الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرسة الوطن

نارت اسماعيل

2011 / 5 / 15
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


كثير من الناس الذين أعرفهم كانوا قبل الانتفاضة السورية، كلما ركّب أحدهم صحنآ لاقطآ فإن أول شيء كان يفعله هو حذف محطات موريتانيا وأريتيريا والسودان واليمن وسوريا لأنه لا يحتاج لتلك القنوات التي لايشاهدها أحد، وكانت أكثر القنوات مشاهدة هي الجزيرة والعربية وأبوظبي والإم بي سي، وكانوا إذا فتحوا صفحتهم على الفيس بوك، تجدهم يقضون وقتهم بمطالعة الأبراج وحظك هذا اليوم ويتبادلون صور هيفاء وهبي بدون مكياج ويتناولون مواضيع أخرى مثل أخبار جورج كلوني وبعضهم يذكرنا كل يوم بميزان حسناتنا وسيئاتنا، وتجدهم يجرون استفتاءات من حين لآخر مثل: هل تعتقد أن أسامة بن لادن قد قتل حقآ؟
بعد بدء الانتفاضة تحول هؤلاء بقدرة قادر إلى محللين استراتيجيين لا يشق لهم غبار، تحول معظمهم تدريجيآ من قنوات الجزيرة والعربية إلى قنوات النظام السوري ومن والاها، تدريجيآ خفت صوت المعارضين للنظام وانفرد المطبلون المزمرون للنظام بأصواتهم المرتفعة وأوداجهم المنتفخة ولهجتهم التي صارت تدريجيآ تبطن التهديد والتخوين، باختصار صاروا أبواقآ للنظام تمامآ مثل مهرجي مجلس الشعب السوري
تناوشت معهم كثيرآ، ولكني وجدت في النهاية أن الحوار معهم مثل الحوار مع الطرشان، تركتهم لأنني اقتنعت أنه لايمكن تغييرهم، فهم معطوبون، وهم لاشيء ولن يؤثروا على الأحداث، فمن يصنع التاريخ هم شباب آخرون في الوطن
لقد نجح حكم البعث على مدار خمسين سنة بتنشئة أناس مهزومين انهزاميين فارغين، لم يسألهم أحد يومآ عن رأيهم بأي أمر مهما كان صغيرآ، فالقائد الفذ الرمز يعرف كل شيء، لم يعرفوا معنى المشاركة ولا معنى المواطنة المسؤولة ولا معنى حرية الرأي والتعبير، معظمهم ولد في عهد حافظ الأسد وترعرع في ظل هذا النظام القمعي الجائر الذي روضهم وحولهم إلى قطيع من الحملان البائسة
شيء مؤسف حقآ، عند أول امتحان في حياتهم لمدى وطنيتهم، عند أول دعوة لهم للمشاركة الحقيقية والتعبير عن الرأي بمسألة مصيرية، عند أول نداء وأول استغاثة من وطنهم فإنهم لم يكتفوا بالصمت على أقل تقدير، ولكنهم هرعوا إلى قائدهم الرمز الملهم الذي لايأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه
تم تجويفهم وافراغ محتواهم حتى صاروا لاشيء، تم اختزالهم واختزال الوطن كله بالقائد المفدى، زرعوا فيهم أن الوطن هو القائد، وإذا رحل القائد ذهب الوطن
تحاورت معهم كثيرآ، حاولت أن أقنعهم أن الوطن يبقى والرئيس يذهب، وأن حب الوطن منفصل عن حب الرئيس، كلنا نحب وطننا، أما الرئيس فهو إنسان، نحبه إذا كان جيدآ، إذا كان يحب بلده وشعبه، ونكرهه إذا كان يكرهنا ويسرقنا ويدوس على قلوبنا، حاولت أن أقنعهم أن الرئيس إذا رحل لن يأخذ الوطن معه في حقيبته، وأن الوطن سيبقى وبالعكس سوف يكبر ويزدهر ويعمر، ولكن لا فائدة من الحوار معهم
عرضت عليهم صور ومشاهد القمع والتنكيل وقتل الأطفال والنساء، لا فائدة
أرسلت لهم الرابط الذي يكشف حسابآ للرئيس بمبلغ ملياري دولار في بنك سويسري، لا فائدة
