الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميشيما 9/11

صبحي حديدي

2004 / 11 / 2
الادب والفن


ميشيما 9/11
صبحي حديدي

ليس من اليسير أن يتفادى المرء كلّ هذا الضجيج الأمريكي الراهن حول 11/9، وثمة ما يزجّنا في المعمعة اليومية الطاحنة أنّى كانت وسيلة الإعلام التي نختارها. هذه هي القوّة الأعظم، في نهاية المطاف، وانتخاباتها مسألة تخصّ الكون بأسره... شاء أهل الكون أم أبوا! ثمة، مع ذلك، وسائل للتحايل على حال القسر هذه، كأن يظلّ المرء في سيرة 9/11، وأن يرتحل في الآن ذاته إلى... الأدب الياباني!
خذوا هذا الكتاب الطريف، ولكن ليس الخفيف البتة، الذي يقترحه ريشار أبيغنانيزي: "نسيان 11 أيلول: يوكيو ميشيما، الإرهاب، والبراءة الأمريكية"، والذي يتوقف عند انتحار الروائي والمسرحي الياباني الكبير، في مثل هذه الأيام من العام 1970، وكيف يتيح التوغّل أعمق وأبعد في نقد البراءة الأمريكية المزعومة، من خلال ما يُقترف ــ باسمها أو بسببها أو دفاعاً عنها ــ من فظائع هنا وهناك في العالم الشاسع الواسع.
وأبيغنانيزي، لتذكير مَن لا يعرفه، محرّر سلسلة شهيرة تصدر في بريطانيا عن Icon Books، تستهدف تقريب الفنون والمعارف والعلوم والفلسفات من المبتدئين والجمهور العريض، بطريقة مبسطة وتعتمد رسوم الكاريكاتير والتصوير وحسّ السخرية. لكنه، بالطبع، جادّ تماماً في معالجته لأفكار وفنون ونظريات أفلاطون، أرسطو، مكيافيللي، جان ـ جاك روسو، كانط، نيتشة، والتر بنيامين، ميشيل فوكو، إدوارد سعيد، نوام شومسكي، وليام شكسبير، جيمس جويس، سيغموند فرويد، فلاديمير إيليتش لينين، برتراند راسل، جان بول سارتر، جاك دريدا، الفلسفة، الفلسفات الشرقية، ما بعد الحداثة، علم النفس، الأنثروبولوجيا، عصر الأنوار، الوجودية، وموسيقي فاغنر...
وبمعزل عن تخليصنا من مطحنة جورج بوش ـ جون كيري، ذات العجيج والضجيج والأزيز والطنين، فإنّ كتاب أبيغنانيزي يعيد تذكيرنا بشخصية أدبية وإنسانية فذّة، ليس في اليابان وحدها، بل على صعيد الثقافات الشرقية والآسيوية، ثمّ العالم بأسره في الواقع. وفي حياته كان كيميتاكي هيراوكا (يوكيو ميشيما: 1925 ـ 1970) جرحاً مفتوحاً في الضمير الياباني طيلة عقود ما بعد الحرب العالمية وأطوار الهزيمة العسكرية والثقافية التي تعرّضت لها اليابان على يد الولايات المتحدة. وفي أواسط سبعينيات القرن الماضي قال ياسوناري كاواباتا، أول روائي ياباني يفوز بجائزة نوبل، إن ميشيما "أديب من طراز رفيع لا يجود الزمان به إلا مرّة واحدة كل 200 أو 300 سنة". بعدئذ، في أواسط التسعينيات اعتبر كنزابورو أوي، الفائز الياباني الثاني بجائزة نوبل، أن ميشيما كان ضحية التنميطات الزائفة التي صنعها الغرب لاختزال اليابان واستكمال مهمة الجنرال الأمريكي ماك آرثر في إخضاع البلد.
ههنا روائي فذّ الموهبة أدخل أدب الاعتراف السادي والسيرة الذاتية المازوشية إلى مشهد روائي هادىء يهيمن عليه ضمير المتكلم الوديع بين قطبين روائيين شامخين (تانيزاكي وكاواباتا)، ومسرحي يفجّر شاعرية فاتنة في تقاليد مسرح الـ "نو" ويدخل عليها تقنيات جسورة وثورية لا سابق لها، وشاعر تلعب قصائده في فضاء كثيف محيّر بين شفرة السيف وشيفرة زهرة الأوركيد، ومخرج سينمائي يلعب في فيلمه دور قاطع طريق ويظهر عارياً في أكثر من مشهد، ومعلق رياضي وسياسي وعسكري...
ولكن ههنا، أيضاً، رجل يحلم بذبح جماعي عظيم لفيلق من المصارعين الرومان فداء لروح الساموراي المصطخبة بين جوانحه. وههنا أديب يؤسس ميليشيا عسكرية وتنظيماً سرّياً للإطاحة بنظام الحكم وإحياء ماضي اليابان الإمبراطوري، ويهاجم ثكنة عسكرية ويحتجز كبير الجنرالات فيها رهينة لإنقلاب ثوري لا أحد سواه يستطيع تحديد معالمه. وههنا الروائي وهو يختتم الكتاب الأخير من رباعيته الملحمية الكبرى، "بحر الخصوبة"، بمشهد البطل وهو يبقر أحشاءه وينزف ببطء حتى الموت، والشمس الحمراء المجيدة تشرق على هذا الطقس الدامي بالبطء ذاته. وبالطبع، سوف يمارس ميشيما الانتحار بطريقة مشابهة بعد زمن قصير من كتابة وصيته روائياً!
وفي اليابان المعاصرة لا تتباين قيمة ميشيما الرمزية إلا حين يتصل الأمر بصدور الموقف عن فلسفة محافظة أو ليبرالية، عن يسار أو عن يمين، عن وقوف عقلاني موضوعي أو آخر عاطفي قوموي عند أمجاد اليابان السالفة. ذلك لأنّ الرجل يظلّ كتلة رموز أخذت شكل شبح يهيم على وجهه في تاريخ اليابان، وتترك ظلاله أعمق الخدود في أرض ظلت على الدوام عاجزة عن إقصاء الرمز أو تحييد دلالاته، سيّما حين يتصل بالجانب الشعائري الأكثر اقتراباً من الروح اليابانية القياسية. والأرجح أنّ اليابان المعاصرة ليست راغبة في تكرار أمثولة الساموراي الإمبراطوري التي سعي ميشيما إلى إحيائها، ولكنها في الآن ذاته غير قادرة على دفع حمولات الرجل الرمزية إلى ظلام النسيان.
.. ليس في ظلّ استمرار الوجود العسكري الأمريكي، وليس حين ينبثق شبـــح ميشيما القديم في هيئة جديدة صاعقة: أحد انتحاريي 11/9!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال


.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف




.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل