الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في سيرة المكان دون اهله

خلف علي الخلف

2004 / 11 / 4
الادب والفن


إلى عزت عمر

تلك هي الاماكن تبعثرك في كل الجهات ، ليس لك وجهة وليس لك نجمة في سمائك تهديك الى حيث الدروب توصلك برا غادرته ، غير انك لم تصل الى البحر
وكانت هناك صحراء وراءها صحراء ، وانت تحمل خطاك موهما السراب انك
تسير اليه لا السراب يغادر العين ولا الخطى تعرف طريقا اخر


الوجوه التي غادرتها ، الوجوه التي غادرتك ، اليابسة التي اكلت الطفولة ، البحار التي ستضيع ما بقي من العمر ، لم تصافحك ولم تذرف دمعا لغيابك
وها انت تنشر ايامك على اغصان عارية لشجر الوحدة ، تحفن دمعك حين تتذكر الخلان لتشربه علّ الروح تبتل برائحتهم
وها انت تهجر المدن او هي التي تهجرك وتعبر من شوق الى شوق ، من لهفة الى لهفة
غير ان بكاءً خافتا لايامك العارية تظل تسمعه وصورة اطفالك تظل تسمعها وتندم
حين تذكر انك تسللت في الليل كي لا تودعهم وكي لا ترى دمعهم
وها انت تتذكر المكان وتتذكر ان " رائحة البن جغرافيا " كما يقول درويش في سرحان الذي يشرب القهوة في الكافتريا فيختلط " الوطن " من هنا من البعيد بمرآة الشعر لذلك لايمكن لك ان تدرك كيف تكون رائحة البن جغرافيا الا وانت خارجه
إذ تصبح عندها رائحة البن لا تشير الى رائحتها فحسب بل تحبل برائحة المكان الذي يحضر بصباحاته و باشجاره ويباسه وحجارته ومقاهيه ...و سجونه ايضا
يمعن من هو خارج " الوطن " بالرائحة فيبدو المكان الذي غادره مرغما " او بارادته " كفردوس مفقود ويتحول الشعور بالنفي من حالته الميتافيزيقية الى شيء محسوس يمكن استنشاقه عبر رائحة القهوة وتتحول حاسة الشم الى مكتنز للحواس جميعها , فانت هنا لاتشم فقط بل وعبر نزوعك الحنيني تسمع اصواتا تختزنها الذاكرة عبر الرائحة
ترى الوجوه ودمعها ولهفتها وترى المكان واهله
تشم رائحة الحبيبة ايضا ورائحة طفلتك التي تغازلها احيانا " ريحتك مثل ريحة المطر" وتحب الطفلة المطر فقط لان رائحته تشبه رائحتها
وتسمع ايضا جهات تناديك وجهات تصرخ في وجهك وتسمع بكاءك الذي تركته ذات ليلة بحضن من احببت وهي تغادرك
وتتذوق الاسى والوحدة والغياب
وتتلمس غربتك وتصرخ لم اخلق من الهواء لاظل معلقا هكذا بين السماء وبين الونين
هذا المنفى (وكل غربة منفى) الذي يواسدك الفراش ويخطف ايامك لم تختره غير انه يظل معك دائما يفلي ايامك من فرح خالطها ذات ليلة مع اصدقاء اليفين وجميلين
وتذكرهم طيرا اثر طير
تفتح سيرة الهجر باصابع هي الروح مبتلة بالحنين
ايها الخلان يامر روحي اتجرعكم مثل دفلى لاشفى من دم عالق بين
الخطى والحنين
وحين يدهمك غريب اخر كمثلك بالمكان واهله ويطوف بالقلعة التي نسيت روحك معلقة مكان الفوانيس القديمة التي كانت تضيؤها
تصرخ
انه وطني
انه وطني
ولا يسمع الغرباء الذين يجاورونك صرختك ومن هنا يبدو غير جائز ان تقارن بين غربة داخل الوطن وغربة خارجه كما لايمكن ان نقارن بين حزن داخل الوطن وحزن اخر خارجه إذ تبدو المسافة غير قابلة للقياس او المقارنة إذ انهما شياان لايرتبطان باي وجه للمقارنة كيف نقارن بين الهواء وبين والاسى . ويمكن لهذه المسافة التي بينهما ان تلتهم العمر كله ونتحسسها كلما فاض الحنين واغرق الروح
في حال الوطن يتدفق الحزن حول اليومي الذي نعيشه قد يحوله بعضنا اساطير وقد يعصرنا هذا اليومي حتى اخر قطرة من حياتنا ويرمينا جثثا على قارعة الطريق لا احد يابه بها الا انه يبقى يومي لكن خارج الوطن يشدك الحزن الى ما لاتعرف او الى ما تعرف لكنك تفتقده وتظل الايام مبلله بالحنين الى شجر لا تراه لكنك تعرفه ويحتل ذاكرتك وتبدو الذاكرة هنا وطن بديل او وطن مواز للوطن الواقعي وهو ابهى بالضرور إذ ان الذاكرة عبر استحضارها للوطن تشذبه وترسمه على هيئة الخيال وقد يحدث ان ترتتطم الذاكرة بالواقع فتصحو
وبين هذا وذاك نستمر بالفرار الى الامام الى وطن لا نراه ولا نستطيع تكوينه الا عبر كل هذا الحنين
ويبدو الفرار الى مكان بديل كمخدر للالم او مسكِن للوجع لان احدا لا يستطيع اجراء جراحة باهظة لجسد بدد ابناءه في الداخل والخارج وبدد العزيمة وهو يظن انه من شدة العطر يرقص
يبدو الوطن في احيان كثيرة لا يتطابق مع المكان او ربما وهذا يخص المنفي ان لاوجود للوطن في المخيلة فالمكان هو الذي يتلبسها وهو الذي ينثر رائحته حولها فالمكان ليس ذكرى او ذاكرة انه هو الذي يبني الذاكرة واذا جردنا الذاكرة بما تحمله من وجوه واحداث وانهار واشجار من مكانها لا يبقى شيء من تلك الذاكرة غير ان المنفي لا يكتفي بهذا الفصل الواعي او غير الواعي بين الوطن والمكان بل يصبح المكان هو الوطن وربما هذا الوطن البديل او الموازي لا يتقاطع مع الوطن او ربما يحتله كله اذ انه وفي احيان كثيرة يغدو المكان الذي غادرناه هو وطن مشتهى لان المخيلة ترسمه على هيئة الحلم وتغدو الوجوه والاشجار والاحداث المؤملة في ذلك المكان الذي غادرناه هي غاية المنفي
وجل مايهجس به المنفي هو تلمسها بما يشبه رؤية نبي لربه على سدة العرش واول ما يتمتم به المنفي هو صب اللعنات على جهات معلومة او مجهولة اقتلعته من " هُناه " لتبعثره على " الهناك "
وهي محاولة يائسة لتبراة النفس من ان تقع عليها اللعنة ايضا واعتذار من اخر شجر غادره واخر ضحكة سمعها او اخر نواح لافرق
وعبر هذه المحاولة اليائسة لاخراج النفس من دائرة اللعنة تستيقظ اسئلة واهنة لا يسالها المنفي الا لتبرير منفاه وتبرئته :
من اجل ماذا اموت بشكل متواصل على سرير اللحظات ؟
ان المتسلل خلسة كي لايودع اطفاله سوف يظل مقيدا باصواتهم اينما حل غير ان اليومي الذي يعيشه " هناك " ربما يجعله يحب " الهناك " ايضا وربما ينسج مع الهناك علاقة حميمية لا لتعوض عن حميمية " الهُنا " الذي غادره بل لتجعله قادرا على التوازن النفسي وليستطيع ان يستمر في هذا الهناك الذي فرض عليه فينسج ربما علا قات اجتماعية على غرار الوطن او على غرار الاسى انها غواية المكان البديل وتبدو لحظات الانفكاك الاولى عن الهُنا الاشد صعوبة وفتكا في حواف الروح غير انه فيما بعد يتناسى الوطن كي ينام ويركض في جهات لاتودي الى ذاته وبين حين وآخر ربما يرتطم بعمود في شارع فيصحو ... ليصرخ : ياوطني
كما ان الوطن المتخيل احيانا هو الذي ينفينا وليس الوطن الواقعي إذ ان النزوع من الواقعي الى الحلم هو الذي يبرر لنا الهجرات التي ما ان تبدا فيصعب ان تنتهي
إذ يبدو الخروج الى بديل جاهز ومصنوع هو اسهل الحلول لكنك عندما تصل الى " هناك " تتحول الايام الى ما يشبه السلسلة من رسائل الندم والاعتذار والحنين ولا تجد على الاغلب من توجهها له
وما بين الهنا والهناك تعبرك الاماكن والوجوه
المكان الذي بلل الخطى
المكان الذي منه بدأ الطريق الذي لا ينتهي
المكان الذي اكلنا ترابه يوم كنا صغارا
وحلمنا به يوم كبرنا
المكان الذي تعلمنا فيه القبل
المكان علمنا قراءة الوجوه و " البشر والتواريخ والامكنة "
المكان الذي ولدت فيه القصائد الاولى
والزعبرات الاولى
والحبيبة الاولى
غادرناه او خطفه منا الوطن؟! وهنا تبدو المفارقة مذهلة ان يشردك الوطن عن المكان الذي تهدأ فيه روحك
ولا يدرك من هو داخل الوطن ربما الفارق بين الوطن والمكان الا اذا غادره
ويصبح الوطن للمنفي معطى حقوقي وليس معطى شعري غير معرف ولا وصف له وربما من يدقق مليا يجد ان غالبية ماكتبه الشعراء العرب عن الوطن كمصطلح لفظي كانوا يقصدون به المكان وحينما كنت اقرا درويش لكتابة موضوع ما يشبه هذا وجدت معلومة احصائية فاجئتني وهي ان المكان قبل ان يغادره لا يرد في شعره الا مرتين واقصد المكان الذي يشير الى جغرافيا محددة وبعد ان غادر وطنه مكانه صارت الامكنة هي لبنة اساسية لديه الجليل بيروت دمشق قرطبة سمرقند....الخ وقد تتحول دلالة هذه المفردات من الدلالة المكانية الاساسية الى دلالة تاريخية او اسقاطية الا انها لا تحمل ذلك الا بوصفها دلالة مكانيةاساسا
وهنا يبدو الافتراق واضحا اذ ان درويش فارقه وطنه وهو داخله الا ان المكان
لم يبرحه لذلك لم يتشكل لديه هذا الشبق الشعري بالمكان الوطن الا لاحقا
واذ يذكر كازنتزاكس في زوربا ان الوطن هو كذبة كبيرة او ما شابه هذه العبارة فان المكان هو الحقيقة الثابتة في مخيلة الفرد وحنينه
والمكان ينمو مع الفرد او من خلال المكان ينمو هذا الفرد وبالتالي فان الامكنة تتغيرايضا وهي معنا فهي تكبر وتهرم وتشيخ وربما تكتسب طبائع اخرى جديدة كأن يصبح المكان عدائيا او نزقا او يصبح مع مرور الايام اكثر الفة وارتباط العلاقات مع الوجوه المتنقلة بالمكان هو امر واضح اذا ان الشخص الذي تخالطه في حلب في مقهى القصر او منتدى الشام هو غير الشخص الذي تخالطه في مقهى بالرياض وان كان هو عين الشخص
وتظل تنتظر الوطن كانتظار البرابرة في قصيدة كافافي نحن نعلم ان الوطن الذي غادرناه لن يعود ونعرف اننا لن نعود اليه غير ان الانتظار هو نوع من حل
ويتحول الفرار الى الامام كادمان لا براء منه كقصة ذلك البدوي الذي قتل قتيلا وعندما ذهب اهله لدفع دية القتيل قال اهل القتيل لانرد ديّة بل نريد من القاتل ان يغادر المكان ثلاثين عام
وجد اهل القاتل الحل سهلا وبدأت هجرته ... وبعد اكثر من ثلاثين عام كان راحلا مع احدى قوافل البُداة واقترب من دياره وهو لا يدري
نظر اليها فعرفها فقال:
هذي منازلنا ؟!! ..... ابتعدوا عنها

2002 اثينا
2003 دبي
2004 الرياض
هذا النص هو حصيلة دمج واختصار لثلاثة نصوص كتبت في تلك البلدان حول نفس الفكرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللهم كما علمت آدم الأسماء كلها علم طلاب الثانوية من فضلك


.. كلمة الفنان أحمد أمين للحديث عن مهرجان -نبتة لمحتوى الطفل وا




.. فيلم عن نجاحات الدورة الأولى لمهرجان العلمين الجديدة


.. نجل الفنان الراحل عزت العلايلى يتعرض لوعكة صحية.. وهذا آخر م




.. فيلم تسجيلي عن نجاحات النسخة الأولى من مهرجان العلمين الجديد