أسألهم: ألا يعني لكم شيئآ أن النظام قد منع كل وسائل الإعلام العربية والأجنبية من الدخول إلى سوريا وتغطية الأحداث؟ ألا يعني لكم شيئآ أن تقبض السلطة على مراسلة الجزيرة إيرانية الأصل دوروثي بارفاز وتسلمها للسلطات الإيرانية إمعانآ في التنكيل بها؟ ألا يعني لكم شيئآ الضغوط الكبيرة التي تمارسها السلطة على الفنانين والإعلاميين وحتى العاملين منهم في محطات خارج سوريا والتهديد بإيذاء ذويهم في سوريا؟ لا فائدة
أسألهم: لماذا تحبون الرئيس؟ هل حرّر الجولان؟ هل حقق تنمية في سوريا؟ هل قضى على البطالة؟ هل قضى على الفساد؟ هل أفرغ السجون من معتقلي الرأي؟ يجيبون: لن يأتي أفضل منه، أقول لهم ولكنه يسرقكم هو وبطانته الفاسدة، يجيبون: أي واحد سيأتي بعده سيسرقنا هو الآخر، يكفي أنه طبيب، أجيبهم: لايهم إن كان طبيب عيون أم ماسح أحذية، المهم أن يحب وطنه وشعبه، لا فائدة
كثير منهم جامعيون وناجحون في حياتهم وبارزون في مجالاتهم، ولكنهم وعند أول صرخة للوطن هرعوا لقائدهم، فهم لايعرفون غيره
أعترف بأنني انهزمت أمامهم، ليس لأن حجتهم أقوى من حجتي، ولكن لأن الحوار معهم هو حوار مع الجدران، لا يجدي الحوار مع أناس انطفأت عندهم تلك الشعلة الصغيرة، شعلة المواطنة والشعور بالمسؤولية تجاه الوطن والرغبة بالمشاركة وتحمل المسؤولية، ولكني على يقين أن تلك الشعلة لم تنطفئ هناك عند كثير من أبناء الوطن رغم كل محاولات النظام إطفاءها، عندما أرى تلك الفتيات الصغيرات في قرية الحارة في حوران وهن خارجات بمظاهرة ترددن الشعارات الوطنية بحماس ملتهب وعلى مسافة غير بعيدة من رجال أمن لايعرفون الرحمة، عندما أرى شباب درعا وحمص وحماة وإدلب واللاذقية والقامشلي ودوما وحرستا وتلكلخ وغيرها من المدن والقرى يقدمون صدورهم للرصاص الحي، أدرك أن تلك الشعلة لم تنطفئ، تلك الشعلة التي اعتقد النظام أنه أطفأها إلى الأبد.
قد تخبو الثورة ثم تشتد، وتخبو ثم تشتد ولكنها لن تنطفئ بعد اليوم، لن تموت تلك الغرسة التي غرسها أبناء الوطن لأنها غرسة الوطن، وهل يموت الوطن؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الكتاتورية وغرسة الوطن
نورس البغدادي ( 2011 / 5 / 15 - 08:31 )
تحية لك يا استاذ نارت على هذة المقالة ونحن نشارك شعورك واحزانك لما يحدث الآن في سوريا ، الحقيقة هناك نقطة مهمة حول انتفاضة الثوار في سوريا وهي ان هذه الأنتفاضة جاءت بعد احداث ثورة مصر ، ولكون ثورة مصرلا تزال ثورة يغطيها الضباب حيث يحاول الأسلاميون المتشددون سرقتها واشعال الفتنة بين ابناء الوطن الواحد وتحت انظار وبركة الجيش المصري ، لذا فأن هذا الدرس بأعتقادي كان له الأثرالمهم في تردد شرائح المجتمع السوري من الأنضمام مع الثوارلأنهم فضلوا الدكتاتورية ليضمنوا امنهم خوفا ان يحدث في سوريا بما يجري في مصر ، فالدكتاتورية طبعا هي افضل لهم من مجيئ دراويش الشريعة الأسلامية الصحراوية وهذا ما يفسر صمت دول العالم على الأحداث ، نحن العراقيون كنا نبغض دكتاتورية صدام في الماضي ولكن عندما شاهدنا ما حدث من بعده خاصة عملية اضطهاد وتشريد وقتل الأقليات شعرنا بالحنين على ايام الدكتاتورية ، الخلاصة يا استاذ نارت الأسلام والديمقراطية العلمانية خطان متوازيان لا يلتقيان سوى زالت الدكتاتورية ام بقت والرحمة على ضحايا الأحداث جميعا


2 - الفاضل نارت اسماعيل المحترم
مرثا فرنسيس ( 2011 / 5 / 15 - 14:34 )
لن تموت تلك الغرسة التي غرسها أبناء الوطن لأنها غرسة الوطن، وهل يموت الوطن؟
نعم استاذ، الوطن لن يموت والغرسة التي غرسها كل مواطن مخلص لصالح الوطن لن تنطفئ، ماتتعرض له بلادنا العربية في هذه المرحلة سيؤدي الى التغيير الحتمي مهما حدثت مقاومات ومعارضات ومحاولات تفشيل او محاولات سرقة لهذه الغرسات الطاهرة
محبتي وتقديري


3 - ردود
نارت اسماعيل ( 2011 / 5 / 15 - 17:43 )
أخ نورس، هذه ثورة شعبية وطنية، ولدت من رحم المعاناة من نظام جائر، قد يركبها الاسلاميون، قد يركبها الشياطون، لا نعرف ولكن الشعب قال كلمته، كل ما نستطيع فعله هو أن نبذل جهودنا بإبعاد كل أشكال الطائفية والمذهبية عن هذه الثورة، وأنا متفائل بأن النتائج على المدى البعيد ستكون رائعة
شكرآ جزيلآ وتقبل تحياتي الأخوية

أختي مرثا، حقآ شيء مذهل ما يحصل عندما ترين هذا الحماس وهذه الشجاعة التي يبديها أبناء الوطن وتلك التضحيات التي يقدمونها، لقد أدّت تلك الثورة ولم يمض عليها إلا شهرين إلى حراك كبير وإلى تغيير قوانين مضى عليها أكثر من خمسين سنة لم يكن أحد يحلم بتغييرها، لن تعود سوريا للوراء
شكرآ يا أخت مرثا وتقبلي تحياتي لك


4 - كائنات معطوبة لا يُمكن إصلاحها
الحكيم البابلي ( 2011 / 5 / 15 - 21:39 )
الصديق العزيز نارت اسماعيل
رغم مسحة الإحباط التي المسها في كلمات مقالك الجميل المخلص النازف هذا ، لكني المس أيضاً الإصرار والعزيمة والثقة بمستقبل أفضل لشعوبنا المسكينة
هي الجمرة التي ستبقى تحت الرماد كما تفضلتَ ، ولن تخبو ، وستستعر ناراً حقيقية ذات يوم إن طال الزمن بها أو قصر ، وسيأتي ذلك ..... سيأتي
أعجبني قولك : تركتهم لأني إقتنعتُ أنه لا يمكن تغييرهم ، لأنهم معطوبون
نعم أخي ... لم تقل غير الحق ، في العراق نقول : ناس خلصانين ، بالإنكليزية : أكسبايرد
كذلك يقول الإمام علي : ما ناقشتُ عالمأً إلا وغلبتهُ ، وما ناقشتُ جاهلاً إلا وغلبني
في السنوات الأخيرة تعلمتُ لا جدوى نقاش الجاهل ، فهي مضيعة للوقت والأعصاب
والبركة بتلك البراعم التي تكلمتَ عنها من الصغار والصغيرات ، ولطالما ركزتُ في الكثير من تعليقاتي على ضرورة ( علموهم صغاراً ) ، وطبعاً علموهم الحق وليس الباطل كما يفعل المشايخ والملالي في غسل ادمغة ألأطفال ومن ثم إعادة حشوها بكل المعوقات والزبالة التي يؤمنون بها ، ويُدمرون العالم من اجلها
تحية لك ، وللمعلقين نورس البغدادي والفاضلة مرثا فرنسيس


5 - أخي العزيز الحكيم البابلي
نارت اسماعيل ( 2011 / 5 / 15 - 23:48 )
أنا سعيد بتلك الغرسة التي غرسها شباب الوطن بدلآ من تلك الشجرة التي تسلقت عليها الطحالب وعششت فيها الدبابير والخفافيش، إنها غرسة صغيرة خضراء يانعة علينا أن نحرسها بعيوننا وقلوبنا حتى يصلب عودها
شكرآ لمرورك الجميل، تقبل تحياتي


6 - rvYLzpiFvZ
Ishwar ( 2012 / 6 / 8 - 12:12 )
Super informative wtrinig; keep it up.

اخر الافلام

.. جلال عمارة يختبر نارين بيوتي في تحدي الثقة ???? سوشي ولا مصا


.. شرطي إسرائيلي يتعرض لعملية طعن في القدس على يد تركي قُتل إثر




.. بلافتة تحمل اسم الطفلة هند.. شاهد كيف اخترق طلاب مبنى بجامعة


.. تعرّف إلى قصة مضيفة الطيران التي أصبحت رئيسة الخطوط الجوية ا




.. أسترازنيكا.. سبب للجلطات الدموية