الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاربة الفساد في سوريا

علي الشهابي

2004 / 11 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


في مقالته "بين علي الشهابي ومنير الغضبان ـ فسحة للحوار" المنشورة بتاريخ 24ـ10 ـ2004 تحدّث الدكتور
عارف عبد النور عن جانب مهم في حياة مجتمعنا، عن طريقة عمل السلطة والحكومة والنواب ولامبالاتهم التامة في
التعامل مع المواطنين وقضاياهم. لا شك في أن هذا الكلام يفعل فعله في الإصلاح، لكن هذا الفعل يظل ثانوياً ونتائجه
هامشية لأن الطرف الأهم في الإصلاح ليس فعل الذي فوق، السلطة والحكومة والنواب، بل الذي تحت ممن أسميهم
تكنوقراط الإصلاح، الموجودين في كل جانب من جوانب حياتنا. وهذا ما يتوضح في سياق المقالة التالية:

رأيت في نهاية القسم الأول من ورقة العمل أن الاجراءات السياسية والاقتصادية المقترحة فيه ستمهد الطريق أمام محاربة الفساد، إحدى أهم الحلقات في عملية الإصلاح. وهذا يبين عمق مشكلة الإصلاح لأنه يعني أنه غير ممكن بغير هذه الاجراءات، وهذه االاجراءات من البديهي أنها ليست ضمن النطاق الممكن لفاعلية أي طرف سياسي في المجتمع إلا السلطة. ومن جهة أخرى فإن منطق ما سبق من تحليل يبين أن السلطة لا تقوم بهذه الاجراءات من تلقاء ذاتها، بل لابد من تدخل المواطنين للعمل فيها من زاوية رؤيتهم لها لتقوم هي من ثم بالتعامل معها وفيها من زاوية رؤيتها. وهذا التدخل من جانب المواطنين غير ممكن إلا في ظل انتظامهم في هيئاتهم ومؤسساتهم المستقلة، وهذا الانتظام وتلك الهيئات والمؤسسات هما الغائب المطلوب حضوره.
فالإصلاح كغيره، يحتاج شروطاً موضوعية وفاعلية ذاتية حتى يتم. وهذه الكتابة، في حقيقتها، ليست فعلاً بل دعوة إليه. وهي تنطلق بهذه الدعوة من بداهة أن الواقع الاجتماعي عندنا بات لا يسمح بالإصلاح فقط بل يتطلبه ويستدعيه، بدليل الإجماع على ضرورته، من السلطة إلى المعارضة ومن بينهما. كلٌ يطرحه بطريقته ولأسبابه. هذا فيما يتعلق بعملية الإصلاح بالعام، أما فيما يخص الفساد فيضاف إلى عقبات عملية مكافحته تدني أجور العاملين. هذا التدني يجعل من الدعوة لسيادة القانون وضرورة الاستقامة في العمل أشبه ما تشبه دعوات الأنبياء، يتذكرها المرء عندما يخلو لنفسه لينساها تحت ضغط ضرورات الحياة، كما لو أنه لا يتذكرها إلا لينساها. هذا الوضع يحيل أي مشروع لمكافحة الفساد أقرب إلى العبث. حقيقة هذا العائق لابد من تسليط الضوء عليها كيلا يتوهم الساعون إلى العمل بالإصلاح سرعة النتائج الباهرة، وبنفس الوقت للتأكد من أن هذا العمل سيعطي نتائجه طالما أن المجتمع يحتاج إصلاحاً، ولأن هذا الإصلاح لا يمكن تفاديه إذا ما أردنا تطوير مجتمعنا.
