الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الربع دينار ..أقبّل جبينك !

أمير أمين

2011 / 5 / 18
الادب والفن





كان إبن أخي فرات منزعجاً جداً حينما عاد مسرعاً الى البيت وهو يتفحص جيداً بنظراته ويقلب بيده ورقة نقدية من فئة ال 250 دينار ذات اللون الأزرق الباهت والتي تسمى ربع وهي أصغر عملة ورقية نقدية متداولة في الوقت الحاضر في الوقت الذي إنقرضت فيه العملات المعدنية بجميع درجاتها..ظل ينظر اليها بإمتعاض ثم ما لبث أن أكمل تمزيقها ورميها نحو مكان القمامة ! قلت له : تريث..لماذا مزقتها ورميتها هكذا..رد حالاً بشيء من الجزع : إنها أصلاً ممزقة ولم يقبل البائع أن يأخذها مني..ثم أردف قائلاً : مو مشكلة هي ربع وما تفيدني هواية وعندي غيرها..ثم أخرج كمية جديدة من نفس الفئة النقدية ومن فئات أخرى وصفق الباب خلفه مسرعاً الى نفس البائع لشراء ما كان يدور في مخيلته الغضة..أعادتني هذه الواقعة وغيرها مما رأيته في رحلتي الأخيرة الى أرض الوطن لسنين عديدة الى الوراء ..الى بيتنا المتواضع في حي الإسكان وعائلتنا الكبيرة المتكونة من أم ربة بيت وأب متقاعد وثمانية أطفال نصفهم من الإناث ..كانت والدتي رحمها الله تناولني , حينما تمرض أو تتعب ربع دينار أخضر لكي أقوم بالتسوق لعائلتنا والتي كانت حالتها المادية ضعيفة جداً., بدلاً عنها في ذلك اليوم من السوق العصري القريب من محل سكننا بعد أن تطلب مني إحضار ورقة وقلم لتدوين حاجياتنا حتى لا أنسى ..! وكثيراً ما أرفض ذلك محتفظاً بالمواد في مخي الطري في الوقت الذي إعتدت على أن أحزر ما كانت ستوصيني به وغالباً ما تكون نفس المواد المعتادة كل يوم ..حينما تم بناء السوق العصري في صوب الشامية من مدينة الناصرية, كنت طفلاً صغيراً في المرحلة الإبتدائية وكان السوق جميلاً في بناءه ودكاكينه المرصوفة بإنتظام والتي تخللتها المقاهي فيما بعد.. وكنت الاحظ أن ما بين مقهى ودكان خضرة أو لحم يوجد مقهى آخر وهكذا وقد بني بالقرب من هذا السوق مخبز كبير يشتري الطحين من الدولة ويبيع رغيف الخبز الواحد بخمسة فلوس..! أي عشرة أرغفة بدرهم واحد..كانت أمي تعتمد عليّ كثيراً في عملية التسوق أيضاً حينما يكون دوام مدرستي بعد الظهر حيث جرى تقسيم الدوام حينذاك الى ثلاثة أيام دوام صباحي وثلاثة أيام دوام عصري ويوم الجمعة فقط هو يوم العطلة الإسبوعية وليس كما هو عليه الوضع الآن ليومي الجمعة والسبت بفضل الإحتلال ..كنت غالباً ما أرافق والدتي الى السوق وخاصة السوق الكبير في المدينة والذي نسميه الصفاة بالإضافة الى هذا السوق الذي هو أصغر منه بكثير وتعلمت منها اشياءً عدة وعرفت أسعار المواد ونوعيتها وحاجة البيت لها فكانت واثقة من شطارتي في ذلك حينما تناولني الزنبيل والذي يحاك من مادة خوص النخيل .. ثم ظهر لاحقاً زنبيل البلاستك ولما تناولني الربع دينار الأخضر الجميل أقبض عليه بحنان في يدي متمنياً عدم صرفه لأطول فترة ممكنة ..تودعني بجملة : دير بالك من السيارات وما أوصيك يمّة وإنت تعرف شنحتاج ...ثم تردف قائلةً : لا تتأخر عن موعد المدرسة ..وكنت طيلة الطريق الى السوق أنظر اليه بمودة منبهراً برسوماته الفاتنة وخاصة جمال النخيل الأخضر الذي يزدان به وأتطلع الى رأس الحصان رافعاً أياه الى الأعلى قبالة قرص الشمس لكي أراه بوضوح بعد أن أخفي بطريقة ذكية عن العين المجردة..! إنه فعلاً وسيم الطلعة ..ولكثرة إستخدامي له صار صديقي المفضل وأصبحت أحبه وأعتبره صديق الفقراء وكنت أمقت الورقة أم الخمسة دنانير الحمراء وأم العشرة دنانير والتي أراها أحياناً لمرة واحدة فقط في مطلع كل شهر بيد والدي وكنت أعتبرها ورقة نقدية خاصة بالأغنياء لذلك كنت غير مرتاح الى النظر اليها على الرغم من وسامتها لكنني كثيراً مما أعتقدت أنها هي سبب فقرنا وكونها قد إمتلأت بها جيوب الأغنياء..أما نحن فكانت حصتنا الدائمة الدينار الأزرق أو أبناءه الربع والنصف أو أحفاده الخردوات ..!.. شاهدت والدي ممسكاً بها بإنزعاج وقد أحضر ورقة وقلماً وكان يدون فيها بعصبية الديون المستحقة على عائلتنا من صرفيات الشهر المنصرم..كان والدي يقبض 27 دينار فقط يعطي منها أربعة دنانير كل شهر لسلفة كان قد قبضها من البنك وأربعة دنانير قسط شهري للبيت لكي نستملكه لاحقاً وهو هدية من حكومة الثورة وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم لذوي الدخل المحدود من أمثالنا.. والذي إستولى عليه نظام صدام المقبور ولم يعد الينا للآن .!! فيبقى لديه 19 دينار يخصم منها مبلغ ثلاثة دنانير له كمصرف شخصي لكل أيام الشهر وحوالي ثمانية دنانير لصاحب البقالية ومعها بعض الديون البسيطة من الجيران فيبقى لدينا خمسة أو ستة دنانير نحاول تمشية وضعنا الإقتصادي بها لأسبوع واحد أو لعشرة أيام ..! ثم نبدأ بالإستدانة لبقية أيام الشهر وهكذا دواليك ..!! أصل الى السوق العصري محملاً بهموم العائلة وجسامة المسؤولية المكلف بها طفل مثلي من قبل والدتي والتي كانت على يقين بأنه ما من أحد سيخدعني في عملية الشراء للمواد الطازجة والجيدة والمفيدة وهي تعلم بأني لا أتقبل التالف منها مهما كلف الثمن لأن بعض الباعة كانوا حينما يجدون طفلاً يشتري منهم يقومون بتمرير البضاعة الفاسدة والمضرة له سواء علم أم لم يعلم لكن ذلك لم يحصل معي مطلقاً حسب ما أتذكر ..أقوم بإستطلاع البضائع المتناثرة هنا وهناك على إمتداد الأرصفة مقابل الدكاكين وفي داخلها متفحصاً نوعيتها وأسعارها ..تمر نصف ساعة أكون بها قد أخذت فكرة عن ما سأقوم بشراءه بحيث لا أخيب ظن والدتي بي ومن جهة أخرى أكون قد جلبت لأهلي ما يحتاجون اليه بالنقود التي معي..أعيد النظر الى حبيب قلبي الربع دينار مودعاً إياه بألم عند دكة بائع اللحم..أسلّم عليه وبلباقة الصبي الشاطر بقولي : عمي تسلم عليك أمي وتكول خليه ينطيك لحم زين..! وأتركه لحظات يتذكرها ..ثم يردف قائلاً : خوش عمي..جيب فلوسك..وينتزع مني الربع دينار الأخضر قاطعاً منه مبلغ75 فلس ثمن ربع كيلو لحم بقر بنوعية جيدة الى حد ما بعد أن عرفني وتيقن أنه سيخضع للعتاب فيما لو أعطاني لحم يحوي على الكثير من الشحم والعظام ..! وهذا هو المهم أكثر من بقية المواد ثم أسارع لشراء كيلو طماطة بخمسة عشر فلساً وكيلو بصل بعشرة فلوس وكيلو باذنجان بعشرين فلساً وباقتين من الكرفس والرشاد بعشرة فلوس وعلبة معجون طماطة صغيرة بخمسة فلوس وزيت قلي بعشرة فلوس..أفكر قليلاً مع نفسي ..هل نسيت شيئاً في الوقت الذي أعد فيه ما تبقى في جيبي من النقود..خمسات وعشرات ودراهم..ثم أعرج نحو فرن الخبز لشراء عشرين رغيفاً بمبلغ مئة فلساً لوجبتي الظهر والمساء توزع علينا بالتساوي وغالباً ما ننام جياعاً ..! وهنا تبدأ الطامة الكبرى لطفل رقيق مثلي ينتظر بفارغ الصبر موعد دوامه بعد الظهر..حيث كان صاحب الفرن طالب وأبيه الطاعن في السن والذي كنا نناديه أبو طالب دائماً ما يوزعون رغيف الخبز المشوي بعد أن يتجمع بكميات هائلة الى كبار السن والمعارف وهم لا يكترثون لصياحنا ولا يحترمون الأولوية في التواجد لذلك نتأخر قرب شباك الفرن لساعتين أو ثلاثة أو أكثر أحياناً وكلما تجمع الرغيف إزداد صياحنا ومناجاتنا للبائع بكلمات تلين لها أقسى القلوب لكن البائع لا يلبث أن يوزعها الى معارفه دون أن يهتم لنا نحن الأطفال حتى بإلتفاتة بسيطة وكأن نقودنا لا تفيده بشيء وتذهب صرخاتنا في الهواء ..عمي الله يخليك..عمي راح يبدي الدوام..عمي ما الحك على المدرسة.. صارلي ساعتين ..الخ كان يدرك حجم الكمية التي أريد شراءها منه وهذا سبب إضافي كما عرفت لاحقاً لتعمده تأخيري ..! وفي إحدى المرات إنتظرت أكثر من ثلاثة ساعات ولم أتمالك أعصابي فبكيت بحرقة وخاصة حينما كنت أشاهده يعطي الخبز لأناس جاؤوا قبل ربع أو نصف ساعة فقط ..! تناولت حجراً وضربته به من خلال الشباك وعدت الى البيت بدون أي رغيف لكن والدي هدأ من روعي وعاد معي موجهاً اليه الإهانات التي كان يستحقها ومحذراً أياه بأن يعطيني الخبز في كل مرة حسب الوقت لكنه تعذر بكبر الكمية التي نشتريها منه ولو أعطاني إياها لتأخر الكثير من الناس..حسب زعمه وقد إشتكى مني لوالدي وكوني قمت برمي الحجر عليه وشتمه..إعترفت بذلك لوالدي حينما عدنا وصرت كلما ذهبت اليه أحمل معي درنفيساً صغيراً من باب الإحتياط فيما لو تجرأ على الخروج لضربي بعد أن هددني بذلك لكنه لم يفعل ومن تلك اللحظة صار يعطيني بوقت متأخر لكنه أفضل كثيراً من السابق ولم أخفي عنه وجود الدرنفيس معي وحلفت أمامه بأني سوف أستخدمه فيما لو تأخرت عن موعد المدرسة ..كان يضحك على الرغم من خوفه بعد أن جربت رميه بالحجر وإعتقاده بأنني سأفعل ما أفكر به علماً أن عمري لم يكن قد تجاوز الحادية عشر ..! المهم هو أنني عدت الى البيت من رحلة التسوق المضنية وكنت ممسكاً ببعض النقود الصغيرة والتي كنا نسميها الخردة ..ناولتها الى والدتي التي بدأت تتفحص المواد وتشيد بشطارتي وكوني لم أنسى شيئاً لكنها حينما تنظر الى كمية ونوعية اللحم تقوم بلعن البائع قائلة : هم إنطاك عظم..! ولكي أمتص غضبها أذكرها بأنني قلت له تسلم عليك أمي..فتنفعل أكثر وتلعنه مرة أخرى بقولها : أن هؤلاء لا يفيد معهم السلام لانهم يخدعون الصغار أمثالك لكنها تثني عليّ بشكل عام حينما تشاهد نوعية بقية المواد لكي لا أزعل وحتى أكرر الرحلة مرة أخرى بدلها وهذا ما كنت أقوم به لمرات لاحقة غير قليلة ..بعد سويعات من تألمي على صرفي وخسارتي للربع دينار الأخضر طيب الذكر شاكراً له فضله على عائلتنا البسيطة والكبيرة ومتمنياً حصولي على أخ له وليوم جديد آخر يكون أقل تعباً وأكثر مسرة أتناول شيئاً أسد به رمقي ثم أستعد للذهاب الى مدرستنا وملاقات أصدقائي زملاء المدرسة ناسياً كل ما جرى لي من متاعب وآلام..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل