الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيت من زجاج

محمد الذهبي

2011 / 5 / 22
الادب والفن


بيت من زجاج

(( ... وَارَاهْ خْلَّوْها لنا جْدودْنا بْحالْ الزَّاجة، واشْ بْغيتي تْهْرّْسْ لِها السُّمْعة وْنْبقاوْ بْلا سُُمْعَة ؟! ))
بهذه الكلمات الفظة الغليظة استقبل " قَدّور " ولده عليا عندما كاد يبزغ الفجر وقد عاد من سمره مع أولاد القرية في ليلة من ليالي الشتاء.
لم يكن علي يتوقع رد فعل كهذا من أبيه، خصوصا أن هذه أول مرة يخالف فيها قانون بيته الشريف، لذا وقف مشدوها متسمرا في مكانه، وقد طأطأ رأسه احتراما لمنزلة أبيه الشريفة، ولم يقطعه عن تسمره ذاك إلا صوت الباب وقد أغلق في وجهه، ورنينه يمتزج بكلمات آتية من ورائه تقول: (( ارْجْعْ مْنْ حِيتْ جيتي اللـّيْـمْسخْ بيك )).
بعد هذا بقليل، استدار علي ـــ وأذناه تتصلصل وتذوي بكلمات أبيه ـــ فصار يمشي بدون وعي ولا إدراك، لكنه قبل أن يسلك الزقاق التي ستحجب عنه الدار، التفت إليها وتأمل فوق الباب، تأمل في كلمات مكتوبة بخط مزركش رقيق فإذا بها تقول: >. فتابع بعد هذا مسيره لا يدري إلى أين يسير، ولا من يقصد، فالناس لا يزالون في نوم عميق، وجميع الأبواب مقفلة، والدنيا هادئة ساكنة، لا تلتقط أذنا علي فيها سوى خرير المياه، ونباح الكلاب في ضواحي القرية، وعواء الذئاب الآتي من أعالي الجبال. الليل مظلم حالك، والسماء غائمة، والبرد قارس، والطريق مملوءة بالحفر والأحجار، وعلي ينتقل من مكان إلى مكان، لا يكاد ينتهي من طريق حتى يأخذه آخر. فبينما هو في حيرة من أمره، وشرود في باله، إذ أبصر بصيصا من نور قد خرج من شقوق باب بيت من البيوت.
لم يكن لدى علي أدنى شك بأن هذا البصيص من النور من غير المسجد، فقد كان دوما يستيقظ قبل الفجر في ساعة السحر، فيذكر اسم الله ويتوضأ، ثم يقصد المسجد للصلاة، وكان يعلم جيدا أن أول فتيلة توقد بعد نيام الناس هي فتيلة المسجد، حتى صارت مضرب المثل بين أهل القرية في كل أمر يسبق آخر، لذلك لم يتردد في قصد ذلك النور، فأخذ يهرول في مشيه متعثرا، وكلما خطا خطوة اتضح المكان أكثر وانتشر الضوء في أرجاء الباب، وهكذا حتى وقف أمامه.
تأمل علي في المكان، رفع عينيه إلى السماء فإذا به لم ير الصومعة، رجع بهما إلى الأرض فالتفت يمينا وشمالا، أعاد النظر مرة بعد أخرى وكأنه لا يصدق ما يرى، حاول أن يستعيد خريطة قريته في ذاكرته، لكن بدون جدوى، فالمكان ليس له موقع في خريطته الذهنية، فتسمر أمام الباب وقد زادت حيرته واضطرابه وتساؤلاته،هل أضل الطريق فأخذه إلى قريه أخرى؟ هل هذه حقيقة أم حلم...؟، وهكذا تراوده أفكار كثيرة تسلك به كل مذهب، وترحل به من حيرة إلى حيرة، كل هذا وطنين كلمات أبيه لايزال في أذنيه، لكنه أخيرا ــ وبعد أن سمع ضحكة عالية يذوي بها المكان، قرر أن يكتشف حقيقة هذا المكان الغامض، فدق الباب دقات خافتة، ثم أعادها بكل ما لديه من قوة وقد فقد صبره.
فتح الباب رجل طويل عريض، ذو شعر كبير وعينين حمراوين، وكأنه غول في الجبال أو أسد هوجم في العرين، فنظر إليه علي نظرة استنكار، فإذا الرجل يقول له بصوت متقطع غليظ:
ــ (( أُتْزيدْ فيها التْخْنْزيرَةْ بْعْدْ التّْهْراسْ دْ لْباب !! ))
فمد يده إليه ليجذبه إلى الداخل، فهم بالفرار وهو يظن أنه في مغارة الغول، تلك التي تحكيها له جدته وهو في فراشه يريد الخلود إلى النوم، إلا أن الرجل شده بطرف من جلبابه وأخذ يجره إليه، فبينما هما في انجذاب شديد إذ بصوت يقول:
ــ (( آشْ هَدْ الْفُوضى هَدِي، آشْ واقْعْ ؟))
فاستدار الرجل بوجهه ليرى من تكلم، فإذا هو صاحبه علال.
أعاد علال سؤاله:
ــ (( آشْ واقْعْ ؟ ))
ولشدة الظلام لم يكن يرى من علي إلا جلبابه الأبيض، فسأل صاحبه: (( شْكونْ؟ ))، وقد مد يده إلى كتف علي.
فما سمع علي هذه الكلمة حتى ارتمى بين أحضانه، وتعلق به تعلق الصبي الخائف بأمه وهو يقول بصوت مرتجف: (( أنا علي، وْلْدْ...)). فرأى علال ملامح وجهه الوضيء، وعرفه من كلامه الفصيح، وشعره الجعد الطويل، فقال:
(( وْلْدْ الشْريفْ قْدُّور؟! ))
ثم سأله مستغربا من سبب وجوده هناك في ذلك الوقت المتأخر من الليل، إلا أن عليا لم يجبه، فقلبه مايزال مرتجفا من شدة هول ما رآه، فأخذ علال بيده ودخل به إلى البيت.
*** *** ***
البيت فيه ضوضاء؛ كلام مختلط، ضحكات عالية، وجمل متقطعة لا تكاد تفهم، هذا ما سمعه علي وهو يستنشق رائحة حيرته، أيضعها ضمن الروائح الكريهة، أم ضمن الروائح الطيبة الزكية. فقصد به علال حجرة صغيرة ليسترد فيها أنفاسه، ويتدفأ قليلا بجدرانها الطينية الغليظة، فرفق به حتى أجلسه على " هِيدُورَةٍ " من صوف، ثم همس في أذن صاحبه، فخرج مسرعا وعينا علي لا تنفك عنه، فهو لا يكاد يصدق أنه نجا من بين يديه. ثم نظر إليه علال نظرة العطف والحنان، فالتقت بنظرته الحزينة فأحنى رأسه خجلا من موقفه ذاك، ثم رفعه ليسأل:
ــ ولكن من هذا الغول؟
فصادف سؤاله رجوع صاحب علال وقد حمل في إحدى يديه وسادة وفي الأخرى كأسا فيه قهوة، فهم أن يركله لولا أن علالا نهاه وقال:
(( عْطيهْ إرْدْ عْقْلو ))
فرمى إليه بتلك الوسادة التي في يده، ومد إليه الكأس وهو يقول:
ــ خذ هذا فإنه مفيد لأمثالك: وحاول أن تسترد عقلك قبل أن أحطم أنفك !
فسمر علي عينيه وقد حار في أمر هذا الرجل "الغول"، فهو الآن يتكلم لغة فصيحة وكأنه عربي أصيل، فحاله توحي بشيء، ولسانه يوحي بشيء آخر.
ــ سبحان الله !
قالها علي وهو يمد يده ليأخذ الكأس منه وعلال يقول:
ــ خذ يا علي ولا تخف، فهو رجل قوال لا فعال.
فاستدار الرجل نحو علال وقال:
صدقت، ولكني أخالف طبعي بعض الأحيان.
يكفي هذا عليا ليستعيد به ذاكرته، فكل ما ينعشها هو سماع اللغة الفصيحة، لذلك لم يشرب من الكأس إلا شربة واحدة، ثم عدل عن جلسته القرفصاء، فتمدد قليلا واتكأ على الوسادة وهو يقول:
ــ لا يأبى الكرم إلا حمار.
وقد نسي ما كان من أمره.
أما علال وصاحبه فنظر كل منهما إلى الآخر وقد استغربا ذلك، وهَمّ كل منهما بالكلام، إلا أن صاحب علال كان الأسرع فقال بسخرية:
ــ أنت ولد مطيع؛ استعدت عقلك بسرعة، لا ينفع معكم شباب اليوم إلا الوعيد !.
فنظرإليه علي وهو يبتسم سخرية منه ثم قال له:
ــ لو أنك خرجت إلى وراء الباب فتكلمني هناك لكان أفضل، فكلامك يستهويني ، غير أن صورتك تخيفني !.
فما سمع صاحب علال كلامه هذا حتى وثب وثبة أسد مفترس فوقع عليه، ثم انهال عليه ضربا بجنون، كاد من خلاله أن يكسر عظامه لولا أن علالا تدارك الأمر بعد جهد كبير. فلما استوى صاحب علال قائما قال بغضب:
ــ صدقوا الآن أني أخالف طبعي بعض الأحيان.
فتركهما وهو يتمتم بكلام غير مفهوم.
اعتذر علال لعلي وتأسف على ما صدر من صاحبه، وحاول أن يبرر فعله فقاطعه علي بقوله:
ــ ولكن من يكون ؟
فجاء علال إلى جانبه فجلس واتكأ على إحدى يديه وقال:
ــ إن لصاحبي هذا قصة عجيبة، فهو من بيت الشرفاء في قرية الفلاحين ــ ولحسن الحظ لم يحتج علي إلى أن يسأل عن مكان القرية، فقد كان أبوه يجهز نفسه في كل عام للسفر، وحين يسأله علي إلى أين؟ يجيبه: إلى قرية الفلاحين، حيث يجتمع شرفاء القرى لبحث بعض القضايا والأمور، وكان دوما يعده بمرافقته حين يتم دراسته ــ قال علال:
فثار صاحبي على عادات وتقاليد أهله، وأبى إلا أن يكون حرا في تصرفاته، لاسيما حين أنهى دراسته، فما كان لأبيه إلا أن يطرده من البيت، خوفا على سمعته وسمعة أجداده الشريفة، وقد حل هذه القرية منذ شهر، بعد أن سئم الحياة في غيرها كثير. أما اسمه فهو مما لا يطيق سماعه، لذلك يتنكر تحت أسماء غير صحيحة، ويُدْعى هنا بصاحب علال.
أرخى علي جفون عينيه، وحرك رأسه بخشوع، وكأن ذاكرته تعرف شيئا مماثلا لهذه القصة، فبينما هو كذلك، سمع صوتا من وراء الباب يقول:
ــ لقد أَصدَقَك القول يا علي، فاصدقني القول وقل لي سبب وجودك هنا في هذا الوقت، ولكنه لم يول لهذا السؤال أي اهتمام ولم يساوره أي شعور، فقد نسي ما كان من أمره، وأخذ بلبابه منطق صاحب علال وقصته، فسلكت به أبواب الخيال، وأيقظت فيه نفسا شاعرية، فما كان منه إلا ابتسامة رقيقة، وقبل أن يقول أي شيء، وعلال بجانبه ينتظر، سُمِع صوت يأتي من بعيد، ففتح عينيه كالمذعور، وجال بعينيه في أرجاء البيت، نظر إلى علال، أعاد النظر فيه، فقام وأسند ظهره إلى زاوية البيت، وأخذ يدفع الجدار وكأنه يريد منه الخروج، لقد كان الصوت صوت الأذان.
تذكر علي ما كان من أمره مع أبيه، وعاد إلى أذنيه طنين الباب والكلمات، فقد كان لصوت الأذان وقع في نفسه، مما جعله يعود من الخيال إلى الواقع. تعجب علال في أمره وظن به نوبة جنونية، وصار يقول له:
ــ إنه الأذان يا علي، هل أفزعك الأذان؟
وصاحبه يعقب ذلك بقوله:
ــ هل صار يفزعك قولي كما صورتي؟
لكنه مايزال على حاله، ليقول له علال بصوت مرتفع ناشئ عن غضب:
ــ علي، وأعادها وقد قام إليه وأمسكه بذراعيه وحركه، فنظر إليه علي وعيناه مغرورقتان بالدموع وقد استرخيت عضلاته. فضمه علال إلى صدره، ودفأ وجنتيه المحمرتين، وهمس له بقوله:
ــ ما لك يا بني ؟ فقط أخبرني السبب.
وأجلسه إلى الأرض وقال له:
ــ هيا ياعلي، كن جريئا كما عهدتك، فلطالما كنت كأبيك.
فحرك رأسه وتنهد، ثم رفع عينيه إليه وقال:
ــ أعرف يا عم، ولكنك لن تصدق.
فقال صاحب علال وقد اتكأ على الباب:
ــ بلى سيصدق يا علي، ولتقص له بارتياح، سأخلد إلى النوم....
فقاطعه علي:
ــ بل أريدك بجانبي يا صاحب العم لتسمع مني كما سمعت عنك القصة، فهما من عين واحدة.
فاستجاب صاحب علال لرغبته، فجاء حتى جلس أمامه، ومد يده إلى كتفه، وهدأه بضربات خفيفة وقال له:
ــ تكلم يا علي.
وقبل أن يتكلم علي، تفكر في أمر الصلاة، فلأول مرة في حياته لن يستجيب للأذان، ولن يذهب إلى المسجد، وما كانت نفسه لتغفر له ذلك لولا أنه خدعها بقوله:
ــ سأصلي بعد قليل.
* * *
أخذ علي نفسا طويلا ثم أطلقه بهدوء، ونظرات علال وصاحبه متجهة نحوه ينتظران، فقال بعد صمت رهيب:
ــ لقد كان أبي من أسرة شريفة، آل إليه أمر البيت بعد وفاة جدي إبراهيم، إذ كان الولد الوحيد لديه، فورث لواء شرف آبائه وأجداده، وبجانبه ضياع كثيرة وأموال طائلة، وأوان من ذهب وفضة مما يعجز عن وصفه الواصفون، فكان في سعة من أمره، ورغد في عيشه، وبلغ الحد الأقصى في الزواج، فلم يرزق منهن إلا بالبنات، فأخذ يطلق ويتزوج، ويقيم الأعراس والأفراح، رغبة في مولود ذكر. فبينما هو في حيرة من أمره، ويأس من مراده، جاءته إحدى خادماته تزف إليه البشرى بمولود ذكر من زوجته رقية، فكادت نفسه تطير من شدة الفرح، وسجد لله سجدة الشكر، وأخذ يجري إلى عين المكان، فلما بلغه وجد المولود بين ذراعي جدته، فأخذه منها وقبله وصار ينظر إليه، فرأى النور بين عينيه، وأدمعت عيناه من الفرح وهو يقول:
ــ وأخيرا يا رب.
لكن المكان مصاب بصمت مخيف، فما سمع التغاريد من خادماته، ولا رأى التهاليل في وجه أمه، لتقول له أمه بعد ذلك قد ماتت أم المولود، فصار بين أمرين، أحدهما يدعو للسرور، والآخر للويلات والثبور؛ فقد كانت رقية أعز الزوجات إليه، وها هي الآن تغادر وتترك له أعز ما يتمناه.
فأقام أبي عليها الحداد ثلاثة أيام، ثم حار في أمر المولود، فاليوم السابع يقترب، والوليمة الكبرى التي نذر الله أن يولمها إن رزقه بمولود ذكر تجتمع مع الأحزان، وهكذا كان يفكر وهو في فراشه ينظر إلى المولود، فأخذته سنة من النوم فإذا زوجته رقية تقول له في المنام:
ــ قد أديت حقي يا قدور، فأد حق ولدنا علي.
فاستيقظ من سنته تلك، وفرح فرحا شديدا وأخذ المولود في يديه وهو يقول:
ــ علي، أجل سنسميه عليا.
تبركا بأحد أجداده الأولين.
ــ تقصد أنت ؟
قالها صاحب علال، فتابع علي حديثه وقال:
ــ ثم جاء اليوم السابع فأولم أبي كما نذر وليمة لم يسمع لها مثيل، اجتمع فيها شيوخ القبائل وكبراؤها، فأكلوا من أصناف الطعام واللحوم والفواكه ما يسيل عند السماع اللعاب، وكان من تمام الفرحة أن جاء المخاض إحدى زوجاته فولدت بنتا، وكان أبي قبل ذلك يفكر في أمر الرضاع، فقد مضت سبعة أيام وأنا أنتقل من حضن إلى آخر، ومن ثدي إلى ثدي، لكن اليوم سأبدأ من جديد في حضن واحد مع أختي.
مضت أيام وأيام، وأنا أنمو بشكل سريع، وكان أبي قد اعتنى بي عناية فائقة، فلا يكاد يفارقني إلا حين أنضم إلى الثدي أريد الطعام. ولما بلغت الرابعة من عمري، وبدأت أنطق بكلمات شبه مفهومة، بدأ أبي يلقنني تعاليم الدين، واستعان على ذلك بإمام المسجد، فكنت سريع الفهم، قوي الذاكرة، مما أهلني للاتحاق بالمدرسة ولمَّا أبلغ السن القانوني. وسرعان ما انقضى الطور الابتدائي من التعليم، ليتحتم على أبي إرسالي إلى المدينة لمتابعة الدراسة؛ فالطور الثانوي لا يوجد في القرية. هكذا حكت لي جدتي في إحدى حكاياتها الكثيرة، وهي تمسح بيدها على شعري تريد إخلادي إلى النوم.
التحقت بالمدرسة بعد أن ودعني أبي وأوصاني وصايا الشرفاء، وقد أودعني عند خالي إسماعيل، لكني وجدت الجو مغايرا للطور الابتدائي، فهناك على الرغم من اجتهادي في الدراسة وجدت صعوبة في التعامل مع الزملاء، لقد صاروا يضايقونني كل يوم، وينادونني بالمتزمت الصغير، وأصابعهم متجهة إلي، وهم يغمزون ويلمزون ويضحكون، تارة في جلبابي الأبيض الواسع، وأخرى في طاقيتي الحمراء، مما دفع بي بعد نصيحة خالي إلى التخلي عن مظاهر الشرفاء، لكنني صدمت بمشكلة في التفكير، فطالما أطلق زملائي ضحكات يذوي بها القسم بسبب كلام قلته، أو فكرة ابتكرتها، ولطالما عارضت الأساتذة، وهم تارة يضحكون وأخرى يستغربون، لكنهم يعلمون أن الزمن لن يطول حتى أكون واحدا منهم، فأنا ما أزال صبيا يقبل التعليم، وينبهر بما لم يسمعه وما لم يره من قبل. وكان الأمر كما يقولون، فقد أصبحت فجأة أنتقد أفكارا تنسب إلى الشرفاء، وأثور على العادات والتقاليد، وأدعوا إلى الحضارة التي أسمع بها وأقرأ عنها في الجرائد والمجلات، فكانت كتاباتي في مثل هذه المواضيع، وصرت أمهر كاتب من بين التلاميذ، مما أتاح لي فرصة التعرف بكثير من الأدباء والشعراء، فتعلمت منهم في شتى ميادين الحياة، والحق أقول: لقد رأيت النور بعد ظلام دامس شديد.
ها هي الآن ست سنوات تمر، وأنا أخفي على أبي ما أحمله تجاه الشرفاء، وإن نسيت فلن أنسى ذلك اليوم الذي التقينا به فجأة أمام دار خالي إسماعيل، فرآني في قميص برابطة عنق وسروال، وقبل أن يعلمني بوفاة جدتي، أوسعني شتما وسبا وكاد يضربني لولا أن خالي علل له ذلك بكذبة.
* * *
جاءت أيام الجامعة، فالتحقت بشعبة اللغة العربية وآدابها، حيث وجدت حرية في التفكير والتعبير أكثر، وحيث رأيت مظاهر الحضارة والتقدم في الحياة، مما جعل نظرتي إلى الشرفاء تزيد حدة، فهم يعيقون التقدم بالبلاد، ويخدعون الإنسان القروي الساذج من وراء زيهم ذاك.
وسرعان ما مرت سنوات ثلاث، لأجد نفسي في جلباب عريض، جالسا مع أبي يُلمِّح بشيء من بعيد، مثرثرا في كلامه على فضل الشرف والشرفاء، وفجأة لم أتمالك نفسي واعترضت عليه قائلا:
ــ إنهم ذئاب يا أبي لا شرفاء، والشرف الحقيقي لمن ينهض بهذا البدوي الفقير من جهله وتعاسته، إلى نور الحضارة والواقع، أما هؤلاء، فيملؤون فقط جيبه وبطنه، ويتركون عقله في الظلمات، وكأنهم لا يعلمون بأن البطن والجيب يحشيان بأي شيء.
فما سمع أبي هذا الكلام حتى قام من مقامه واحمر وجهه وانتفخ أنفه، وتركني وهو يقول:
ــ لقد صدقوا فيما يقولون.
وصرت أتساءل: ترى من صدق؟! لتخبرني بعد إحدى زوجاته أن الوشاة نقلوا إليه ما كان عليه أمري في المدينة، وأنه ما أرادني بجانبه إلا ليُعَرِّفني بشرفاء القبائل،ويُعِدَّني لتسليم مفاتيح البيت، فأنا قرة عينه وأمله الوحيد. ثم مرت أيام وأيام، وأنا في خلوة بنفسي واعتزال من أمري أحاول الهروب من الواقع، وأتساءل مع نفسي إن كنت أستطيع القيام بما أرادني أبي له، فقررت أخيرا أن أُطمئِن قلبه ما بقي في الحياة أو ما بقيت، فقد جعلني أساسا لأحلامه وتمنيه، وإذا انهدَّ هذا الأساس انهد كل شيء، بما في ذلك أبي.
وما أن استقر أمري على هذا القرار، حتى خرجت مسرعا إلى أصدقائي القدماء، أولئك الذين قضيت معهم الطور الأول من التعليم، فوجدتهم في نفس المكان الذي كنا نجتمع فيه ونحن صغار، فحكينا حكايات وضحكنا ضحكات، وأخذ الكلام يجرنا من هنا إلى هناك والحديث ذو شجون، حتى إذا لم يبق لأذان الفجر إلا القليل، تفرقنا وراح كل إلى داره في مرح وارتياح، فما أن دققت الباب ــ وقد نسيت المفتاح ــ حتى خرج إلي أبي و...
فغلبت الدموع عيني علي ولم يستطع معها إخراج الكلام، وأخذ علال وصاحبه يهدئانه بكلام رقيق لطيف، فمكث هنيهة حتى استجمع أنفاسه من جديد وقال:
ــ فكان الأمر كما ترون، بعد أن لمحت الضوء في هذا المكان وأنا تائه.
فسكت قليلا ثم نظر إلى صاحب علال وقال:
ــ أما عمي علال هذا فأعرفه منذ الصغر، كان دوما يكلمني بالعربية الفصحى عند لقائي له، ويشجعني على السير قدما في طريق العلم وهو يقول:
ــ الحقيقة مجهولة، ولا يمكن أن تكتشف إلا بالعلم.
غير أني لم أكن فضوليا في يوم من الأيام لأسأله عن مكان بيته، بل كل ما أعرفه أنه فرد من أفراد القرية لا يخالط الناس إلا لماما.
طأطأ صاحب علال رأسه وقد تأثر بهذا الحديث، وأغمض علي عينيه وقد أتاه النوم، أما علال ففاضت عيناه بالدموع، ليسود الغرفة بعد ذلك صمت رهيب وقد استولى عليهم النوم.
أما الشريف قدور، فقد جاء إلى المسجد وقد كان اليوم يوم جمعة، فصعد على المنبر وقد جن جنونه، فأخبر الناس أنه بريء من ولده علي، وأن بيته من زجاج قد يكسرها أدنى شيء، وأنه لن يسمح لأحد في تخريب بيت الشرفاء.
* * *
أشرفت الشمس على الغروب، وبدأ الصمت يسود القرية من جديد، فاستيقظ علي من النوم ورأى علالا وصاحبه في نوم عميق يغطون، فصاح باسم العم علال، ففتح علال عينيه وقال:
ــ ماذا هناك يا علي؟
علي ــ لعلنا استغرقنا في النوم معظم النهار!
علال: ــ أجل، ألا يظهر لك من تسلل الظلام إلى البيت؟!
صاحب علال: ــ وبعد، ماذا تقترح يا علي؟
علال: ــ أوهذا وقت الاقتراحات؟!!
فقام وخرج، وأخذ صاحبه وعلي يتحدثان وقد تآلفت الطباع في جو شاعري خلاب. فلما رجع علال وقد حمل الطعام في يديه، وجدهما واقفين متعانقين بسرور، فسأل مستغربا عن سبب ذلك، فأخبراه أنهما عازمان على السفر الليلة، ولن تضيق بهما الأرض بعد الآن، وسيعيشان حرين طليقين وبدون قيود. فوقف علال واجما لا يدري ما يفعل ولا ما يقول، ثم وضع ما بيديه من طعام وقد ملئت عيناه بالدموع، فأراد أن يقول شيئا فسبقه علي وقال:
ــ بدون تعليق يا عم، فهذا هو الحل الوحيد، وستصلك أخبارنا ولن ننساك أبدا ما دمنا في الحياة، فضمه علال إلى صدره، وضم بعده صاحبه في انتحاب ونشيج شديدين وهو يقول:
ــ ويحكم أبناء الشرفاء !!
فحزم صاحبه أمتعته ثم انطلقوا لما ساد الظلام البلاد.
* * *
مرت أيام وشهور وأعوام، وبينما علال جالس قرب هضبة يتدفأ بأشعة الشمس قبل الغروب ــ وقد صار يفكر في أمر صاحبه وعلي، ويتساءل في أي البلاد تُرى هما الآن، ولماذا لم تصله أخبارهما بعد، ويتفكر في أمر الشريف قدور، وكيف تحول بيته من عزة وشرف إلى تخريب ودمار، بعد أن اقتسم أقاربه أراضيه وأمواله وهو لا يملك من الأمر شيئا ــ جاءه ساعي البريد برسالة ففتحها بسرعة فوجدها تقول:

إلى صاحبي علال:
تحية مني وسلام إليك يا صاحبي العزيز.
أما بعد:
لقد علمتُ كم ستتوق لسماع الأخبار عنا من قريب أو بعيد، كما علمت أنك دوما تنتظرها حتى يريحك النوم من الانتظار، لكن عذرا فليس للمرء ما يشتهيه ويتمناه.
فبعد أن فرق بيننا الزمن الخؤون، صرنا ننتقل في البلاد من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى أخرى، حتى لم يبق مكان إلا ورأيناه، ثم استقر بنا الأمر أخيرا في قرية قرب البحر. لن أكذب عليك إن قلت لك قد وجدنا سعادتنا هناك، فالمكان هادئ، والأرض خضراء، وأنواع الخضر والفواكه مبثوثة في كل مكان، فصرنا نعمل بالنهار من أجل القوت، ثم نقضي معظم الليل في الحكايات والأقاصيص، وكان علي دوما يسأل عنك وعن تلك الأصوات التي سمعها في البيت، وكنت أتجنب الجواب بشتى الوسائل قائلا له: أنت أعرف به مني. لكنه ألح في الجواب يوما من الأيام، فأخبرته أنك من أبناء الشرفاء، قد فعل بك الزمن ما فعل بنا، وأن بيتك عبارة عن حانة بالليل، وجدار فارغة بالنهار، فتأسف لحكايتك ومصيرك، وأخذ يردد قولك ذلك اليوم كله: ويحكم أبناء الشرفاء!.
وفي يوم من الأيام، وبعد أن علمنا بمركب يصل بالشباب إلى ما وراء البحر، اقترح علي أن نهاجر إلى هناك، فنهيته وزجرته، لكنه أخيرا صمم على الرحيل وحده، فلطالما فتنته أخبار تلك البلدان والحضارات. وفي ليلة من الليالي كان بيننا الوداع الأخير، وقبل أن يركب البحر صرخ إلي بهذه الكلمات:
ــ أكتب إلى عمي علال، وأبلغه تحياتي الحارة، وقل له أن يعين ما بقي في أبي إن بقي منه شيء، وأخبره أننا نترك الأرض والأوطان في سبيل الرقي والازدهار، وأن الأقدار تعمل عملها بدون النظر إلى مقدار الأشياء، فطوبى للنقي وإن هو غريب، وويل للقذر وإن هو مقيم.
وفي الصباح عثرنا على جثث قذفها البحر، فإذا هو من بينهن تعلو وجهه سحابة بيضاء، فعزاؤنا فيه يا علال...
أما أنا فيُصارِعُني الموت في الفراش، ولكي لا أكلفك ما لا تطيق، لن أخبرك عن البلاد التي قذفتني إليها الأقدار، فالوداع الوداع .
محمد الذهبي، مدينة ورزازات، المغرب.2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهدوا الإطلالة الأولى للمطرب پيو على المسرح ??


.. أون سيت - فيلم -إكس مراتي- تم الانتهاء من تصوير آخر مشاهده




.. أون سيت - فيلم عصابة الماكس يحقق 18 مليون جنيه | لقاء مع نجو


.. أون سيت - أول عرض | فيلم النمر والأنثى مع إنجي يحيى




.. أون سيت - محمد ثروت بيحكي عن الجزء الثاني من فيلم بنك الحظ