الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليهود النازحين من العراق - إبراهيم عوبديا الشاعر الهاديء

دينا سليم حنحن

2011 / 5 / 24
الادب والفن


أول شيء فعله اليهود النازحين من دول العالم الى أرض فلسطين هو القيام بتغيير أسمائهم بالكامل، أو تحويرها لتبدو أسماء يهودية تناسب والمكان الذي وصلوا اليه، ذلك المكان الذي علق في أذهانهم بأنه أرض تحمل في طياتها اللبن والحليب والعسل، حسب ما ذكر في التوراة، فقد ذكرت هذه المقولة ستة عشر مرة، وذكرت خمس مرات في باقي الكتب المقدسة التابعة للدين اليهودي، مما يدل على امتداح الدولة اليهودية بأوصاف اعتمدت كليا على الثروات الطبيعية الموجودة في أرض كنعان الخصبة مقارنة مع أرض الفراعنة القاحلة، حيث وفرة حليب المواشي، أو حليب التمور بأنواعها، والمقصود هنا الأرض الخصبة غنية التي تطرح فاكهة لذيذة كالعسل.

من خلال تتبعي لظاهرة تغيير الاسم هذه، حتى هنا في استراليا من جانب النازحين العرب أيضا، وخاصة العراقيين الذين وصلوا بعد سقوط النظام، وأتساءل، هل لتغيير الاسم أسباب معنوية وروحية تدعم نسيان الماضي وهل للمكان المنزوح إليه عامل مؤثر على حياة الفرد؟ أعتقد أنها دراسة معقدة يلزمها نصف قرن من البحث.
تغيير الاسم عادة يكون نابعا من عدم الشعور بالسلام، فالشخص الذي ينزح من مكان الى آخر يشعر بنوع من التشتت والضياع، وربما يكون السبب رغبة منه في التنصل من الهوية التي تلبسه، أو ربما اعتاد على التغيير وذلك حسب المناخ السياسي الذي كان، وربما لكي لا يشعر الشخص النازح بالعزلة فيقرر أن يبدّل اسمه فيختار اسما آخر يتناسب والمكان الذي وصل إليه، كثيرون تحولوا من اسم ( علي) الى (إيلي)، ومن اسم سعد الى (سام) والخ من الأسماء المستعارة، يشعر الشخص بعد ذلك بالراحة والأمان، وحسب نظرية التأقلم في موضوع علم الاجتماع، ولكي يستطيع المرء أن يتكيف في مجتمع مختلف عن مجتمعه يجب أن يغير بعضا من معالمه القديمة أو يجهض كل شيء يمكن أن يعيق تأقلمه وانخراطه في مجتمع مغاير، ولكي يكون مقبولا على البيئة الجديدة يجب أن يكون شبيه لها.

ذكرني هذا الأمر بما حصل معي عندما اتصلت في يوم ما بأحد الشعراء الكبار الذين وصلوا من بلاد الرافدين الى أرض الميعاد، وهذه تسمية أخرى لأرض كنعان، فلسطين اليوم، أو إسرائيل الموعودة وحسب التوراة أيضا، أو الدولة العبرية كما يطلقون عليها، فقد تعددت التسميات على هذه البقعة صغيرة الأكثر سخونة من كرتنا الأرضية.
وذلك لأني أردت إلقاء الضوء على مسيرته الحياتية الطويلة فأضعها داخل حوار أقوم بنشره في إحدى الصحف المحلية، للأسف الشديد أصبح هذا الشخص اليوم في عداد الأموات، الشاعر إبراهيم عوبديا لم يمهله المرض من أن يضع آخر قصيدة في حياته تتحدث عن العراق، مكان مولده، خطفه الموت ولم يكتمل الحوار بيننا، لكني أذكر آخر ما قاله لي عندما خاطبته باسمه باللغة العبرية:
- يا دينا ناديني باسمي الحقيقي، أنا اسمي إبراهيم وليس (أبراهام) كما يطلقون علي هنا في حيفا، أنا عراقي ولدت في بغداد، عراقي حتى النخاع حتى لو نزحتُ الى هذه الأرض، منذ وصولي الى هنا والشوق للعراق يعصف بي، وأجمل شي أتذكره هو عندما كنت أمرح وألعب مع أترابي في أحياء البصرة حيث عشت فترة لا بأس بها من طفولتي فشبابي، ناهيك عن ذكرياتي الجميلة التي قضيتها في بغداد!

حافظ إبراهيم عوبديا على اسمه الحقيقي وحرص على أن يتحدث معي بلهجته العراقية الأصيلة، مشددا على عدم استخدام أي كلمة غير عربية أثناء المحادثة مما أدهشني فعلا، أذكر أن حواراتنا استمرت ساعات عبر الهاتف وهو سعيد بها لأنه وجد من يتحدث معه بلغة يعشقها، قال لي في يوم بينما طالت رحلة مرضه:
- لو تدرين كم مرت علي الأيام حزينة وأنا في المستشفى، لم أجد من يتحدث معي باللغة التي أحبها غير زوجتي (جولييت)، هم هنا لا يعرفون أني أحب اللغة التي هي دليل مكان ولادتي، العراق، لا وقت لأن يتحقق الحلم بعد، لا وقت، انتهى الوقت...
كان يقصد بالحلم، هو أن يزور العراق ولو لساعة واحدة قبل أن يرحل عن الدنيا، وفعلا ارتحل هذا الشاعر الهاديء جدا، طيب القلب في آخر يوم من سنة 2006 في مستشفى الكرمل الواقع على جبل شامخ في مدينة حيفا المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وذلك بعد أن رحلت من فلسطين الى أستراليا بعدة سنوات، لم يكتمل الحوار الذي بدأ بيننا، أذكر أني تحدثت مع زوجته عبر الهاتف وسألتها عن المسودة، بكت عبر الهاتف وقالت لي:
- لقد سأل عنك قبل أن يرحل، أراد أن يقول لك أشياء جميلة لكي تقومي في تدوينها، لم يستطع أن يمسك بالقلم، تعوّد على صوتكِ، لكنك اختفيت فجأة.

استطاع إبراهيم عوبديا أن يكتب آخر قصيدة محزنة للغاية يطلب فيها من الخالق أن يرحمه وأن يخفف من عذاباته، وأن ينجي العراق من أزمته حيث قال: " يا رب نجّ العراق اليوم من محنته واجعله يزهو كما قد كان في زمنه، يا رب وانعم عليه بالسلام، فقد آن الأوان لينجو اليوم من شجنه، دع الرخاء يعمّ الشعب أجمعه والخير في ريفه يجري وفي مُدنه، وأنشر عليه جناح العزّ، ليس له إ لاك في يأسه يا رب أو وهنه، تغنيه وحدته إذ جدّ عن فتنِ حتى وإن جعلتها اليوم من محنةٍ ".

هذا الشاعر الذي مات في وطنه عن عمر يناهز الثمانين عام عاش غربة الوطن تماما، حتى لو بقي على اسمه الحقيقي، والمتتبع لمسيرته الأدبية سوف يلاحظ أنه بقي يكتب في حرارة القلم ولم يتخلّ عن لغته العربية الفصحى، له خمسة عشر ديوان وديوان واحد بالعامية العراقية، وترك العديد من الأغاني التي تغنى بها المطربين العراقيين النازحين من العراق في إذاعة صوت إسرائيل باللغة العربية، هذا الجيل من النازحين أثرى وأعطى الكثير للحياة الثقافية في فلسطين الداخل، استمر في عطائه سنوات عديدة وحتى بدأت تتبدّل الأدوار، فقد استلموا وزارة الإعلام، الإذاعة والتلفزيون ووضعوا المناهج الدراسية الناطقة باللغة العربية، لقد استطاع هؤلاء الأشخاص إحياء التراث العربي واستطاعوا أن يؤسسوا لهم رابطة تعنى بأعمالهم التي كتبت باللغة العربية فقط، سميت " رابطة اليهود النازحين من العراق".
ولد إبراهيم عوبديا في بغداد سنة 1924 ، انتقلت أسرته الى البصرة وهو في الرابعة من عمره، وفي سنة 1940 انتقل الى بغداد لإتمام دراسته الثانوية، لمع اسمه على الصعيد الأدبي والثقافي في بغداد، نزح الى إسرائيل سنة 1951 ، ومنذ رحيله وحتى يوم وفاته تحدث باللغة العراقية المحكية وحرص أيضا على أن يناديه الجميع باسمه الحقيقي الذي أتى معه من بلاد أحبها وذاق حسرتها مرتين، مرة عندما ارتحل عنها ومرة عندما رآها تنهار وهي بعيدة كل البعد عنه وهو على السرير الموت.
من أسماء بعض مؤلفاته:
خفقات قلب – مطبعة الرشيد – بغداد 1945 طبعة أولى
وابل وطل – مطبعة الرشيد – بغداد 1946 طبعة أولى
في سكون الليل – مطبعة الاعتماد القاهرة 1947
زهرة في خريف – مطبعة الرشيد – بغداد 1951
وغيرها طبعت بعد ذلك جميعها في فلسطين الداخل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بعض أسباب تغيير الشرقي المُهاجر لإسمه الحقيقي
الحكيم البابلي ( 2011 / 5 / 24 - 22:20 )
السيدة دينا سليم
خلف تغيير المُهاجر لإسمهِ أسباب عديدة ، منها
صعوبة تلفظ إسمه من قِبَل المجتمع الذي هاجر إليهِ ، مثلاً الكثير من أسماءنا الشرقية تحوي حروفاً لا يُمكن لغير الشرقي التلفظ بها ، مثل ( ق ظ ض ع ط ح ) ولهذا يقوم المُهاجر بإختيار إسم غربي مُقارب لأسمه ، وخاصةً في مجال العمل مع الغربيين ، مثلاً عصام تستبدل ب : سام ، ورؤوف تصبح : رَي
كذلك هناك البعض من غير المسلمين والذين كانوا قد إتخذوا في أوطانهم الشرقية اسماءً عربية تجنباً للظلم والتفرقة والسخرية التي كان يواجههم بها البعض في مجتمع إسلامي مُعادي لكل ما هو مختلف ، لِذا تخلصوا من أسماءهم في الغرب بعد شعورهم بنسمات الحرية الدينية والقومية ، أحد أصدقائي من مسيحيي العراق قال لي ذات يوم : لم يستعبدني شيئ في العراق كما إستعبدني واذلني إسمي المسيحي
السبب الثالث هو أن الشرقي الذي يعيش في الغرب ، وبغض النظر عن كونه مسيحي أو مسلم يحاول إخفاء إسمه العربي لأن العالم الغربي لم يعد يحترم العرب والإسلام بسبب كل السلبيات التي جلبها (بعضهم) للغرب وللعالم ، وأكبرها الإرهاب الذي جاء بإسم الدين الإسلامي
وطبعاً هناك أسباب كثيرة أخرى
تحياتي

اخر الافلام

.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف


.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال




.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف


.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج