون لحياتهم وانتاجهم واقتصادهم إستند في الجوهر الى الملكية المشاعية للارض وخيراتها ورفض كافة اشكال الملكية الخاصة لها ولغيرها من وسائل الانتاح حتى الماء والغذاء وغيرها من المقتنيات. وبوسعنا ان ندفع بهذا التحليل الى الأبعد لنقول: ان نشأة الراسمالية الاميركية والعلاقات البرجوازية في المجتمع الاميركي (الجديد) وعلى هذا النحو السريع والمدهش، كانت مرتبطة بالقدر وبالوتيرة التي كان يتم فيها تدمير البنى والمؤسسات الماقبل راسمالية، اي بنى ومؤسسات التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية للهنود الاصلانيين.
حول طبيعة التناقض: عِرقي أم طبقي؟
كان التناقض ـ الذي حكم العلاقة بين الاوروبي الابيض والهندي الاصلاني منذ كانت المواجهة الاولى بينهما وضبط حراكها ووتيرتها الدامية ـ في جوهره تناقضاً بين نمطين من الانتاج والاهداف والمفاهيم. لذلك راى الهندي الاميركي انه لا محالة من مقاومة الابيض وإقصائه عن الارض إن كان له ان يحافظ على وجوده ونمط عيشه واقتصاده ومؤسساته اي الحفاظ على الشيوعية البدائية التي طوروها عبر قرون عديدة وتناقل إرثها ومفاهيمها عبر الاجيال.
أودت هذه الحروب الدامية، التي شملت ايضا الحرب الجرثومية، حيث تسجل الرواية التاريخية ما لا يقل عن 91 حالة ابيدت فيها مجموعات قبلية هندية بموض الجدري القادم من اوروبا، الى تشريد الهندي الاصلاني وإبادته عبر مشروع طال عقوداً طويلة وتحققت اهدافه على مراحل متعددة، بالرغم من المقاومة والصمود اللذين أبداهما الهنود، مما اضطرهم الى تغيير بعض عاداتهم وتقاليدهم وحتى قيمهم من اجل الحفاظ على بقائهم والتكيف مع الواقع الجديد: الواقع الذي فرضه الاوروبي الابيض وهيمن فيه بقوة العنف المسلح على الارض والانسان.
كتب مؤرخو البرجوازية الاوروبية البيضاء سردهم لتاريخ اميركا، من منظور المركزانية الاوروبية ورؤية الغرب الراسمالي وبوحي من المصالح الطبقية للراسمالية الحاكمة في اميركا. ربما نستطيع في هذه الجملة على بساطتها، ان نختزل ما يتعلمه الاميركيون في مدارسهم وما يتلقنه العالم عن صورة اميركا حاضراً وماضياً، تلك الصورة التي يقدمها السياسي والمثقف والاعلامي الاميركي المدججين بالادعاءات الكاذبة والمتسلحين بامكانيات مادية وتكنولوجية هائلة.
يريد الخطاب الراسمالي والمركزاني الاوروبي ان يوهمنا ان الصراع بين الاوروبي الابيض والهندي الاصلاني كان صراعاً عرقياً. ولا شك ان الكراهية بين هذين العرقين شكلت احد الابعاد والعوامل الهامة في تسعير الاقتتال بينهما. الا ان هذا الصراع، في العمق والجوهر، كان صراعاً اجتماعياً طبقياً بين نمطين اجتماعيين ـ اقتصاديين متناقضين حيث جاء النمط الغازي حاملاً مشروعه في الاستيلاء على الارض ونهب مواردها، ومدعياً التفوق على الاصلاني فَهَبَ هذا الاخير للدفاع عن مصالحه ووجوده ومستقبله. وبعد ازاحة القشرة العرقية ولون البشرة فان التناقض يبقى تناقضاً اجتماعياً طبقياً تناحرياً حول مصادر الثروة وامتلاكها (ارض وموارد طبيعية وبشرية) وتوزيع انتاجها. لهذا، وبسبب الطبيعة التناحرية لهذا التناقض، لم تكن هناك امكانية للمصالحة بينهما او الحلول الوسطية والتوفيقية، فهو صراع وجودي شامل بامتياز، تماما كما هو الامر في فلسطين العربية. لم يكن هناك حيزاً للتناغم او التعايش فكان على احد النمطين ان يدمر النمط الاخر ويزيله كما يزيل المرء حجر عثرة في طريقه. وهذا ما حصل.
خاتمة
تُسلط حقبة إبادة السكان الاصليين في اميركا والوسائل الوحشية والبربرية التي استخدمها الاوروبي الابيض في إنجاز هذا المشروع، الضوء على ان هذا النظام الراسمالي متأصل في محو الآخر وانه خلافاً لمزاعمه الاخلاقية والدينية، لا يتوانى عن استخدام كافة الوسائل والاسلحة في حروبة نحو الهيمنة والنهب والربح، وانه لا فرق بين الامس واليوم. أليس هذا ما شهدناه في الحروب الاميركية من فيتنام الى العراق! ألا نخشى ان يتكرر المشهد ذاته في ليبيا اليوم ومًنْ يدري اين ستكون الضحية القادمة!
ما من احد يستخف ببطش الامبريالية الاميركية وقدراتها العسكرية والتكنولوجية في التدمير الشامل لكل ما تقع عليه يداها، وليس هناك مًنْ يدعي انه يملك القدرة على الصمود امام جبروتها او تحقيق النصر عليها. الا ان التاريخ يعلمنا ان الحال مع الامبراطوريات لم يكن مختلفاً، ويعلمنا ايضاً ان النصر كان دوماً حليف الشعوب التي تتسلح بالوعي والارادة والقدرة على ادارة كفاحها معولة على اساليب حرب الشعب وادوات المقاومة الشعبية.
انه لمن الغريب حقاً الا تجد شعوبنا العربية والانسانية جمعاء، العبرة الواضحة في هذا التاريخ المديد من كفاح الشعوب وصمودها امام جرائم القتل والتدمير الامبريالي للآخر.
ان الامبريالية الاميركية بطبيعة راسماليتها الحاكمة لا ترى ولا تبحث إلا عن الارباح الخيالية في حروبها المسعورة من اجل الهيمنة والنهب، وانها لا تجد في الانسان والبيئة والطبيعة وخيراتها وكافة شعوب الارض سوى مشروعاً للربح. وبالمكيال ذاته فانها لا ترى في العربي الا مصدراً للثروة والنفط والطاقة والمواد الخام. بكلمة، اميركا ترانا من خلال عدسة الربح. وفي مسعاها هذا، فانها لا تتوانى عن استخدام كافة وسائل واسلحة وتكنولوجيا القتل والتدمير وحتى الابادة الشاملة. وينبغي الا تخدعنا الاهداف المعلنة لحروب "الامبريالية الانسانية" والهراء الذي دعا اليه شليزنجر من تحول امريكا من امبريالية الى "امبراطورية انسانية"، وهي اهداف تبدو على الدوام "نبيلة" وانسانية في كل مرة و"مدافعة" عن المدنيين الابرياء من خلال "تدخلاتها الانسانية" من بغداد الى طرابلس ولكن دون المرور بفلسطين فهذا يخالف القانون الدولي وشريعة رب راس المال.
ما زال بيننا الكثيرون ممن يحتاجون الى القراءة التاريخية الهادئة والموضوعية للتجربة الاميركية "الباهرة". بل ما زال الكثيرون من المغتربين العرب في المهجر الاميركي ينظرون الى الواقع الاميركي ولا يبصرون على الرغم من انهم يعيشون يومياً ما تقوله اميركا وما تفعله.
تُرى كيف يقف العقل العربي، امام هذا القدر الهائل من حيثيات التاريخ، محتاراً ومتسائلا يراوده الشك وكأنه لا يصدق ان اميركا ـ زعيمة الغرب الراسمالي قادرة على إقتراف كل هذه الجرائم والمذابح؟
هل يعقل ان يصل الإفتتان بهوليوود وسي إن إن CNN وغيرها من "المعجزات الاميركية" الى هذه الدرجة من الحيرة والتساؤل؟
وهل يحق لهذا العقل في هذه اللحظة العربية والانسانية الدامية ان يقف محايداً او متوطئاً امام هذا الجرائم التي تقترفها اميركا والتي حصدت في حروبها ملايين الارواح البريئة؟
ألم يبن الاوروبي الابيض مجتمعه على انقاض الملايين الاصلانيين؟ ألا تستمر اميركا في حروبها كي تضخ الارباح في جيوب راس المال وكي تضمن للاميركي هذا المستوى من العيش الرفيع والرفاه حتى وإن كان على حساب إفقار الشعوب ومعاناتها.
* * *
تتعذر مقاومة الامبريالية الاميركية ومناهضة سياساتها واستراتيجياتها في بلادنا وكافة انحاء العالم دون فهمها الذي يستدعي:
ـ ضرورة تعرية الاساليب التي استخدمتها الراسمالية الاميركية الناشئة في الصعود الى مواقع القوة والهيمنة وفرض الاستعلائية البيضاء، تلك الاساليب التي لم تتغير من حيث الجوهر، بل على النقيض إزدادت وحشية وبطشاً بفضل تطوير تكنولوجيا القتل والتدمير.
ـ وفهم المصالح الطبقية للطبقة الحاكمة في "اميركا" ووجوب الربط بين الداخلي والخارجي في سياساتها واستراتيجياتها وبين الماضي والحاضر وعدم الفصل بينهما.
من دون هذا الفهم لا تستطيع قوى المناهضة من كل الشعوب ان تفهم حقائق التاريخ الاميركي والسمات الاساسية للطبقة الحاكمة في اميركا التي تبسط سيطرتها على اجزاء كبيرة من هذا العالم.
* * *
لم يعد امام شعوبنا متسع في الزمان والمكان ولا حتى في التاريخ، لكي نعي ان الامبريالية الاميركية هي اليوم عدوها الرئيسي وستبقى كذلك على مدى المستقبل المنظور. اما الأدلة على ذلك فليس هناك من حاجة اليها، فيكفينا ان ننظر من حولنا وان نطوف في شوارع بلادنا وحالة شعوبنا وفقرها وفي استبداد حكامنا والانظمة التي تثور ضدها شعوبنا اليوم. وليست مقولة "اميركا العدو الرئيسي" تعبيراً عن حقد او كراهية للابيض او الاوروبي او لاي عرق او اثنية، وليست دعوة شوفينية، بل هي حصيلة قراءة موضوعية للحاضر والتاريخ الاميركيين واستشراف لمخاطر هذه الراسمالية على راهن الانسانية ومستقبلها.
يتعين علينا الآن، ونحن نعيش هذا الزمن الاميركي (او القرن الاميركي كما يحلو لاصحابه ان يسموه) مهما طال او تبدى لنا انه يطول، ومهما رُوج له بانه خالد لا يزول، أن نعي انه ايضاً زمن عابر وأن "اميركا" ليست سوى عربة قطار يمر سريعاً ثم يتلاشى أفق الانسانية والتاريخ، وان الانسانية في كل زمان ومكان في حراك مستمر لا يتوقف نحو الانعتاق من كافة اشكال الظلم والاستغلال، وانها ، "اميركا"، اليوم هي سلطان الظلم والقهر والاضطهاد لانها آلة الحرب والاستغلال والنهب. يجدر بنا ان نستلهم التاريخ في قراءة علمية هادئة وان نعي بان "اميركا" تؤول الى الزوال وسوف يعبرها الانسان كما يعبر الجسر الى الشاطئ الآخر والأجمل حيت تلاقي الراسمالية حتفها عند بزوغ فجر الاشتراكية وعلى شاطئ الحرية للاغلبية لا للقلة، الوفرة للكل لا للغني، وحيث شاطئ الامان في شيوعية الملكية المشاعة لا الخاصة.

بعض المراجع الهامة

1) Howard Zinn, Voices of a People’s History of the United States, Seven Stories Press, New York, USA, 2004.
2) Manning Marable, Black Liberation in Conservative America, South End Press, Boston , USA, 1997.
3) George Novack, Genocide against the Indians: Its Role in the Rise of U.S. Capitalism, Pathfinder, New York, 1997.
4) Walter Rodney, How Europe Underdeveloped Africa, Howard University Press, Washington DC, USA, 1972.
5) Ronald Takaki, Debating Diversity: Clashing Perspectives on Race and Ethnicity in America, Oxford University Press, New York-Oxford, 2002.
6) William Blum, Killing Hope” U.S. Military and CIA Interventions since World War II, Common Courage Press, USA, 1995.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نعم هذه هي حقيقة امريكا
فؤاد محمد ( 2011 / 5 / 14 - 08:43 )
الرفيق العزيز مسعد تحية رفاقية
سلمت يداك وسلم فكرك الماركسي الثوري الرائع والمبدع
في كشف حقيقة امريكا البشعة المزيفة القاتلة
كل ما يعشة العالم من ماسات واحزان وخلافات وقتل ودمار وتخلف وعملاء وحكام خونةومستيدين وصدام وبن لادن والقذافي والانظمة الدكتاتوريةسببة امريكا ومن لف لفهامن الاوربيين والراسماليينفي جميع العالم
الحل هو الشيوعية التحررية
اعانقكم

اخر الافلام

.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم


.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة




.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.


.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة




.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال