الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صفحةٌ أخرى منَ الذاكرة

ييلماز جاويد
(Yelimaz Jawid)

2011 / 5 / 23
أوراق كتبت في وعن السجن


نُقلنا يوم 28/4/ 1963 من قاعات الإعتقال ( الشيدات ) في معسكر الرشيد إلى مركز شرطة الفضل ، حيث كانت اللجنة التحقيقية قد إتخذته مقراً لها . رغم أن القتل العشوائي كان مرهوناً بمزاج الجزّار (المحقق ) المرتدي لباس الحرس القومي ، فقد كانت صيحات بعض الشيوعيين تحت التعذيب الممزوجة بضحكات معذبيهم تعلو دون إعتبار لساعات الليل أو النهار . مع كل ذلك فقد كان هناك بعض الوقت الذي يستغله أحد الجزارين منهم ليتفاخر ويحدث المعتقلين ببطولاته ورفاقه . ولم أظن أبداً أن يكون ذلك جزءاً من حرب نفسية لإضعاف نفوس المعتقلين وتهيئتهم نفسياً للإعتراف ، طالما كانت هناك وسائل تعذيب أبسطها الصوندة والتي هي في الحقيقة قطعة من كيبل من أسلاك النحاس مغلف بغلاف مطاطي ، وبطول لا يزيد على سبعين سنتيمتراً .

الحياة مدرسة ، ودروسها عميقة لمن يستفيد منها ، بغض النظر عن ظروفها .

في يوم كان فاضل جلعوط ( وهو حارسٌ قومي ، أعور العين ) ، يجلس على كرسيٍّ قبالة الشبااك الوحيد للغرفة التي تزدحم فيها أجساد المعتقلين . أخذ يتحدث إلينا وكأنه يلقي علينا محاضرة ، بدأها كما يلي : " جاءتنا إخبارية عن مكان وجود حمدي أيوب ، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والمسؤول عن مطابع الحزب . أعددنا ثلاثين من الحراس القوميين مزودين برشاشات بورسعيد وثلاث سيارات مدرعة وذهبنا في منتصف الليل إلى الموقع في الكاظمية وقمتُ بتوزيع بعض قوات الحرس على بيوت الجيران لكي يهجموا على الهدف من السطوح والبعض الآخر في الزقاق خلف الدار ، وأمرت بكسر الباب وهجمت إلى داخل الدار ومن خلفي بعض الرفاق من الحرس ، فوجدنا حمدي في الفراش . وجلبناه دون أن تبدر منه أية مقاومة . عندما وصلنا إلى المقر أجلسته أمامي وقلت له أنّي أعرف أنك عضو لجنة مركزية ومسؤول عن مطابع الحزب فالأفضل لك أن تعترف وتدلنا على مواقع المطابع . فأجابني : أنك مخطئ ، أنا لست عضو لجنة مركزية و لا مسؤولاً عن مطابع الحزب . فقلت له : يا حمدي ، إنك لا بد أن تعترف فوفر على نفسك التعذيب . فقال لي : أنظر إلى أصابع يدَيّ ورجليّ فقد تمّ قلع أظافرها في التعذيب في العهد الملكي البائد ، وأنا حمدي أيوب لا أخاف التعذيب . تحداني فقلت له : إذن شوف من هو فاضل جلعوط .

ربطت يدي حمدي على شباك ، على إرتفاع قليل من رأسه ، ونزعت عنه قميصه ، وكنا في شهر آذار، ولا زال الطقس بارداً ، فصببت على جسمه سطلاً من الماء البارد ، وبدأت بضربه بالصوندة ، وكلما ينشف الماء أصب ماءً ، وكلما أتعب أو أريد تدخين سيجارة أو يحين موعد الطعام ، أكلف أحد الرفاق بالعمل . إستمر صبّ الماء والضرب بالصوندة ليل نهار بدون إنقطاع . وكلما يفقد وعيه سواء من الألم أو الإعياء نصحّيه بالماء البارد . وبعد ثلاثة أيام على هذا المنوال ، طلب حمدي الكلام وأبدى إستعداده للإعتراف . إعترف لنا بموقع معيّن ، وعندما ذهبنا إلى هناك وجدنا مطبعة واحدة ، وهي المطبعة التي كانت تستخدم لطبع كراس ( مناضل الحزب ) فوضعنا اليد عليها . ولما عدنا طلبت منه أن يعترف بمواقع المطابع الأخرى ، فإدّعى أنه لا يعرف غير هذه المطبعة . فعدت إلى شدّ يدَيه إلى الشباك وضربه بنفس الأسلوب السابق . تحمل حمدي الضرب ثلاثة أيام أخرى ، حتى إعترف بموقع مطبعة أخرى ، تبيّن أنها التي كانت تستخدم لطبع بيانات الحزب ، وأنكر معرفته بالمزيد . وهكذا عدت إلى تعذيبه وفي كل مرة يتحمّل ثلاثة أيام حتى يسلمنا إحدى المطابع ، وفي نهاية المرة السادسة ، أي بعد ثمانية عشرة يوم ، بساعاتها الأربعة والعشرين ، متواصلة من الضرب بالصوندة سلّمني حمدي مطبعة ( طريق الشعب ) ، وتأكدت أن الرجل قد أفضى جعبته ... ".

لم يحدثنا فاضل جلعوط ، كيف مات حمدي أيوب ولماذا بعد أن إعترف بكل ما يعرفه .

الدرس الذي نستفيده من هذه القصة ، رغم بشاعة أحداثها ، وبإختلاف وجهات النظر إلى إعترافات حمدي أيوب ، سواء من إعتبره خائناً ، أو مَن إعتبره بطلاً ، فإن الدرس أن الإنسان عندما يسقط في قيمه فإنه لا يسقط منها مرّة واحدة ، فحمدي قد سقط درجة واحدة في تسليمه أوّل مطبعة وبقي محافظاً على قيمه التي كان يعتبرها أفرض في الحفاظ عليها ، ثم سقط درجة أخرى وأخرى والراسخون في العلم هم وحدهم مؤهلون أن يشهدوا له . فربما كانت هناك أسرارٌ أخرى مهمة حافظ عليها قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبال من القمامة بالقرب من خيام النازحين جنوب غزة


.. أردنيون يتظاهرون وسط العاصمة عمان ضد الحرب الإسرائيلية على ق




.. كيف يمكن وصف الوضع الإنساني في غزة؟


.. الصحة العالمية: المجاعة تطارد الملايين في السودان وسط قتال ع




.. الموظفون الحكوميون يتظاهرون في بيرو ضد رئيس البلاد