فمحاربة الفساد، كجزء من الإصلاح الشامل، لا يمكن أن تتم إلا من خلال تشكيل هيئات تباشر بتحديد نقاط انعقاد الفساد، وتشخيص آليته فيها، وكيفية مواجهته والشروع بهذه المواجهة. هذا العمل هو الذي سيدفع السلطة إلى التجاوب معه بطريقتها، إما بمقابلة الإصلاح بالإصلاح أو بمسايرته حتى ترى حدوده ووجهته لتحصره ضمن الحدود المناسبة لها أو أو، ولكن من المؤكد أنها لن تقمعه لشعورها بضرورة شكل معين من أشكال الإصلاح. هذا ما أراه، أما شكل الإصلاح الذي تريده وحدوده فلا يمكن التكهن به سلفاً، والأهم أن هذا ليس شأننا بل شأنها. لا شك في أنها ستتصرف بالشكل الذي تراه مناسباً، وعلينا أن نكون مثلها، نتصرف بالشكل الذي نراه مناسباً. صحيح أنها ستتحمل مسؤولية تصرفها فقط، أما نحن فسنتحمل مسؤولية تصرفنا وتصرفها، ولكن هذه هي طبيعة العلاقة الراهنة بيننا وبينها والتي لا يمكن تغييرها إلا بالإصلاح.
أعتقد أن هذه الرؤية سيرفضها الكثيرون للوهلة الأولى لاعتيادهم على نمط مختلف من التفكير، وبالتالي سيرونها غير واقعية باعتبارها تتناول الأمور بمعزل عن المصالح. فهم سيقولون "أي سلطة هذه التي ستسمح بتشكيل هيئات للإصلاح، ناهيك عن احتمال مقابلة الإصلاح بالإصلاح؟ الله هو الذي يقابل الإحسان بالإحسان، أما هذه السلطة فأعوذ بالله !"
مع احترامي غير الشديد لهذا النمط من التفكير فإني أراه خاطئاً، ولو أن بعض المؤشرات الموجودة في المجتمع تدل على صحته، وسوف أشير إليها في السياق. ولكن أبدأ بالسؤال "هل باشرت أي مجموعة بالإصلاح ومنعتها السلطة؟" هل؟! وأتابع لأؤكد بأن هذه الرؤية التي أنطلق منها لا تنطلق من الفراغ، بل من مجتمعنا الحالي الخارج منذ وقت غير بعيد من الطاحونة.
فالحياة هي التي فرضت وتفرض على الإخوان المسلمين والشيوعيين الانتهاء كمشاريع لسلطات ديكتاتورية، لا الديكتاتورية البعثية. وهذه الحياة نفسها تفرض على البعث إنهاء ديكتاتوريتة، وهاهو ينهيها. ومعاناتنا الحالية ليست نتاج المرحلة الحالية بقدر ما هي نتاج المرحلة الماضية، مرحلة الطاحونة. فهذه المرحلة أنتجت أثناء طحنها خليطاً اجتماعياً اختلط فيه الرعب بالعسف بالفساد، وبتوقفها أخذ النسيج الاجتماعي يتحلل شيئاً فشيئاً. بدأ الرعب يزول بزوال العسف، وظل الفساد الذي لا يزول مالم يجد من يزيله، مالم يجد المستعد لتوسيخ يديه وهو يزيله.
العسف يزول بقرار من السلطة، وقد أصدرت السلطة قراراً بكف يد ضباط وعناصر المخابرات والفرقة كذا وكذا، وانكفت. صحيح أن سلوك قلة قليلة منهم يبدو على حاله لم يتغير، لكن هذا مجرد ظاهر. فهذا السلوك باتت له علاقة بالفساد لا بالعسف. هنا سيضحك الجميع لأنهم سيعتبرون أن هذا التغير في حياة المجتمع فلسفيٌ وليس واقعياً، ولكن مهلاً ! إنه تغير في الواقع قبل أن يصير في الفلسفة بدليل قلة عدد الذين يمارسونه، وقلة قدرتهم على فرض رغبتهم في تسيير الأمور. فقد كانت رغبتهم أوامر. أما الآن فالمتتبع لواقع الحياة في سوريا يرى أن تدخلهم من باب العلاقات العامة، أي من باب الفساد، لا من باب جبروت السلطة. كما ويلاحظ الانعدام شبه الكلي لقدرتهم على تخويف المواطنين في أي نزاع شخصي أو قانوني، لأنهم ما عاد يحق لهم الاعتقال كيفما اتفق. ناهيك عن أن أحداً
لم يكن ليجرؤ على الدخول معهم في أي نزاع. فهذا السلوك بات الآن تجاوزاً يحاسبون عليه، لذا بات كلٌ منهم ينأى بنفسه عنه. أما في ظل الطاحونة فكان سلوك كل هؤلاء وغيرهم وغيرهم قانونياً، والأدق قانوناً، لا بحسب القانون السوري المكتوب بل قانون السلطة غير المكتوب، قانون العسف. كل هذا زال وما زال يزول ولم يتبق منه إلا ظله، وأهم فاعل يفعل فعله في بقاء هذا الظل هو عطالة المواطنين الناجمة عن خوفهم الناجم عن بقايا الرعب الفاعل فعله فيهم من أيام الطاحونة.
سألوا ديك الحبش: أنت أكبر من الباشق وأقوى منه، فلماذا ترتجف خوفاً عندما تراه؟
فأجاب: صحيح أنني أكبر منه وأقوى، لكنه قطع لي قلبي وأنا صغير.
ما قيل أعلاه يعني أن حالة الصراع على السلطة في مرحلة الطاحونة فرضت قراراً، أو شبه قرار، بتدخل أجهزة سلطوية بعينها بشكل مباشر في كل شؤون المجتمع، وكان هذا التدخل هو العسف. فالعسف لأنه قرار سلطوي يزول بقرار سلطوي لأن الأجهزة المعنية بالقرار أجهزة السلطة، وبالتالي لا يمكنها إلا أن تنفذ لأن عدم التنفيذ تمرد. فعدم التنفيذ معناه أن القرار غير شرعي لعدم شرعية السلطة التي أصدرته، وهذا ليس واقع الحال في سوريا. ولهذا يزول العسف بقرار، وهاهو يزول. أما الفساد فلا يمكن أن يزول بقرار من السلطة لأنه ليس قراراً سلطوياً أصلاً.
إنه بالأصل بذرة في مؤسسات الدولة والمجتمع هيّأ لها التدخل السلطوي المناخ الضروري للنمو، فنمت. صحيح أن الأجهزة السلطوية غذّت الفساد واستفادت منه جزئياً، إلا أن المستفيد الأكبر منه كان معظم القائمين على مؤسسات الدولة ودوائرها الحكومية. فهذه المؤسسات والدوائر مستقلة بالأصل عن هذه الأجهزة، لكن تدخل هذه الأجهزة في المجتمع سيشملها، إن لم يكن عبرها، لأنها مكوّن أساسي منه وفيه.
هذا التدخل ربطها بالأجهزة برباط خارجي عبر كبار المسؤولين فيها ومفاصلها الأهم، فأخذ هؤلاء يحققون مصالحهم عبر الفساد والإفساد حتى صار الفساد ـ الإفساد آلية عمل هذه المؤسسات والدوائر بحماية الأجهزة. فالإصلاح ما كان ممكناً لأن السلطة، بأجهزتها المتنفذه، كانت ضده. ولتلميع صورتها كانت تقوم بين الفينة والأخرى بحملة محاسبة تكون نتيجتها إقصاء فاسدين وحلول فاسدين، أو أفسد. ليس فقط الإصلاح ما كان ممكناً وإنما كان تهمة، إذ سيسأل الداعي إليه من أي حزب أنت؟ إلا إذا دعا إليه البكداشيون أو هذا البعثي أو ذاك. هذا ما كانت عليه الحال، أما الآن فاختلف الوضع جذرياً.
اختلف الوضع لأن أجهزة السلطة بالنتيجة كفّت يدها عن الفساد والمفسدين، أو انكفت لا فرق. وبهذا ما عاد لهما سند يسندهما، إلا اعتياد المواطنين فسادهم، واستمرار خوفهم من مكافحة الفساد. أضف إلى ذلك الغياب الكلي عند المواطنين لأي خبرة في الإصلاح، عملية أو نظرية، لأن الإصلاح ما كان ممكناً كما أسلفت، وبالتالي لاعتيادهم على أن كلمات مثل الإصلاح و البناء لا تتفوه بها إلا السلطة، ولغاية في نفس يعقوب. وهنا، في هذا السياق، لابد من دفع هذا الموضوع قليلاً إلى الأمام لمعاينة قيام البعض بمطالبة السلطة بالشروع بإصلاح المجتمع، واعتبارهم عدم شروعها به دليلاً على أنها ضد الإصلاح.
أعتقد أن السلطة عندنا ليست ضد الإصلاح، بل لا يمكنها الشروع بإصلاح حقيقي لسببين متناقضين: فهي كسلطة هدفها الاستقرار، وهذا غير ممكن بغير استقرار المجتمع ككل. وبنفس الوقت فإن هذا الاستقرار لا يمكن تحقيقه إلا ببعض الإصلاح، لذا لا يمكنها الوقوف ضد الإصلاح. وهذا بديهي أنه تناقض، لكنه تناقض في الواقع لا في التفكير، وهو يحتاج بعض التوضيح.
معلوم مدى الفساد والخراب والقمع والإرهاب في المجتمع الذي ورثته السلطة الجديدة عن القديمة. وقد جاءت هذه السلطة في بداية مرحلة ضرورة تغيير العلاقة بين السلطة والمجتمع. وإذا ما أرادت هذه السلطة تغيير هذه العلاقة فعلاً، أي القيام بإصلاح فعلي، فلا يمكنها القيام به إلا باستنهاض كل أصحاب المصلحة الفعلية فيه. واستنهاض هؤلاء يعني بالمحصلة نهوضهم، وبنهوضهم لا تعود قادرة على ضبطهم، وإن استطاعت فبالقمع، وبالقمع فقط. فاستنهاضهم ليس من مصلحتها لأنه سيقود إلى الفوضى، سواء تجاوزتها أو سيطرت عليها. ولأنها لا تريد الفوضى بل الاستقرار، فإنها لا يمكنها أن تشرع بإصلاح حقيقي. وبالمقابل فالاستقرار لا يتحقق باستمرار نفس العلاقة القديمة بين السلطة والمجتمع، بل تحتاج هذه العلاقة تغييراً، جزئياً أو كلياً، حتى يتحقق. وبما أن السلطة أعجز من تغييرها جذرياً، لذا نراها تقوم بإصلاحات جزئية ليس من منطقها المساس بأسس العلاقة القديمة. هذه هي طبيعة الإصلاحات التي يمكن أن تقوم بها السلطة إذا ما تركت وحدها، وهي متروكة بهزال المعارضة الديموقراطية ولهزالها.
وهذا يعني أن بعض الإصلاحات الفاعلة فعلها في تغيير العلاقة بين السلطة والمواطنين لصالح الأخيرين لا تمانع بها السلطة، بل تتطلبها لأنها تسهم في استقرار المجتمع لصالحها. ومن جهة أخرى فإنها لا تستطيع التحريض عليها، لأنها لا تستطيع استنهاض فئة وكبح أخرى. وبالتالي فالكرة الآن في ملعب الديموقراطيين أيضاً: إما أن يتركوا السلطة تتابع إصلاحاتها بالطريقة التي تناسبها فقط، كما هو واقع الحال الآن، أو أن يتدخلوا في محاولة لتحقيق الإصلاح الديموقراطي في كل مجال يتطلب إصلاحاً وفرضه على السلطة عبر فرضه على أرض الواقع. هذه المراكمة للعمل هي التي تجعل الديموقراطيين قوة اجتماعية فعلية لأنهم يقيمون بالعمل، لا بالخطابة، بناءً ديموقراطياً يصير أساساً اجتماعياً يسند الحركة الديموقراطية. وبالتالي يصيرون قوة فعلية لا قوة خطابية. أما أن يظلوا جالسين دون فعل أي شئ بانتظار الظروف لتحقيق كل شئ، هذا الموقف سيقود حكماً إلى لا شئ. وإن صدف وتفجرت الأوضاع في سوريا وهم ينتظرون كل شئ، فسيكون رصيدهم فيها على كل المستويات لا شئ، لأنهم لم يقوموا بأي شئ طوال مرحلة ما قبل التفجر إلا الخطابة.
في ظل هذا الوضع أسجل نقطة لصالح السلطة لأنها لم تسخر من المجتمع وبنفس الوقت لم تجعل من نفسها مسخرة أمامه. وهذه النقطة هي أنها لم تضع خطة لإصلاح المجتمع، لأن مثل هذه الخطة لا يمكن أن تكون إلاّ خطة كذب ودجل وزيف ونفاق، خطة لابد أن تفاقم ما تريد إصلاحه لأنها ستكون خطة من زاوية نظر السلطة، وتنفيذها عبر هيئاتها. لنتخيل لو أنها وضعت مثل هذه الخطة، وشكلت في كل مؤسسة الهيئة كذا للقيام به والهيئة كذا لدراسة شكاوى المواطنين والهيئة كذا للمتابعة والهيئة كذا لمراقبة التنفيذ لتجمع أخيراً كل هذه الهيئات في مجلس تسميه المجلس الأعلى لكذا. ناهيك عن سن القوانين الناظمة لآلية عمل هذه الهيئات، وهل يتعين أعضاؤها تعييناً أم تقوم السلطة بانتخابات فعلاً ديموقراطية. وكم ستستغرق الخطة حتى يتم إصلاح المجتمع، وما هي الفترة الزمنية اللازمة لإعادة التعيين أو الانتخاب حتى لا تتبقرط هذه الهيئات. وماذا ستفعل السلطة أخيراً بهذا الكادر المصلح الكبير جداً بعدما ترى أنه أنجز، أو عجز عن إنجاز مهمته طالما أنه لا يجوز تسريحه بحسب مبدأ "وإذا الموؤدة سئلت".
أرجو ملاحظة أنني لست من يكرتر المسألة بل إن قيام السلطة بمحاولة إصلاح المجتمع هو الكاريكاتور، ومطالبتها بإصلاحه كمطالبتي أنا بتصميم الأزياء. والخلاصة هي: إن مطالبة السلطة بالإصلاح لها معنىً واحد وحيد فقط، هو أن المطالب يريد إعفاء نفسه من مهمة العمل في الإصلاح في الوقت الذي من يعاني فيه شديد المعاناة من غياب هذا العمل هم المواطنون. فمعاناة السلطة من الفساد غير مباشرة، وناجمة فقط عن كونها طرفاً في المجتمع. إذ هل يعقل ألا ّينام الليل فلان و فلان وفلان من رجالات السلطة إذا كان نظام القضاء أو المالية أو الصحة فاسداً أو فيه فساد؟! هذه النتيجة لا تعني أن الطريق أمام الراغبين بالإصلاح بات بلا عقبات، بل لابد أن تعترضه الكثير منها لعدة أسباب يتعلق بعضها بطبيعة الفساد والآخر بطبيعة الذين سيعملون في الإصلاح.
معلوم أن آلية الفساد خلقت مستفيدين منه من قمة الدوائر والمؤسسات إلى أسفلها. وهؤلاء لابد أن يتضرروا من الإصلاح لأن سيفه إن مرّ، فعلى أعناق مصالحهم. لذا سيحاربونه بكل الوسائل، ووقت اللزوم بأسنانهم وأظافرهم. أضف إليهم الكثير من رجالات السلطة الذين يعز عليهم انكفاف أيديهم، هؤلاء الذين يعتبرون أن أيام عزهم ومجدهم ولّت إن ولّى الفساد. هؤلاء هم أنفسهم الذين يحاولون في كل مكان تسويق بضاعة "إن شيئاً لم يتغير بحلول السلطة الجديدة ". وأعتقد أن هذه السلطة قامت ضد هؤلاء تحديداً بالتعميم على مراكز قياداتهم بضرورة محاسبتهم على أي تجاوز يتجاوزونه، وضرورة اعتبار المواطن صادقاً في أي شكوىً ضد ضابط والضابط كاذباً. وهم يحاسبونهم فعلاً، ومن عنده شكوىً من هذا القبيل فليجرب.
بديهي أن يستنجد الفاسدون بهؤلاء ضد من سيقوم بالإصلاح، وسيهبون لنجدتهم ولكن ليس علناً بل بمحاولة التخويف، من تحت لتحت، كما يقال. هذا الهبوب المؤكد للنجدة هو الذي قد يشير إلى أن شيئاً لم يتغير مع السلطة الجديدة، لكنه ليس هبوباً ولن يكون، بل إيهامٌ بالهبوب. وصلابة الإصلاحيين هي التي ستكشف وهم هذه النجدة وكساد بضاعة الهابّين ومدى رداءتها، هذا إن كانت بضاعة أصلاً. وأؤكد أنها ليست بضاعة إطلاقاً، لأنها وضعت على المحك أحياناً وتبين أنها فالصو.
هذه العقبات سهلة التخطي، وهذه المرة بيقين المتنبي الذي يعرف هؤلاء الإصلاحيين وهول مهماتهم تمام المعرفة، حتى أنه سبق وقال عنهم وعنها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
لكنّ الإصلاحيين سيعانون بالطبع، ولكن لا من هذه العقبات الهزيلة بل من انعدام خبرتهم في مجال الإصلاح، هذا المجال البكر في سوريا الذي لم يجد من يلجه. سيعانون لعدم وجود من يساعدهم ولو بالنصيحة، طالما أن الكل في هذا المجال "بالهوى سوى". ولكن سرعان ما سيتعلمون من خبرتهم وخصوصاً أن الإصلاح الديموقراطي، هذه الكلمة التي تبدو كبيرة جداً، ستكون بالنسبة لهم أمراً بسيطاً لأنه جزء من مجال عملهم واختصاصهم.
كيف يصير الإصلاح الآن بهذه البساطة وقد سبق وقلت إن السلطة والحكومة والوزراء عاجزين عنه؟ إنهم عاجزون عنه فقط لأنهم سلطة وحكومة ووزراء، وبالتالي آلية عملهم كما أسلفت، ولا يمكن أن تكون أو تصير إلا كما أسلفت. وأستطرد هنا لأؤكد أن من يريد الانتخابات ليصير نائباً أو وزيراً أو رئيساً حتى يقضي على الفساد، فهذه المواقع كمواقع قد تفسد صاحبها، لكنها حكماً لا يمكن أن تصلح المجتمع. ولهذا أطمئن الفساد من هؤلاء، تماماً كما طمأن جرير مربعاً من الفرزدق.
فالإصلاحيون من مواقع عملهم قادرون على البدء بالإصلاح، لأنه لا يمكن البدء به إلا ّمن مواقع العمل، وبأيدٍ تضع يدها على الجرح. صحيح أن الإصلاح يبدو مشكلة لأن الفساد مستشرٍ بين المواطنين، لأن الفاسدين والمفسدين منهم وفيهم. لكن هذه المشكلة سهلة الحل طالما أن المواطنين موزعون بتوزع المؤسسات، وكلها فيها آليات عمل فاسدة وأسباب تفعل فعلها في هذه الآلية تجعلها تعيد إنتاج نفسها، تعيد إنتاج الفساد. وفي كلٍ من هذه المؤسسات ثمة أولاً عاملون غير فاسدين وراغبون في الإصلاح، وثانياً قادرون على تشخيص هذه الآلية وتحديد الأسباب الفاعلة في إعادة إنتاجها. هؤلاء هم تكنوقراط الإصلاح القادرون على البدء به ومواصلته إلى النهاية، حتى يصير سند نفسه بنفسه. وحتى لا يظل الكلام عاماً سأطرح مثالاً ملموساً من القضاء بهدف الإيضاح، ولا أعلم كم سأصيب وكم سأخطئ لأنه ليس مجالي. وليس مهماً هذا المدى طالما أن تكنوقراط القضاء سيعدلونه، أو ينسفونه كليا،ً ليضعوه في سياقه الصحيح. وقد اخترت القضاء لعدة أسباب:
1. لأن الغالبية العظمى من العاملين فيه ثقافتهم شاملة، ومطلعين على كافة جوانب المجتمع.
2. لأنهم، بحكم مهنتهم، على تماس مع المشاكل الاجتماعية التي يستطيعون من خلالها تحديد الأسباب القانونية الكامنة وراء هذه
المشاكل، أي القوانين التي ما عادت تتناسب والتطور الاجتماعي، والأسباب غير القانونية التي تسبب هذه المشاكل الناجمة عن
عمل ، وأحياناً عن قلة عمل، المؤسسات الأخرى. ولهذا:
3. فإن مباشرتهم الإصلاح سرعان ما تفعّل الإصلاح في المؤسسات الأخرى.
4. لأنهم الأقدر على تشخيص آلية الفساد في المجتمع طالما أن بعض نتائجه، قل نفاياته، تصب على شكل مشاكل في القضاء.
5. لأنه يقال إن فيه فساداً.
بعد الاطّلاع السريع على طبيعة الدعاوى، على الأقل في أربع أو خمس محاكم جزائية ومدنية، إن تبين لهؤلاء التكنوقراط مثلاً أن قسماً لا بأس به منها سببه مثلاً ما يدعى بـ" أبنية المخالفات "، هذه الأبنية التي قد تغطي في بعض المدن مناطق أكبر مساحةً أو أكثر سكاناً من الأبنية النظامية، يمكنهم تقديم تقرير لوزير العدل يطلعونه فيه على نتائج دراستهم لهذه المحاكم، وبأن هذه المشاكل الناجمة عن عدم وجود هذا المخطط ترهق القضاء بنسبة كذا. والطلب إليه طرح هذا الموضوع في أول اجتماع لمجلس الوزراء، وقيامهم بتعميم هذه الدراسة وهذا التقرير على أوسع نطاق، وعبر الصحافة إن أمكن. وبنفس الوقت مقابلة المسؤولين قانوناً عن إنجاز هذا المخطط وتعميم ما يقولون. وبنفس الوقت الالتقاء بلجان الأحياء، التي يلتقي بها المحافظ دورياً، ودعوتها لطرح نفس الموضوع وتعميمها لما يقوله المحافظ. كل هذا ممكن طالما أن حرية الرأي والتعبير صارت متاحة في سوريا، والإنترنت متوفر وأجهزة الكمبيوتر أكثر من الفجل. لنلاحظ أن آلية مثل هذا العمل تربط، وترتبط بها تلقائياً، دوائر إصلاحية أخرى.
هذا الضغط بهذا الاتجاه يسهم بإنجاز المخططات الجديدة للمدن، هذه المخططات التي يشكل غيابها واحداً من أكبر بؤر الفساد ـ الإفساد. وأسباب عدم إنجازها معلومة للجميع، طالما أن موظفي الدولة من المهندسين الذين يكشون الذباب أكثر بكثير من الذين يعملون. وأذكر أن أحد مسؤولي محافظة إدلب ظهر على قناة الجزيرة بعد انهيار بعض الأبنية فيها قبل حوالي سنتين ونصف ليقول "هذه أبنية مخالفة يبنيها المواطنون ونغض الطرف عنها لأسباب ٍانسانية ". لنتأمل هذه الوقاحة التي ما بعدها وقاحة ! فقد يكون هو نفسه، وحكماً رئيس البلدية والمراقب وفلان وفلان ومعهم أحد أو بعض ضباط المخابرات، كل هؤلاء لا يحتاج المواطنون شفقتهم أو شفقة غيرهم، بل هم بحاجة لابتزاز المواطنين، ولهذا يسمحون لهم بالبناء ولا يسمحون بإنجاز المخططات المذكورة. وأستطرد بأنني أعتقد أن إصدار المخطط التنظيمي لمدينتي دمشق وحلب قد يحتاج صدورهما قراراً سياسياً من السلطة، وعلى مواطنيهما الشروع بالعمل للضغط عليها حتى تتخذه.
أما بالنسبة للفساد الموجود في القضاء، فأعيد التأكيد على أن القادر على معرفته، إن وجد، هم التكنوقراط العاملون فيه من قضاة ومحامين وموظفين، لأنهم على تماس مع مشاكل القضاء ويعرفون مقتضيات العدل فيه. ولكن ثمة اقتراح صغير لمراقبة الفساد قد يجد، وحكماً سيجد ، التكنوقراط إجراءاتٍ أفضل منه طالما أنّ أهل مكة أدرى بشعابها. وأبدأ القول بأني أعتقد أن هناك بعض الفساد بين القضاة، لكنه ليس بالقدر الذي يصوره به بعض المحامين الفاسدين، طالما أنهم يبتزون موكليهم بهذا التضخيم. على أي حال، فالرقابة ضرورية ويمكن أن تسير بطريقين متوازيين:
الأول أسهلهما، ويتمثل بقيام مجموعة من التكنوقراط بإعادة دراسة كل قضية تردّها الهيئة الناظرة بدعاوي مخاصمة القضاة للتأكد من مدى صحة حكم الهيئة الناظرة. وفي حال رؤية 75% من التكنوقراط الدارسين للقضية أن قرار الهيئة الناظرة صحيح، عليهم أن يقوموا بتعليق أسماء مستشاري الاستئناف الثلاثة الذين أصدروا قرارهم الاستئنافي المردود في لوحة الإعلانات، ومعهم اسم المحامي الوكيل الذي كان القرار لصالح موكله. وبنفس الوقت إرسال نسخة إلى مجلس القضاة ونقابة المحامين. أما إن وافق على القرار مستشاران اثنان، فيشار إلى اسم الثالث بأنه صوّت ضد. هذا الإجراء البسيط، الواضح مدى مفعوله على القضاة والمحامين، لا يمكن أن يجرؤ قاضٍ أو محامٍ على رفضه في اجتماع مجلس القضاة أو نقابة المحامين. وإيضاحاً لكيفية تطبيق القانون العام في الحالات العيانية الذي يثقف المحامين والقضاة الشباب، وبنفس الوقت تسهيلاً لعمل التكنوقراط، على هيئة المخاصمة أن تبين الأسس التي أصدرت قرارها عليها.
أما بالنسبة لثاني، فأمهد له بالكلام عن الكاريكاتور. فهذا الرسم يعطي صورة عن المرسوم، ولكن بتضخيم جانب وإخفاء أو تصغير جانب أو جوانب أخرى من الصورة. وأتخيل أن القاضي الفاسد يتعامل مع القضية التي يدرسها بطريقة رسام الكاريكاتور. فهو لا يخلق شيئاً من الفراغ، فمالم يجد للطرف الذي يريد أن يحكم له جانباً صغيراً من الحق فلن يحكم له مهما دفع. ولكن يندر ألا ّيجد، فيضخمه ويصغّر أو يخفي جانباً أوجوانب مهمة لصالح الخصم، ليصدر الحكم صورة كاريكاتورية عن الحق، وهذا نادر الحدوث على ما أعتقد
أما الغالب فأن يأتي الوسيط أو المحامي إلى الطرف الذي له أرجحية الحق ليخبره بأن القاضي يريد كذا، لتضيع الأمور بينهم أو بينهما. في هذا المجال الغالب لا فكرة عندي قط عما يمكن عمله، أما في المجال النادر فأعتقد أنه يمكن التعميم على المحامين بأنه إن صدف ومرت معهم أي حالة من هذا القبيل فعليهم تقديمها إلى اللجنة أو اللجان العاملة في الإصلاح ليصار إلى التعامل معها بنفس الطريقة الأولى
من المؤكد، كما سبق وأكدت مراراً وتكراراً، أن هذه الأمثلة المذكورة أعلاه قد تكون بسيطة، وربما ساذجة أو سخيفة، مقارنة بما يمكن أن تبدعه عقول تكنوقراط القضاء. والقصد منها إيضاح الفرق بين العمل بالإصلاح والكلام عن الإصلاح، ليس في سلك القضاء فحسب بل في كل مكان يريد فيه التكنوقراط مباشرة الإصلاح، هذا الذي لا يمكن أن تقوم له قائمة قط مالم يعمل به المواطنون أنفسهم. إذ في كل مجال من مجالات حياتنا ثمة عاملون فاسدون وعاملون غير فاسدين. الفاسدون لا يألون جهداً وهم يعملون لتعزيز الفساد، لا يعتمدون على قدرة الله في ترسيخه بل على عملهم. أما غير الفاسدين فيجب أن يتعلموا ضرورة العمل من الفاسدين، لا أن يعتمدوا على قدرة الله لأن الله مع العاملين، ولهذا نراه مع الفاسدين
علي الشهابي 22تموز 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمريكا تزود أوكرانيا بسلاح قوي سرًا لمواجهة روسيا.. هل يغير


.. مصادر طبية: مقتل 66 وإصابة 138 آخرين في غزة خلال الساعات الـ




.. السلطات الروسية تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة | #


.. مراسلنا: غارات جوية إسرائيلية على بلدتي مارون الراس وطيرحرفا




.. جهود دولية وإقليمية حثيثة لوقف إطلاق النار في غزة | #رادار