الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علي منصور .. التحولات والموقف

السمّاح عبد الله
شاعر

(Alsammah Abdollah)

2011 / 5 / 29
الادب والفن



بالرغم من أن علي منصور شماليّ المنبت وأنا جنوبي، وبالرغم من أنه يكبرني بست سنوات كاملة، إلا أن ثمة وشائج قربى كثيرة تربط ما بيننا.
المرة الأولى التي طالعت فيها اسمه وشعره كانت أواخر السبعينيات، عندما التقينا معا على صفحات ركن الأدب في مجلة " النصر " ، التابعة للقوات المسلحة، الذي كان يشرف عليه ذلك الحين الشاعر عصام الغازي ، والذي كان يعامل أشعارنا بقدر كبير من الحنو ورحابة الصدر والمودة، رغم ما قد يشوبها من هنات البدايات، وسذاجة الرؤية، وبساطة الأفكار، - وكانت مثل هذه المجلات على فئويتها قادرة على صنع حالة ثقافية، وقادرة على طرح أسماء -، كان على منصور وقتها أحد فرسان هذه المجلة، وكان واضحا أن عصام الغازي يعامله معاملة خاصة ويفرد له المساحات الطوال، والحقيقة أنه كان يستحق هذه الرعاية وذلك الاهتمام، وكان الخط الفكري له – وقتها – شديد الوضوح .

ثمة مقولة تقول إن الإنسان إذا بلغ العشرين من عمره ولم يعتنق الشيوعية هو إنسان خرب القلب، وإذا بلغ الأربعين ولم يكفر بالشيوعية فهو إنسان خرب العقل، وعلي منصور – وكان وقتها واقفا على حواف العشرين – لم يكن خرب القلب ، بل كان قلبه عامرا بمحبة الخير للناس كلهم، وبكراهية النظم العربية الحاكمة التي تحول دون توزيع هذا الخير بالعدل والقسطاس على الناس، كما يليق بشاعر يحمل في ضميره شهوة إصلاح العالم، بل ويستطيع بقصيدة أن يقيم ثورة أنى منها الثورات الكبار التي غيرت مجرى التاريخ، لذا كانت تشيع في قصائده مفردات الجوع والفقر والعشق المنقوص تماما كشيوعي مراهق باحث عن اكتمال الجمال.

قبل أن يتاح لـ علي منصور أن ينشر قصائده علانية وجهرا في المجلات السيارة، كان مطلوبا منه أن ينشرها في المجلات السرية باسم مستعار، وكان مطلوبا منه أن يتكلم – فقط – في شعره عن معطيات المادية الجدلية، ومنعطفات الحياة الاجتماعية التي يعرج عليها الفقراء في مشاويرهم، وأن يندد بالقهر المسلط على رقاب العباد، ويمر عليهم فردا فردا، مانحا كلا منهم – في قصيدته – رغيفا لسد الجوعة القائمة، ورشفةً لبل الريق الناشف، وكان منبَّها عليه بألا يهديهم – في نهاية قصيدته – وردة يزينون بها سترات قمصانهم، أو يستنشقون فيها عبيرا طيبا، انصاع لهذه التعليمات لفترة، حتى كفر بها، كان يريد أن يجمّل حوائط الممرات والأزقة بالزهور، بدلا من أن يكتب عليها شعارات تشجب الفوارق الطبقية، كان يريد أن يلوّح للفتيات الجميلات تلويحات يفهمها أولو القلوب الخفيفة ويحسون بها، بدلا من أن يحملهن على أكتافه وهن يطالبن بصوتهن الرقيق زاعقات بسقوط النظام المستبد.

نعم كفر على منصور بكل هذه التحذيرات الصارمة، وقرر أن ينحاز كليا للشعر، وكان هذا هو التحول الأول في تجربته الشعرية، تحول كان من الضروري أن يفعله، حتى لا يصبح بمرور الوقت شاعرا حنجوريا هتاّفا، يحتفي بالنشيد على حساب القيمة الفنية، ويُعلي من قيمة الصوت في مقابل الحس، وهكذا قدم لنا نفسه كشاعر تفعيلي رائق من خلال ديوانه الأول المتميز ( الفقراء ينهزمون في تجربة العشق ) ، وكان طبيعيا أن يصدره الشاعر من خلال سياق نشري يتفق مع ميوله السياسية آنئذٍ، حيث أصدره عام 1990 عن دار " الغد " التي كان يملكها ويديرها الثوري الرائد كمال عبد الحليم، هذا الشاعر الذي مات نتيجة تراكم ديون دار النشر عليه، وبعدها بسنوات ثلاث سيتاح له أن ينشر ديوانه الثاني ( وردة الكيمياء الجميلة ) عن مؤسسة رسمية هي الهيئة العامة لقصور الثقافة .

قرابة خمسة عشر عاما اعترك فيها على منصور قصيدته الجديدة، مشتجرا مع كافة الإمكانات التي تتيحها له الموسيقا والصورة والخيال والمجاز اللغوي، صال وجال ونشر وأذاع وثرثر على المقاهي وتكلم في المنتديات، ووقّف قدميه ثابتتين على بسيطة الشعرية المصرية. حتى تعرض لواحد من المواقف التي يندر أن يتعرض لها شاعر، موقف استثناني، سيترتب عليه آثار جد قاسية في مخيلة شاعر تربي على القومية العربية، وحلم بوحدة الصف العربي، وتغنى بنضال الشعب العربي في مواجهة عدوه الغاشم .

كان جالسا في حاله، لا به ولا عليه، عندما اقتحم عليه المكانَ رجالُ صدام حسين، لم يرشوا عليه الغبار وحده، وإنما سوّدوا سماء الكويت كلها بغبار خانق مقيت، له طعم الحريق ورائحته، وفي حالة الشتات الرهيبة التي مر بها – كما مر بها كل المصريين المغتربين بالكويت - سقطت من جيوبه فلوسُه، ومن حقائبه قصائده، ومن أحلامه عروبته، وعندما حط رحاله في مصر، كان يخوض التحول الثاني في تجربته الشعرية، فقد اكتشف أن الذي سقط منه لحظة الشتات، ليس فقط الفلوس النحيلة والأحلام العراض والعروبة المزعومة، وإنما سقطت أيضا موسيقا الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكما كفر في تحوله الأول بالهتاف والنشيد، كفر في تحوله الثاني بالعروض، وكما ربط دارسو الأدب بين التحولات السياسية وبين حلقات تطور القصيدة العربية، ومحاولة إيجاد علاقة وثيقة مثلا بين نشوب الحرب الكونية الثانية وميلاد الشعر التفعيلي في العالم العربي، أو بين قيام حركة يوليو عام 1952 وظهور الواقعية الاشتراكية في الإبداع المصري، يمكننا أن نربط بين الغزو العراقي للكويت وبين انتشار قصيدة النثر، حيث شهدت هذه الفترة ميلاد تكتلات عديدة تعنى بقصيدة النثر مثل مجلة " الكتابة الأخرى " التي أصدرها الشاعر الثمانيني هشام قشطة، ومجلة " الجراد " التي أصدرها الشاعر السبعيني أحمد طه وغيرهما من السياقات التي تعنى بهذه القصيدة، وهكذا اختار علي منصور إصدارات " الكتابة الأخرى " ليصدر عنها ديوانه الجديد " على بعد خطوة " وبعدها تتوالى دواوينه التي تعيد تقديم علي منصور بوجهه الجديد، فصدرت أعماله ( ثمة موسيقى تنزل السلالم ) و ( عصافير خضراء قرب بحيرة صامتة ) و ( عشر نجمات لمساء وحيد )، وغيرها .

ثمة تحول ثالث طرأ على التجربة الشعرية للشاعر علي منصور، يلحظه بوضوحٍ المتابعُ لهذه التجربة الثرية، وهو أنه قبض على اليقين الخالص، واستراح إلى هدأة نفسية ووجدانية، جعلته يسرع الخُطا من أقصى اليسار إلى أقصى الاتجاه المقابل، ظهر ذلك بوضوح جليّ في أعماله الشعرية الأخيرة : ( خيال مراهق ) و ( الشيخ )، ونرجو أن يجد في هذه الضّفّةِ شعريةً نستطيع نحن الشعراء الحداثيين العرب، أن تراهن عليها كهوية لنا، في وقت يحاولون فيه طمس الهويات، وجمعها في هوية واحدة .

********************

اقترحت على على منصور أن يقلدني في نشر بداياته الشعرية، فقد خضت هذه التجربة عام 2004، عندما طلب مني صديقي الكبير الأديب الراحل عبد العال الحمامصي أن أنشر ديوانا في سلسلة " إشراقات أدبية "، مذكرا إياي أنها هي التي قدمتني للحياة الأدبية عندما أصدرت لي أول دواويني في أبريل من عام 1988 ( خديجة بنت الضحى الوسيع )، وكان عليّ أن أبحث عن صيغة تتيح لي تحقيق رغبة رجل لا أستطيع أن أرفض له طلبا، خاصة وأن هذه السلسلة تعنى أساسا بتقديم المبدعين الجدد، وإذا كان من اللائق أن أنشر فيها وأنا في العشرينيات من عمري، فإنه من غير الملائم أن أنشر فيها وأنا في الأربعين، وكان أن وقعت على فكرة جمع أوراقي الشعرية التي كتبتها في مطلع حياتي، وأنا في العشرينيات من عمري، والتي نشرتها في الجرائد والمجلات أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وبالفعل صنفتها في ثلاثة دواوين، جمعتها كلها في كتاب واحد أسميته ( هواء طازج ) ، قلت لـ علي منصور، يمكنك أن تعود إلى أوراقك الشعرية وتنتقي منها ديوانا يقدم للقاريء فكرة مكتملة عن البدايات الأولى لهذه التجربة العريضة، وافقني، وتحمس للفكرة، ومما عضد موقفي أن له مسرحية شعرية صغيرة، لم يتح له أن ينشرها من قبل، وإن كان الشاعر الراحل الدكتور حسين على محمد قد درسها – مخطوطة – في رسالته العلمية للدكتوراة ، والتي جاءت بعنوان " ملامح البطل في المسرح الشعري الحديث " ، وقد ارتأى علي منصور أنها فرصة سانحة لنشر هذه المسرحية مع قصائد هذا الديوان .

********************

قلت في بداية حديثي إن ثمة وشائج قربى كثيرة تربط ما بيننا، فكلانا ينتمي لجيل الثمانينيات الشعري، وهو وأنا – تقريبا – بدأنا معا، وهو غزير الإنتاج فقد أصدر حتى الآن عشرة دواوين، وأنا مثله، وقد كتبتُ عنه مقالة في مجلة " القاهرة "، وهو كتب عني قصيدة في ديوان ( عصافير خضراء قرب بحيرة صامتة )، وتلاقينا – معا – على صفحات العديد من الجرائد ، لدرجة أن جريدة " الوطن " الكويتية نشرت لي قصيدة وضعت عليها اسم علي منصور، ونشرت له قصيدة وضعت عليها اسم السمّاح عبد الله وذلك في صفحة واحدة، وها هو يشاركني في إصدار أعماله الشعرية الأولى، وثمة مشابهات كثيرة بيننا، يعرفها هو وأعرفها أنا.

سعادتي كبيرة وأنا أقدم للقاريء هذه الأوراق الشعرية الطازجة لرفيق الخُطا والطريق، علي منصور، الذي وإن كان قد تحول مرة ومرة ومرة، إلا أن موقفه الجمالي من الشعر ظل ثابتا لا يتحول .

السمّاح عبد الله








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل