الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنهى دوره

أوري أفنيري

2004 / 11 / 3
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


"أنهى دوره"
أذكر حين وقفت على سطح أحد الأبنية في ميناء بيروت وشاهدت مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية المسلحين يلبسون بزات بلون كاكي وعلى رأسهم ياسر عرفات، يستقلون سفنا لتنقلهم باتجاه الغرب. "نهاية عهد عرفات" كتبت الصحف الإسرائيلية غداة ذلك اليوم والفرحة تغمرها. وأعلن الراديو أن "عرفات هو حصان ميت!". أما التلفزيون فقد رفع دعواته إلى السماء قائلا "الحمدلله أننا تخلصنا منه".

لدى عودتي إلى تل أبيب دعيت إلى مقابلة في إذاعة الجيش الإسرائيلي. وبهدف خلق توازن في المقابلة دعي أيضا صحفي يميني وهو طومي لبيد. قبل دخولنا إلى الاستديو، تحدثنا قليلا، ولا أدري إن كان ما زال يذكر الجملة التي قلتها له: "لقد دفنتموه مئة مرة، وسوف تدفنونه مئة مرة أخرى".

مرت 22 سنة منذ ذلك الوقت، وها هي نفس العناوين تظهر ثانية في اليومين الأخيرين: "نهاية عهد عرفات! عرفات حصان سياسي ميت! الحمدلله أننا تخلصنا منه!"

ها هو ذلك الرجل الذي أعلنت حكومة إسرائيل عنه بأنه قد "أنهى دوره"، يتصدر نشرات الأخبار في جميع الدول. لا يوجد زعماء كثيرون في العالم كان من شأن مرضهم أن يثير مثل هذا الانفعال.

لست على علم بوضعه الصحي تماما. لكني أتمنى أن تعود قوته إليه، وأنا أعلم أنه إذا توفاه الله، لا سمح الله، فإن الجمهور في إسرائيل سوف يحن إليه.

قال لي المفكر المصري أحمد السيد أحمد وهو أحد أبرز المفكرين المصريين في أحد الأيام الأولى من مؤتمر كامب ديفيد: "لو لم يكن ياسر عرفات موجودا لكان من الحري بكم أن توجدوه. مع وجود عرفات يكون لديكم عنوانٌ واحدٌ لإدارة المحادثات وصنع السلام معه. لو لم يكن عرفات موجودا، لكان من شأن الشعب الفلسطيني أن يتفتت إلى عشرات الشظايا، وكان عليكم التحاور مع كل شظية منها على حدة".

من لا يتطلع إلى السلام، بل إلى أرض إسرائيل الكبرى، ليس بحاجة لعرفات. بل على العكس. أما من يعتقد بأن السلام هو شرط أساسي لانتعاش وتطور دولة إسرائيل، فهو في أمس الحاجة إلى عرفات.

قال عرفات ذات مرة: "يدي هي اليد الوحيدة القادرة على التوقيع على معاهدة سلام مع دولة إسرائيل!"

ولذلك لا بديل لعرفات: إنه الزعيم الفلسطيني الوحيد الذي يتمتع بالتخويل الأخلاقي الهائل المطلوب للتوقيع على سلام مع إسرائيل. والأهم من ذلك: إقناع شعبه بقبول هذا السلام. لأن أي سلام يكون منوطا بتنازلات موجعة تمزق قلب الشعب الفلسطيني، مثل حق العودة غير المحدودة إلى إسرائيل. ليس هناك أي زعيم آخر يتمتع بالجرأة كي يطلب ذلك.

من أين له هذا التخويل؟ لقد رأيته مرارا بصحبة زعماء فلسطينيين آخرين. وفي كل مرة كنت أتعجب من قوة النفوذ الذي كان يتمتع به بين الناس. دون أي نهج سلطوي. من الصعب تفسير مصدر هذا النفوذ. خلافا لفيدل كاسترو، على سبيل المثال، الذي اعتلى الحلبة الدولية في نفس الوقت مثل عرفات، لا يوجد لدى الزعيم الفلسطيني قوات عسكرية أو شرطة سرية هائلة أو سجون ليجز معارضيه فيها. تنبع قوته كلها من الاحترام الذي يكنه له كل أبناء شعبه، من منطلق مكانته "كأبي الأمة"، جورج واشنطن أو دافيد بن غوريون الفلسطيني.

منذ لقائنا الأول في بيروت المحاصرة، في تموز 1982، أخذني عدم وجود أي تكلّف من حوله. كان رجاله يقاطعونه، خلال الاجتماع، ويتناقشون معه ويصححون الأخطاء التي كان يقع فيها. غير أن نفوذه كان واضحا للعيان دون الحاجة إلى أي مؤشرات شكلية لوجود مثل هذا النفوذ.

سألني أحد الصحفيين الأوروبيين عن هواياته. ماذا يفعل حين يتفرغ من أمور القضية الفلسطينية. فقلت له أنه ليست له هوايات، ولا تمر عليه لحظة واحدة لا يتعامل فيها مع القضية الفلسطينية. تعاطفه مع القضية الفلسطينية هو تعاطف تام. لا يعيش عرفات أي حياة أخرى.

من يقابله لأول مرة يندهش من الفرق الشاسع بين صورته الإعلامية وبين الرجل ذاته. يبدو عرفات في التلفزيون شخصا متطرفا وهجوميا، أما في الواقع فإنه إنسان دافئ، يراعي مشاعر الآخرين ويبث حوله جوا من العاطفة. حتى من يجالسه لأول مرة يشعر، بعد مرور دقائق معدودة، وكأنه يعرفه منذ زمن طويل. إنه يحب إكرام ضيوفه أثناء تناول الطعام، وأن يقدم إليهم أفضل المأكولات بكلتا يديه. إنه يحب أن يلمس من يتحدث معه وأن يقوده بنفسه داخل الأروقة وأن يقدم له الهدايا الصغيرة.

عرفات ليس مفكرا أو رجل كتب ونظريات. إنه بديهي بكل جوارحه. يستوعب الأمور بسرعة تثير العجب، ولا ينسى أي شيء أبدا. لقد أخطأت ذات مرة، في لقاء معه، فيما يتعلق بعد أعضاء الكنيست من كتلة أغودات يسرائيل، فصحح خطأي على الفور. وفي مرة أخرى، حين أخطأت بالنسبة لتاريخ إحدى اتفاقيات أوسلو، صحح خطأي ثانية. "مهنتي مهندس" قال مبتسما، "ولا أنسى الأرقام أبدا".

مثله مثل كل الأبطال العرب على مر التاريخ، فهو رجل البوادر. بادرة واحدة أفضل من ألف كلمة. في أول يوم من عودته إلى البلاد، دعاني إليه قبل وقت قصير من عقده مؤتمرا صحفيا لكل وسائل الإعلام من العالم العربي. دخل إلى القاعة، وتوجه إلي مباشرة، وبعد العناق الاعتيادي أخذني من يدي وقادني، بقوة تقريبا، إلى المنصة. لقد قادني على الدرج وطلب من الناطق بلسانه الوقوف وأجلسني إلى جانبه. لقد تحدث لساعة من الزمن إلى الصحفيين باللغة العربية، وبين الفينة والأخرى توجه إلي كمن يطلب الموافقة.

جلست أفكر مليا في الأمر: ما الحاجة من هذه المسرحية كلها؟ وفجأة استوعبت الأمر. بهذا الأسلوب البسيط، شرح للعالم العربي ما يقصد: لقد حُسم الأمر. أنا اجلس مع الإسرائيليين وسأتوصل معهم إلى سلام.

عرفات ينتعش في حالات التوتر الكبير. رأيته أكثر من مرة في مثل هذه الحال، حين كان في ذروة نشاطه، ثاقب، عيناه تبرقان ويمزح. إنه معتاد على ذلك: كل حياته هي خليط من المرتفعات والمنخفضات، حالاات النجاح والفشل. لقد ارتكب، بطبيعة الحال، أخطاء كثيرة (على سبيل المثال، تأييده لصدام عشية حرب الخليج الأولى)، ولكن هذه الأخطاء تتلاشى أمام إنجازه العظيم: لقد أسس الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، في الوقت الذي كاد فيه الشعب الفلسطيني أن يمحى عن الخريطة، وهو الذي أوصله إلى عتبة الاستقلال الوطني. وكما حدث للنبي موسى الذي أخرج شعبه من مصر إلى بوابة أرض الميعاد. يحدوني أمل بألا يقال عن عرفات بأنه رأى البلاد عن بعد فقط.

لقد توصل إلى كل ما توصل إليه رغم تفوق إسرائيل الهائل في كافة المجالات، ورغم نفور الحكومات العربية عنه، رغم التأييد العارم الذي تحظى به إسرائيل في العالم كدولة الناجين من كارثة النازية.

ولا يقل أهمية عن ذلك: لقد تمسك بالقضية الفلسطينية خلال عقود من السنين ليبقيها متماسكة، رغم التضاربات الداخلية الهائلة. لم تنشب داخل الحركة الوطنية الفلسطينية تقريبا تلك الانشقاقات الكبيرة كما يحدث لدى حركات التحرير الأخرى.

لقد اضطرت الحركة الوطنية الفلسطينية في سنواتها الأولى إلى العمل من داخل دولة عربية كانت تحسب لها ألف حساب وكانت تحاول قمعها. كل زعماء الحركة، ومن بينهم عرفات، زجوا في أحد السجون العربية في فترة من الفترات. حاول كل نظام من الأنظمة العربية استغلال القضية الفلسطينية لصالحه. كان عرفات بحاجة إلى كل الحيل التي تحولت لاحقا إلى شيء يميزه. لقد شرحت لي إحدى الدبلوماسيات الفلسطينيات الأمر ذات مرة: "لكي تصمد الحركة وتتطور، كان على عرفات استخدام كافة الحيل والمناورات، والتحدث بلغة مزدوجة وبأنصاف الحقائق، واستغلال حاكم عربي معني ضد حاكم عربي آخر، وكل ذلك في ظروف لا تتوقف لحظة عن التبدّل. لقد كانت لديه العديد من الكرات في الهواء، ولا تسقط من هذه الكرات كرة واحدة. هكذا دفع عرفات حركتنا الوطنية وأوصلها إلى ما هي عليه اليوم".

مثله مثل أي زعيم حركة تحرير وطنية، يستخدم عرفات كل الوسائل القليلة المتاحة لديه – المكر، العنف، الدبلوماسية، الدعاية والترويج. من الممكن أن نتوقع خطواته مسبقا، إذا فهمناه وفهمنا الاضطرارات التي يتصرف بموجبها وفهمنا الأهداف التي يضعها نصب عينيه. لم أفاجأ، في السنوات الثلاثين الماضية، لا عند توجهه إلى أوسلو ولا عند توجهه إلى الانتفاضة. إذا تفاجأ جهاز الأمن العام الإسرائيلي، مرارا وتكرارا، فذلك لأنه لا يدرك الواقع الفلسطيني. يقول بطرس بطرس غالي عن المستشرقين الإسرائيليين: "إنهم يعرفون كل شيء، ولكن لا يفهمون أي شيء".

منذ 45 سنة، يعيش عرفات في ظل الموت. لم تمر لحظة واحدة في حياته دون أن يُخطط لاغتياله. حين التقينا في بيروت عام 1982، لم يكن أحد ليصدق بأن هذا الرجل سيخرج حيا من الحصار الإسرائيلي. منذ أن خطط أريئيل شارون لقتله، لاحقته نصف دزينة من وكالات المخابرات. يتمتع عرفات بقدرة نادرة على إحباط هذه المحاولات. إنه يؤمن أيضا بأن الله يذود عنه. لحقيقة هي، أنه عندما هبطت طائرته هبوطا اضطراريا خطرا في الصحراء الليبية، وقتل حراسه، خرج عرفات من الحادث دون أذى تقريبا.

كنت حاضرا عندما سُئل ذات مرة هل سيكون على قيد الحياة في اليوم الذي سيحل السلام فيه؟ فوعد عرفات قائلا "أنا وأوري أفنيري سنرى السلام في حياتنا". يحدوني الأمل، لصالح إسرائيل، أن يبقى على قيد الحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المجلس الحربي الإسرائيلي يوافق على الاستمرار نحو عملية رفح


.. هل سيقبل نتنياهو وقف إطلاق النار




.. مكتب نتنياهو: مجلس الحرب قرر بالإجماع استمرار عملية رفح بهدف


.. حماس توافق على الاتفاق.. المقترح يتضمن وقفا لإطلاق النار خلا




.. خليل الحية: الوسطاء قالوا إن الرئيس الأمريكي يلتزم التزاما و