الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حفيف رصاصة

هويدا صالح

2011 / 5 / 25
الادب والفن


حفيف رصاصة بجانب القلب
هويدا صالح
حين استيقظت في الصباح كان يحتل ذاكرتها مشهد وحيد ، غيمة صغيرة لونها ما بين الرمادي والأسود ، تكبر ، ثم تكبر حتى تملأ كل السماء ، مدت يدها التي طالت الغيمة بشكل غير منطقي وغير مبرر لها ، وأزاحتها عن السماء ، لكن الغيمة تروح وتجيئ وتظلم كل ما حولها ، وتقترب لتضغط على روحها ، تعجبت من سريالية الأحلام وعبثيتها ، وكيف أمكنها في الحلم أن تطول ذراعها حتى تمكنت من إزاحة الغيمة . استبشرت خيرا بتلك الرؤية ،بعد صلاة الصبح قامت باتصالات علي التليفون الأرضي بعد قطع كل شباكات المحمول؛ لتتأكد من وجود أصدقائها في الميدان . احتست كوبا من الشاي وخرجت . أمها حاولت منعها ، لكنها أصرت على النزول ، ووعدتها أن تحافظ علي نفسها ، وأنها ستتجنب المواجهات العنيفة. وصلت إلى نقابة الصحفيين ، فوجدت صديقتها في انتظارها فهتف مع الجموع . كانت اللحظات تمضي بسرعة وحماس غير عادي والخريطة التي ترتسم أمام عينيها تتغير شيئا ، فشيئا .كانت الكتلة السوداء التي تمثل الشرطة تترجع أمام الكتلة الرمادية التي بدأت تتجمع وتزيد لحظة بعد لحظة . كانت كأنها تسترجع رؤية الأمس حتي أن صديقتها انتبهت، ولكزتها في جنبها قائلة: اهتفي. نظرت إليها وقالت بثقة .مصر هترجع والله العظيم .قالتها ووهي تسرع بخطواتها تلتقط الصور للشباب الذي يأتي من كل الاتجاهات . كان يسير بمحازاتهما شاب يحمل علما ، ويهتف بقوة .نظرت إليه ، فانتبه إلى عيونها التي تركت كل شئ وسارت تتابعه .نظر إلى عينيها مباشرة . أمسكت نظرته بقلبها . أغمضت عيونها لحظة ، ثم فتحتها كان ما يزال يهتف ، لكنه يختلس النظر إليها .كانت الأصوات تعلو. كانت تردد الشعارات مع الأصوات المنهدرة وترفع يديها مثلهم ، لكنها كانت مغيبة ما بين روحها وجسدها . أمسكت بقلبها يدق . تساءلت هل يدق فرحا بوجوده أم فرحة بالجموع الهادرة . كانت الصفوف السوداء تترجع امام زحفهم إلى ميدان عبد المنعم رياض لحظة ذاك أمسكت بيده وضغطت على أصابعه بحميمية. لكنها انتبهت فأفلتتها وهي خجلة وخائفة من نظرته إليها ،وكيف سيفسر تصرفها ، لكنه ابتسم في ود وسار مع الجموع التي تزايدت ، فبدأت قوات الأمن تضربهم بالقنابل الغازية والرصاص المطاطي . بدأت حرب الطرقات .تفرقوا في جغرافيا قوات الأمن هم يضغط عليهم ،وهم لا يكادون يلتقطون أنفاسهم من آثار الغاز، ثم نعاود الضغط عليهم، وإعادتهم ثانية لشارع القصر العيني . بعد ساعات من مطاردة الأمن لنا وتفرقنا في الشوارع الجانبية التي تحيط بميدان التحرير بحثت عن أي من الزملاء الذين تحركوا معها من أمام النقابة فلم تجد أحدا . وجدت نفسها في شارع يؤدي لميدان باب اللوق وسط حشد كبير من رجال ونساء في مختلف الأعمار . خرجت أصوات من الشباب تنادي بالاتجاه إلى وزارة الداخلية . انقبض قلبه. صرخت فيهم تنهاهم عن الذهاب باتجاه " لازوغلي" لكن أحدا لم يستمع لها . ضاع صوتها وسط الهتافات والصراخ . فكرت أن تعود للميدان لتبحث عن زملائها الذين انفرط عقدهم وسط هذه الآلاف، لكنها تراجعت عن القرار واتجهت معهم إلى ميدان باب اللوق كما اتفقو اخيرا. حين اتجهوا لشارع منصور. لمحت الشاب الذي تركت قلبها يتعلق بعيونه يرفع العلم عاليا ويهتف بسقوط النظام . استطاعت تمييز صوته وسط هذه الهتافات الهادر . التفتت برأسها ، فوقعت عيناها في عينيه . هلل قلبها ، لكنها ابتسمت في هدوء واتجهت نحوه . رفع العلم عاليا أكثر وهتف أكثر ، وكأنه يرحب بها ، يعلن فرحه بعودتها دون أن يوجه لها كلمة . في لحظة بدأ وابلا من الرصاص ينهال عليهم من العمارات الشاهقة التي تحيط بميدان باب اللوق . اعتلى الشاب كتف شاب جواره وراح يواجه مصدر الرصاص بالهتاف وبالعلم الذي يرفرف عاليا . في الحقيقة لم يخرج الهتاف أبدا ، تلقى رصاصة في رقبته، فسقط ارتبك الجميع واختلط الصراخ بالهتاف . ارتجف قلبها ، وزاغت عيناها . تسمرت قدماها في الأرض. جسده يترنح بين يديها ، دماؤه تسيل على جسد الشاب الذي حمله على كتفيه . كانت كمن دخل كادر سينمائي صوره مصور محترف ببطء شديد . ترنح جسد الشاب الذي يحمله . بدا أنه يريد أن ينزله . استغرق جسده بضع ثوان أخر ، ثم سقط في صمت . غابت كل الأصوات والهتافات . تباعدت المسافات بين الجموع . اغمضت عينيها لتعيد ذات الكادر السينمائي،عاد البشر جمعا للوراء. كل من في الكادر عاد لمسافات لم تعد تتبينها . هي بجسدها المتصلب المنتصب ، وهو بجسده الساقط الآن يحتلان المشهد .انكفأت على الجسد الذي يتفجر منه الدم ساخنا وفائرا .. قبلته بين عينيه وقالت هامسة : لماذا نلتها دوني .
" نازلا رحلة الجرح القديم
إلى تفاصيل البلاد
و كانت السنة انفصال البحر عن مدن الرماد
و كنت وحدي
ثم وحدي ...
آه يا وحدي ؟
و أحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
يشتدّ في النسيان" ( من قصيدة أحمد الزعتر لمحمود درويش بتصرف )

تجمع الناس الذين تشجعوا على القدوم إليهما بعد أن وجدوها تنكفئ عليه وتحدثه . دبت في قلوبهم الشجاعة ولم تعد تهمهم الرصاصات المتساقطة بعشوائية . قامت متخاذلة مثقلة بروحه التي شعرت بها تفارق الجسد المضرج بالدماء وتستقر داخلها . قالت لهم بوهن : حاولوا ترفعوه للرصيف . لقد مات . لا تعرف كيف تركتهم يرفعونه ويأخذونه بعيدا وهي جالسة بالأرض ترفض النهوض .صنعت غابة من السيقان تلتف حولها خوفا من التدافق بعد انقطاع أصوات طلقات النار.
تاكد لها أنها تعيش في حلمها الآن . لم تستطع أن تغمض عينيها دون أن تشعر بحفيف الرصاصة التي مرت بجانب أذنها واستقرت في رأس حبيبها الذي لم تعرف اسما له .
لا تعرف كيف عادت الي البيت . لخمسة أ يام ظلت حبيسة السرير . أخيرا عادت إلى الميدان لكي تستطيع أن تسرد على روحه المستقرة داخلها أحداث ما حققه الثوار من تقدم . كانت كل ليلة تقص عليه الهتافات الجديدة والنكات خفيفة الظل التي يطلقها المتظاهرون فيضحك معها. ولما تشعر بحزن وأسى في روحه المستقرة داخلها تعيد إليه البهجة وتعده أن تحقق له الهدف الذي تلقى من أجله رصاصة بالرأس على ألا يحزن مرة ثانية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيب: أول قصيدة غنتها أم كل


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: أول من أطلق إسم سوما




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: أغنية ياليلة العيد ال


.. الأردن يتراجع 6 مراتب في اختبار إتقان اللغة الإنكليزية للعام




.. نابر سعودية وخليجية وعربية كرمت الأمير الشاعر بدر بن عبد الم