الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطى فراشة

عباس داخل حسن

2011 / 5 / 16
الادب والفن



لا تشبه المدن منذ الخلق وههبها الاله دموزي، الخلود ومنذ ان خلق الله الارض وفصل الظلمة عن النور وتوالي الصباحات. ومثل كل الصباحات التموزية يتربع على المدينة هدوء منقطع النظير لا يساويه سوى التالي الذي لا يفصله سوى حر الظهيرة القائظ الذي يمنح المدينة هدوء له معنى الاستراحة سيهجع الجميع، غرباء، بدو، باعة متجولين، اصحاب دكاكين ومحلات، تحت اقرب ظل يلفهم خدر طقوسي للاسترخاء اوالتقلب بنوم متقطع، هجع الجميع لطقوس قيلولة لابد منها الا بعض الصبية المشاغبين. كنت احدهم بامتياز نمارس ولعا طفوليا اخرق مبددين الخدر الذي يلف المدينة باكملها كنا نجري بمحاذاة نهر الفرات حتى يصل بنا الجري الى نهاية اخر حواضر المدينة حيث بستان (زامل) * بسياج طويل لا تدرك اركانه، سنمتطيه بخفة معتاده وسنقف مثل محاربين ونمعن البصر مستكشفين للمكان للمرة لاولى رغم اننا وطاناه مئات المرات.... المنظر ذاته حمار... وحيد لا احد يعرف سره وسط ظلال البستان يحرك قوائمه واذنيه يتناوب ورتابة طاردا دون هوادة الحشرات الدؤوبة التي تتنقل باستمرار... ثمة شعاع يتخلل اشجار التكي والسدر واشجار السرو المتشابكة بعشوائية على طرفه القصي وهو مرامنا الاخيرة بعد المطاردة المالوفة لاصطياد الفراشات بكل الالوان التي لا تعد ولا تحصى كثيرا ما نعلق وسط الشجيرات وتمتلىء ايدينا باشواكها غير المرئية ويصيبنا خدر مؤلم في اصابعنا الصغيرة واحيانا تنزف دماء نتيجة لهذه المطاردة من اجل اصطياد فراشة سينتهي بها المطاف محنطة بين كتبنا المدرسية او مدبسة على لوحة من الفلين لا ندري سر هذه المخلوفات ومن اي جهة وصلت وكم من الاميال قطعت لتنتهي مصلوبة بين ايدينا الصغيرة لم نكن عدائين ازاءها قدر انانيتنا الطفولية بالتمعن بكل هذا الفيض من الالوان الاسرة للخيال والانبهار بنقائها الفسفوري الوهاج.
وبعد مرور السنيين نضجنا قبل الاوان بفعل طباخات الرطب كعمامنا النخل، بدانا نقف على جسر المدينة الوحيد متذكرين تلك الايام ببهجة لا تخلو من عقدة ذنب ازاء تلك المخلوقات العذبة حد الصفاء والطهارة، وتغيرت الاحوال وتوالت الحكومات ولم تنقطع الانقلابات واكلتنا حروب طويلة واحد بعد الاخر في التشرد اوالغياب وفرقت كل شيء بطريقة همجية وبقي النهر وبستان زامل وهجرة الفراشات لا تنقطع الى ان جاء احتلال بربري ساحق ومدمر بدون هوادة، قضم البشر والحجر والتاريخ فطمست المدينة في غرين الفجيعة وحزن النهر واحتج على كل من شرب اواستحم فيه واضمحل حزنا، كان يوما ما طافح بعنفوان مهيب واضمحلت البحيرة الكلدانية وفر اهلها بفجية وارتموا في قبضة المدينة التي اكتضت بهم في غفلة واشتعل تغابن مريع بين هذا الحشر المدفوع بجنون النحس والفوضى.
تبدلت بي الاماكن في هجرة لا اعرف اتجاهاتها وكم تمنيت ان يكون راسي بحجم راس فراشة لاستدل طريق العودة ثانية واتخلص من التشرد والهيام.... اضعت بوصلة الاتجاهات واصبحت امقت كل المدن التي مررت بها. مدن لا تخلو من مكنونات لجمال ساحر ومدنية مفرطة ليس لها معنى عندي بدون اصدقاء ملاعب الصبا والفت الشوارع المتعامدة لتصهر المارة، يختلس كل على شاكلته نظرات فضول لمراد ما والبحث بعفوية خالصة عيون تتواصل لتحدي الممنوع بنظرات لاهبة، كيماء الوجد ونقيع امتلاء القلوب المفعمة للحظة تلامس قد لا تتحقق ابدا.
تبدلت الايام بسرعة واصبح تقويم تعدادها ليس ذو معنى وما عاد للاتجاهات بوصلة ولم يعد ممكن ملء الراس بمزيد من الذكريات والعناوين وتحسست راسي وخيل الي بحجم راس فراشة تجاهد للعودة قبل انقضاء دورة حياتها بعد ان وضعت يرقاتها في مجهول الامكنة وليس في موطنها الاول طبقا لسنن دورة الحياة التي نتخيلها طويلة على مقياس وَهم افتراضاتنا وليس على مقياس مسطرة الزمن.
اصبحت اعاني من طنين العودة، يشحن راسي واعماقي وبدا كل شيء شبحي في هذا العالم من حولي ليس للاشياء قياسات سوى زلت الاقدام ونهايات المجهول وخيبات الانتظار تتصارع مع ذكريات مضيئة تابى ان تستكين لقدرها الماضوي بعناد هليجيني يكسر ترتيبها الزمني الذي يستلب كل شيء ويلغي زمكانياتها المالوفة ويهشمها بتحد.
لا استطيع الاجابة عن وجودي ثانية بنفس المكان الذي هرع فيه الجميع يرشقني باسئلة لا استطيع الاجابة عن فحوها فقد بدا لي العالم اكثر غموضا حينما شاهدت المكان الذي اقف عليه متبصرا المدينة التي بدات لا تشبه المدينة التي اعرفها فما عاد البستان ولا اسراب الفراشات ونفق النهر من خطايا وقاذورات سكان المدينة وما عادت شموع الخضر تتلالا بانتظار الغائب واصبحت الضفاف اسمنتية مقرفة دون زهور وردية او او صفراء. الهبتني تعويذة في راسي قراتها يوما في احد المحطات الباردة في كتيب نسيته في محطة اخرى لا اتذكرها
(ستطوف في الطرقات ذاتها .وتهرم في الاحياء نفسها
وتشيب اخيرا في البيوت نفسها دائما الى هذه المدينة.
فلا تأمل في الفرار
اذ ليس لك من سفينة ولا من طريق
وكما خربت حياتك هنا في هذه الزاوية الصغيرة من العالم
فهي خراب اينما ذهبت)**
وعندها عرفت انني ساطوف دون هدى في هذه المدينة التي رغم خرابها لا تشبه المدن ولا تبوح سر بقاءها مع كل الدمار الذي حل في ايام قياماتها المتوالية وارنو الى كل الاماكن المحفورة على حجر ذاكرتي، محاولا ترك عادة السير لاحلق بخطوات فراشة لا تلامس الخراب.

*بستان زامل احد حواضر مدينة الناصرية دمر بعد الاجتلال الامريكي للعراق 2003
*الشاعر قسطنطين كفافي


عباس داخل حسن
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي