الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


واقعية النموذج .. قراءة في رواية السمان والخريف لنجيب محفوظ

غازي سلمان

2011 / 5 / 20
الادب والفن




تحيلنا لغة الأدب الواقعي و ، خصوصا أدب نجيب محفوظ ، إلى عالم الموجودات ، الناس والأشياء والعلاقات والأفكار والأحاسيس ، بكل تجلياتها وغموضها ، انعكاساتها وتداخلاتها ، إنها تكشف لنا كنه الوجود الإنساني الذي يتشكل بفعل تأثير المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على وعي الفرد واستجابته لها ، باعتباره جوهر ذلك الوجود.
فقد صور نجيب محفوظ في روايته" السمان والخريف " الواقع تصويرا أمينا و خلق من بطل الرواية شخصية حية تحي حياة كاملة تجيش بالعواطف و الرغبات،ظلت تتعايش مع عقود من أزمنتنا منذ صدور الرواية عام 1962 ، سنرى نموذجه _ عيسى _، اليوم ، في مرحلة،الثورات العربية، ما أطلق عليه بـ " الربيع العربي" مع بواكير القرن الحادي والعشرين . إذ أفرزت تلك الثورات وخلّفت أفرادا شكلوا شريحة في مجتمعات ما بعد التغيير متماثلة في السلوك الاجتماعي والنفسي . كانت في يوم ما – كماشة النار – في أيدي السلطة الحاكمة او الحاكم الفرد ، أداة جلاّدة . وقمعية من هنا تكمن قدرة الإبداع في استجلاب واختيار النموذج الى فضاء الإبداع في الأدب الروائي عند نجيب محفوظ ، نموذج بسمات إنسانية عميقة التداخل والتناقض انعكست عليها ظروف ما بعد ثورة 23 يوليو 1952، لتتجاوز ظرفيه زمانا ومكانا,
فـ" عيسى " نموذج لشريحة تشعر بأنها زائلة ، بلا انتماء و مأزومة العيش بفضاء يتضاءل شيئا ً فشيئاً، مع تلازم الإحساس بالألم نتيجة للإحساس بالذنب جراء ما ارتكبت من خطايا بحق مواطنين .
عيسى الدباغ قلب تلك الرواية، موظف بدرجة لا بأس بها حيث بات اقرب ما يكون من الترشيح لوكالة الوزارة، وكان مسؤولاً سياسياً صغيراً، فجمع بين المظاهرات والسجون، السياسة والإدارة، بعد ماضٍ نضالي في الحزب، لكنه عنيد صموت، وفدي، (نسبة إلى حزب الوفد برئاسة سعد زغلول آنذاك)، يعيّن العمد لقاء إتاوات ورشاوى، ويشترك في التحقيق والتعذيب مع - وطنيين آخرين-، حتى الصباح. ثم ها هو ذا يتلقى أول صفعة بنقله إلى وظيفة أدنى شأناً حين خرج حزبه عن مقاليد حكم البلاد على اثر موقعة القتال غير المتكافئة بين الشرطة المصرية والانكليز وسقط العديد من الضحايا المصريين وحدوث حريق القاهرة، ليتلقى الصفعة الثانية بإحالته على التقاعد بعد الإطاحة بالنظام الملكي على أيدي الضباط الأحرار عام 1952 ويتم التحقيق معه في لجنة التطهير التابعة للوزارة وتثبت إدانته باستغلال النفوذ وتورطه في أعمال التعذيب، وعيسى الذي اعتاد حياة المطاردة والسجن والضرب ، ما أهون عقاب
اليوم عليه، لم يأبه وكان ينظر نظرة تفاؤل، رغم إدراكه انهيار تنظيمه الحزبي كأنه الغبار، وصعود تنظيم عسكري صغير داخل الجيش ليحتل السلطة ويبدأ عملية تغيير شاملة في السلك الإداري للدولة وفي المجتمع ككل.
إن نجيب محفوظ وهو يرمي بتلك الشخصية في أحداث فترتين متناقضتين، فترة ما قبل -تغيير- الملكية في مصر والفترة التي بعدها ومحاولة اجتثاث مخلفات نظامها، كان يدرك مدى سلوكها الاجتماعي والنفسي، وقد أتقن خلقها، خلقاً لا خوف عليها من الغرق أو الذوبان أو التلاشي في العدم في خضم فترة ما بعد -الثورة- ولا خوف إذ تناقضت مع متغيراتها. فالبطل لم يكن باحثاً او مثقفاً كبيراً بل كان حزبياً -حركياً- فكانت ردود أفعاله لا تعدو كونها ملاحظات صغيرة الأحداث والمتغيرات، لهذا لم تكن له القدرة على قراءة الفكر والواقع بعمق... ان الأحداث تتوالى من دون أن يقدر على التأثير فيها، فلا يجد سوى أن يذهب إلى (سراي شكري باشا عبدالحليم)، وهو احد قيادات الوفد لكن (شكري باشا) كان حسب تحديد بطل روايتنا : (هذا الشيخ الذي هبط نشاطه في مكتبه إلى الحد الأدنى، والذي لم يعد له من عمل حقيقي سوى نشاطه باللجنة المالية بمجلس الشيوخ)،. ويقول شكري باشا: (قل في هذا اليوم ما شئت، أين الوزير؟... لا احد يدري؟ أين البوليس؟ لا احد يدري؟ ابن الجيش؟...)
يبدأ الكاتب بتعرية شخصية البطل والكشف عنها بسعة كبيرة ومتعة راقية. عندما يشتد ضغط الواقع الجديد عليها. فالآن عيسى محاصر. وقد أحيل على التقاعد، وتركته خطيبته الثرية -ابنة علي بك- إلى غير رجعة -.. غدا غريباً في مدينته الكبيرة، تسيطر عليه الدهشة والعجب، إزاء تقوض أركان تنظيمه، والنظام الملكي الذي استمر يقاوم الدهر لربع قرن من الزمن، نراه يراقب الآخرين وسلوكهم بحثاً عن منفذ لإدراك الشبه أو التناقض بينه وبينهم، او يجلس وحيداً، مع آخرين يناقشهم في أرائهم في -الثورة- والمتغيرات التي استجدت. مختلفاً معهم وعنهم، ليبحث عن مخرج، لمساحة أوسع له. و يأسف لان المنجزات التي تحققت، لم تتحقق على أيديهم، هم، وهم بذرة الثورة الأولى!، حسبما يعتقد فحين قام (جمال عبدا لناصر) بتأميم قناة السويس شعر عيسى بالفخر، وعندما بدأ عدوان عام 1956 وأُجبر العدوان على الانسحاب والتوقف. وقف كلية مع (الثورة) ليصبح الآن عقلاً مع _الثورة- وقلباً مع الماضي. ورغم هذا لم يفقد الأمل في إيجاد منفذ للفكاك من التناقض الشائك في موقفه تصالحاً مع الحاضر أو تناقضاً معه وعدم قبوله نهائياً، فكان الهروب وممارسة الجنس ولعبة النرد والقمار مع العاطلين من أمثاله، أو التسكع والتغرب، يهجر مدينته، ملتجأ الى الإسكندرية، غريباً بين غرباء. ثم زواجه من (قدرية) ذات الأربعين عاماً. دروباً ملتوية خاوية يدلف إليها، و هنا في الإسكندرية يتعرف إلى (ريري) عاهرة، ليكتشف جوانب شبه بينهما مثلما يرى، فكلاهما ضحية الواقع، الجديد، لكنه يطردها حينما تخبره بأنها تحمل -شيئاً منه- في أحشائها- فيزداد تقززه ونفوره، لأنه غير واثق من قدرته على الخلق! والتأثير ولأنه لا يريد ان يضيف شيئاً لهذا الواقع الجديد الذي رماه في الشارع وعطله أيضا...
إن الروائي المبدع الراحل لم يملّ- إذا جاز لي التعبير- من بقاء بطله يدور ويدور في دوامة الضياع والرفض، ليبقى نموذجاً مبهراً في صراعه مع التحديث والتغيير. في حين تكشفت مواقف أقرانه الوفديين- وهم يتفسخون نتيجة لمراوحتهم بلا فاعلية، في فضاء اتهم التي طمرها التحديث، فشخصية (سمير عبدا لباقي) تتجه نحو التصوف)، حيلة هروبية انتمائية، تعطيه إحساسا موارباً بالانتماء. و(إبراهيم خيرت) يحمل على الحزبيين بمقالاته في الصحف، اي على الوفد خاصة، ثم ينافق بأنه مازال وفدياً! وان رجال الوفد موجودون في مجالس إدارات الشركات، أما شخصية (عباس صديق) فشخصية متمارضة منكفئة.
الواقع الجديد بالنسبة إلى (عيسى) امرأة أخرى ترفضه (( وهي رؤية الروائي في أن الأنثى هي الوطن والسلطة هي الأنثى))، فلم يأبه بشيء وكلما يجد نفسه في تماس معه ذهنياً يجد نفسه مقعداً ومرهقاً، مرهقاً كلياً، فيبقى عنيداً في أن لا يعمل أي شيء لهذا الواقع وستبقى ذكرى (ريري) مرّة ومخيفة في دواخله المضطربة تتبعه بمصادفة وبدونها فيهرب...
ويستشعر حنيناً خفياً إلى ابنة (ريري) غير إن ريري ترفضه الآن وابنته بلا مشاعر نحوه كأب يقول لريري:
- إنني أكاد أن أجن يجب أن تتكلمي هي ابنتي؟
ترد عليه (ريري) :ابعد عن وجهي، أنت أعمى ومجنون ويجب ان تختفي
ويقول له العرّاف:
- (ستغرق في بحر..... وسيختفي)
لجوءه للعراف ليس هروباً فحسب بل للبحث عن وسيلة للاطمئنان على غده المجهول ، عَجَزَ هو عن استبصاره حين عجزت كل سبله ووسائله عن معرفته، إنها الوسيلة الأضعف لكي ينعُمَ بالاستقرار...
يقول (عيسى):" الموتُ أهون من الرجوع للوراء! وأحيانا أقول لنفسي لان تبقى بلا دور خير من أن يكون لك دور في بلد لا دور له..."
إن جلوس – عيسى - تحت تمثال سعد زغلول يعطي انطباعا بتمسكه بماضيه وتعلقه به.. وليبقى وفديا حيث لا دور ولا مكان لحزب الوفد ،الآن ، في حين كان له دور مؤثر ولبطل الرواية تطلعاته وآماله ..جلوسه تحت التمثال يمنحه إمكانية ألامساك بخيوط ماضيه الواهنة وسخونة ذكريات تبتعد لتتلاشى ، ليبقى غارقا إذن في أزمته..
أخيرا يسطع ضوء في خضم ظلمة دواخله القلقة لأول مرة، في حياته بعد- الثورة- ليستحيل الماضي ومطاردته له من حزن وأسف عليه إلى البحث في تفاصيل الواقع المتغير باستمرار، عن جانب جدي لهجرة الحزن والأسف. فيقابل شاباً يعرفه (عيسى) حيث حقق معه، حتى الصباح، في العهد الملكي غير ان الشاب سرعان ما يلوذ عنه ويتركه في وحدته مجدداً، بعد مناقشة بينهما!!، يختفي الشاب مغادراً شارع (صفية زغلول)...
يحدّث عيسى نفسه:
(أستطيع أن الحق به على شرط أن لا أضيع ثانية واحدة في التردد)
يتبع الشباب تاركاً وراءه تمثال (سعد زغلول ومجلسه الغارق في الوحدة والظلام).......!!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قراءه رائعه يا غازي
قاسم محمد مجيد الساعدي ( 2012 / 1 / 26 - 17:20 )
القدير غازي
استمتعت بتلك القراءه المتمعنه الواعيه لروايه ابطالها في كل مكان وزمان لقدتوقفت عند تحليلك الفني لخيوط الروايه وشخوصها وتركيزعلى شخصيه عيسى وهونموذج للرجل الذي فقد قيمه
ابدعت اخي الحبيب ودراستك تستحق القراءه لروايه ستظل موضع قراءه لفترات قادمه لما تحمله من عنصر الديمومه والاستمراريه

اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا