الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوطن قبل وفوق الجميع

بدر الدين شنن

2011 / 5 / 26
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


لأول مرة بعد ثلاثين عاماً من السكون المفروض بالقمع ، يتحرك الشارع السوري ، ويستمر حراكه على امتداد عشرة أسابيع ، وتعلو في فضائه صرخات الاحتجاجات المطالبة بالحرية والكرامة ، واسترداد إنسانية المواطن واحترام حقوقه ، في التعبير عن الرأي ، وفي الحصول على اللقمة الكريمة ، وفي المساواة في الحقوق والواجبات ، وإنهاء الاستئثار بالسلطة والثروة ، وما نتج عن ذلك من استبداد وقهر وفساد وإفقار ، ويدفع المحتجون ثمناً باهظاً في هذا الحراك .. قمعاً .. ودماً .. واعتقالات .. وينتزع المحتجون الاعتراف الرسمي ب" الفجوة بين النظام والشعب " ويحققون بعضاً من مطالبهم المشروعة مثل ، رفع حالة الطواريء وإلغاء محكمة أمن الدولة السيئة الذكر وعدداً من الإجراءات المتعلقة بالمستويات المعيشية .. وما زال هذا الحراك مستمراً لتحقيق كامل أهدافه .

ولأول مرة منذ ثلاثين عاماً ، تتجه الأضواء السياسية والإعلامية الإقليمية والدولية ، الصديقة منها والمغرضة ، بهذا الشكل الواسع المكثف إلى سوريا ، وتتعدد الآراء وتتناقض حول مضمون هذا الحراك ، وتطرح التساؤلات العديدة ، من أين ، وإلى اين يتجه هذا الحراك ، هل هو امتداد طبيعي للمناخ الجماهيري العربي الغاضب في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين ؟ .. أم أن له خصوصية تميزه بهذا الشكل أو ذاك عما حصل في البلدان المذكورة ؟ .. وهل وراء هذا الحراك ما وراءه من مخططات " فتنة تآمرية " تتلطى خلف الواقع السوري ، المشحون طرداً مع التكريس المزمن الموجع للميز السياسي والتفقير والتجويع ، ومع التفعيل المدمن لآليات القمع والقهر وامتهان الكرامة ؟ .. وهل يمكن أخذه لمعزل عن تجاذبات الدول الاستعمارية المفتوحة شهيتها ، بعد استحوازها على القطبية الدولية دون منازع ، على امتلاك القاصي والداني من بلدان العالم المفقر والمغدور عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ، ووضع كل ثروات العالم تحت قبضتها تتصرف بها كما تشاء ؟ .. وهل يمكن أخذه بمعزل عن الصراع العربي الاسرائيلي والمشروع الصهيو - أميركي في الشرق الأوسط ، الذي يضع الآن الجيو سياسية السورية في مقمة استهدافاته الآنية والاستراتيجية ؟ .. وهل لهذا التعدد والتنوع في الخلفيات والتجاذبات تأثير على بنية هذا الحراك وعلى تنوع وتعدد الرؤى لدى المشاركين في هذا الحراك .. ولمن من القوى المعارضة ، حسب موازين الواقع على الأرض ، ستؤول إليها قيادة هذا الحراك وتقرير توجهاته ومصيره ؟ ..

لعله على قدر كبير من الصواب ، يمكن القول ، أن الجيو سياسية السورية ، التي تتموضع في قلب الشرق الأدنى ، وتحتل قسماً لابأس به من حدود آسيا الغربية على البحر الأبيض المتوسط ، و’يتطلب منها دائماً أن يكون لها دور ، أو تستخدم موضوعاً في مخططات الغزاة والطامعين ، وهي باتت منذ أكثر من ستين عاماً محازية للكيان الصهيوني العنصري التوسعي ، قد لعبت تاريخياً وما تزال دوراً أساسياً في صنع التاريخ السوري وفي كافة الصراعات الإقليمية والدولية للهيمنة عليها ، أو في الصراعات الداخلية للاستيلاء على السلطة فيها أو لاستدامة هذه السلطة أو تلك . ودائماً كان الخارج حاضراً محاصراً لها أو مخترقاً لداخلها . وكان تشكل قواها السياسية لايكتمل إلاّ بامتداداته الإقليمية والدولية ، أو بالعداء للكامن الإقليمي والدولي للإيقاع بها . وقد زاد الأمر سوءاً على سوء تنامي دور الكيان الصهيوني ، في التدخل المباشر وغير المباشر في شؤونها ، أحياناً بالعدوان عليها واحتلال بعض أراضيها ، ودائماً بالتآمر عليها ودعم أعدائها في الداخل والخارج .

وقد ظهر ذلك جلياً في مرحلة الخمسينات من القرن الماضي ، حيث ظهرت أحزاب تدعو للإنخراط في حلف الهلال الخصيب تحت الهيمنة البريطانية راعية إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين . وظهرت أحزاب تدعو للإنخراط في حلف بغداد الذي كان يضم العراق الملكي وإيران الشاه وباكستان وتركيا وبريطانيا وفرنسا أعضاء علنيين ، والكيان الصهيوني وأميركا عضوين غير علنيين . وظهرت أحزاب وطنية وقفت بقوة ضد هذه الأحلاف والقوى السورية الداعية لها ، ودافعت بحزم عن الآستقلال الوطني . كما يظهر جلياً الآن أحزاب وسياسيون يدعون يدعون للاندماج بفضاء العولمة الامبريالية الصهيونية واقتصاد السوق الرأسمالي الدولي ، والاستسلام للمشروع الصهيو - أميركي الشرق أوسطي . وأحزاب تشق طريق الحرية والكرامة وتعمل على بناء سوريا من جديد .

ولهذا ليس غريباً ما يجري الآن ، من تدخل المفاعيل الدولية الأميركية والأوربية الاستعمارية في الشأن السوري ، سواء من حيث محاولة فرض إملاءات وسياسات تخدم مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني السياسية والاقتصادية والاستراتيجية سورياً وإقليمياً ، أو من حيث ممارسة دور الدعم السياسي والمالي والإعلامي لبعض المفاعيل السورية في الحراك المعارض ، أو من حيث محورة تقرير المصير السوري بقرار دولي تصنعه مراكزها الامبريالية العريقة .. ملوحة .. عبر مؤسسات دولية حقوقية وسياسية .. بشبح حلف الأطلسي وتحويل سوريا إلى ليبيا ثانية .. أي عسكرة الحراك الشعبي السوري وجر البلاد إلى حرب أهلية .

ما معناه موضوعياً ، أنه لايمكن الإجابة على التساؤلات الواردة آنفاً منفردة ، وإنما الإجابة عليها مجتمعة ، لعلاقتها الجدلية النسبية ببعضها البعض .. وما معناه أيضاً ، صحيح ، أن هناك تماثلاً في الوضع السوري والأوضاع في تونس ومصر ، ما يشكل محفزات لاحصر لها لحضور الشارع وانطلاق الاحتجاجات الشعبية الغاضبة ، وأن المناخ الجماهيري العربي الغاضب قد أثر في تحريك الشارع السوري وساهم في تفجير غضبه ، ولكن صحيح أيضاً أن الوضع السوري له خصوصية متميزة في جانب غير وارد بالنسبة لتونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين كما هو وارد في سوريا ، وهو الجانب الجيو سياسي الوطني المشحون بالتوتر الدائم مع المشروع الدولي حول الدور السوري في إعادة رسم خريطة الإقليم عامة ، ومع المشروع الصهيوني السياسي العسكري والاستراتيجي خاصة .

وهذا الجانب هو نقطة قوة النظام ونقطة ضعف المعارضة في آن . وهو ما يمكن تسميته بالمسألة الوطنية .. نعم المسألة الوطنية . النظام يتلطى خلف " تصديه للإملاءات والضغوط الخارجية ، الهادفة إلى إخضاع سوريا لمخططاتها المتعارضة مع السيادة والمصالح الوطنية لتجاهل مسألة الديمقراطية وإجراء تغييرات عاجلة تستجيب بصورة كاملة للمصالح والحقوق الشعبية ، ويخطط ويسهل لاقتصاد السوق على حساب الطبقات الشعبية والمصالح الوطنية العليا ، والمعارضة .. معظم المعارضة .. تتلطى خلف المطلب الديمقراطي ، متجاوزة التهديدات الخاجية ودورها المطلوب في معالجة هذه المسألة برؤية ديمقراطية اجتماعية شاملة ، وتغض الطرف عن الانحدارات الاقتصادية والاجتماعية .

وهذا الجانب بالذات هو الذي طغى مؤخراً على المشهد السوري . وذلك ناتج ليس عن تمسك النظام بخيار العنف بمواجهة الحراك الشعبي وحسب ، وإنما ناتج أيضاً عن التدخل السياسي والإعلامي الإقليمي والدولي ، المتحامل بصورة مضخمة وبدون عقلانية أو مصداقية في الشأن السوري ، وناتج عن استخدام السلاح من قبل قوى مجهولة ، لم يحدد المسؤولون حتى الآن الجهات الخارجية التي تقف خلفها وتوجهها في مقارعة النظام . ما نقل الحراك الشعبي السلمي إلى خارج مضماره الأساس الذي تحرك ضمنه ، وهو ما يكاد ’يخرج قرار هذا الحراك من أيدي جماهيره التي انطلقت في 15 آذار الماضي . وهو ما باتت معاييره تحكم مصداقية الحراك الشعبي الديمقراطي كله ، وخاصة حراك الذين يحاولون استغلال المطالب الشعبية لتحقيق مطامح مغايرة ، وذلك بتسليم مقاليد الأمور إلى القوى الدولية العريقة بالأساليب الاستعمارية وباتشجيع على استخدام السلاح الذي غطى على السياسة وشوه المضمو ن السلمي للحراك الشعبي . وهنا بالضبط يحقق النظام تفهماً لسياساته في أوساط شعبية متزايدة ، وخاصة في أوساط المتضررين من استخدام السلاح ، وهنا تخسر المعارضة ..

بعد عشرة أسابيع على الحراك الشعبي المتواصل .. وبعد التجربة الغنية لهذا الحراك ، بات من الضرورة بمكان ، إعادة قراءة المشهد المعارض ، وإعادة النظر في عدد من التداعيات التي رافقت هذا الحراك ، وبخاصة دور المسلحين في جر الحراك الشعبي السلمي إلى مواقعهم وإلى أسلوبهم الدموي وإلى جر البلاد نحو المجهول والكارثة . ولتكن الصراحة .. منتهى الصراحة في إبداء الرأي .. دون تخوين متسرع أو ترهيب انفعالي ساذج .. بهذه المسائل الهامة بالنسبة لمصير المعارضة الوطنية الديمقراطية .

حسب بديهيات الأمور ، ليس كل من يعلن ، فرداً أو جماعة ، خصومته مع النظام معارضاً . فالمعارضة فعل سياسي اجتماعي يحمل برنامجاً سياسياً اجتماعياً بديلاً يفترض ان يكون أرقى وأفضل مما هو يعارضه . أما أن تكون المعارضة صراعاً شخصياً أو ثأرياً أو عمالة للخارج ، فهذه ليست معارضة بل مخادعة . من يجرؤ مثلاً أن يسمي ، لقاء فريد الغادري مع القدة الصهاينة في تل أبيب ، أو لقاء مأمون الحمصي مع المخابرات الأميركية في واشنطن ، أو مقابلة عبد الحليم خدام في التلفزيون الإسرائيلي ، وهناك الكثير من هذه النماذج العفنة ، أن يسمي ذلك من واجبات المعارضة الوطنية البديلة الراقية ؟ . ومن يجرؤ أن يسمي حمل السلاح وجر البلاد إلى حرب أهلية وإلى استدعاء حلف الأطلسي الاستعماري مباشرة أو بالوكالة ، لتصبح الحالة السورية كما هي الحالة الليبية النازفة وطناً ودماً وكرامة وثروات ، أن يسمي ذلك معارضة أو فعل معارض بناء ؟ .

لقد آن الأوان ، من منطلق المسؤولية الوطنية والديمقراطية .. ومن منطلق الحرص على سلامة الحراك الشعبي السلمي وتمكنه من تحقيق أهدافه النبيلة ، آن الأوان لرسم التخوم المعارضة . أي بلورة معارضة معروفة الملامح والحدود والأهداف ، وتحديد ، الاصطفافات الواضحة ، والسياسات الشفافة . إن المطالبة ببرنامج بديل للنظام لا يعني بالمطلق خدمة استمرارية النظام ، بل يعني عدم إشاعة الغموض في أهداف الحراك المعارض ، ووعدم ترك المجال مفتوحاً لشتى أشكال الممارسات الضارة بالحراك الشعبي السلمي وبالوطن ، ولانتشار الإمارات الإسلامية المزعومة المتطرفة ، وللبازارات السياسية وللديماغوجيات والمساومات والصفقات ، إن ترك المعارضة بلا ملامح في الشكل والمضون يحملها مسؤولية ما لا علاقة ولا مصلحة لها به ، ويمنح النظام ذريعة مجانية لتوجيه الضربات لها كما حدث في الثمانينات .

يالتأكيد لن تعود سوريا إلى ما كانت عليه قبل 15 آذار الماضي ، لكن ليس مؤكداً أن تحقق المعارضة الوطنية الديمقراطية ، بالمدة المأمولة ، انتصارها في إعادة بناء سوريا جديدة ديمقراطية قوية مزدهرة ، إن لم تحتضن وبقوة المسألة الوطنية ، التي تعني حماية سوريا من التدمير الذاتي المتأتي عن صراع العنف والعنف المضاد ، الذي يستنزف كل الشعب وكل الوطن ، وذلك بطرحها برناماجها الوطني الديمقراطي الاجتماعي البديل ، الذي يجنب البلاد الانقسامات والصراعات الاثنية والمذهبية ، ويشجب استخدام القمع في تعامل النظام مع الحراك الشعبي السلمي ، ويشجب في آن استخدام السلاح في تعامل " جهات مجهولة " مع الشأن السوري لغايات وأهداف مشبوهة .

لقد قلت في أكثر من مقال ، بعيد اندلاع الثورة الشعبية في أوائل العام الجاري في تونس ، أن سوريا أولى بمثل هذه الثورة ، لتماثل الشروط السياسية والاجتماعية المحفزة للثورة في البلدين . ثم تكرر المثال في مصر .. ومن ثم في ليبيا . ومع التداعيات المؤسفة للانتفاضة في ليبيا ، وخاصة الاحتكام إلى السلاح بديلاً لسلمية الاحتجاجات . وبعد الانزلاق إلى أحضان التدخل الخارجي ، الذي تولاه حلف الأطلسي ، الذي يمثل " إسرائيل " كما يمثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ، بزعم حماية المدنيين الليبيين من دولتهم وجيشهم . ولأن الحراك الشعبي السلمي لم يجر كما جرى في تونس ومصر ، بل يكاد ينزلق إلى المثال الليبي المؤسف ، أقول الآن .. إن الديمقراطية لاتأتي عن طريق الخارج وتآمر الخارج ، ولا عن طريق الحرب الأهلية الاثنية أو المذهبية . وأجزم أن لاديمقراطية بلا وطن .. والوطن هو قبل وفوق الجميع ..

إن سوريا الحبيبة .. كما تستحق نظاماً وطنياً ديمقراطياً عادلاً بديلا.. تستحق معارضة وطنية ديمقراطية جماهيرية متماسكة بديلة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نجل الزعيم جمال عبد الناصر: بشكر الشعب المصري الحريص على الا


.. مقابلة مع وليد جنبلاط الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي




.. فى ذكرى وفاته.. منزل عبد الناصر بأسيوط شاهد على زيارة الضباط


.. فى ذكرى رحيله.. هنا أصول الزعيم جمال عبد الناصر قرية بنى مر




.. شرطة نيويورك تعتدي على متظاهرين داعمين لفلسطين وتعتقل عددا م