الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أَحزانُ المَطَرْ

يحيى علوان

2011 / 5 / 30
الادب والفن


(1)

جهةَ الغروبِ تَشحَط الشمسُ ، ذَيلاً مِنْ غيـومٍ ، تشبه سَحابَ دالـي .. ،
تُضرِّجُها بالجُلَّنـار ، فيحترِقُ قوسُ المـدار ،
لـ"سائسِ المَطَـرِ " عيـونٌ تَبْرُقُ .. يُزمجِـرُ ، يَسوطُها فَـرقَعَـةً ،
لَهـا يَجفَلُ الطـيُر والصِغـارُ ..
صَـريرُ ريـحٍ ، مُرهَقََةٍ بالرطوبـةِ ، يُمَشِّطُ هـامَ الشَجَرِ ، يُنهِضُ في الغريبِ
أوجـاعَ الوحشةِ .
يَنتَبِذُ إبنُ أرضٍ أُخرى بنفسه زاويَـةً في الشُرفَـة ، يَجوبُ لهيبَ الصمتِ ،
يَرسِمُ بِدُخـانِ لفائفـه أَشباحَـه الأليفَـةَ .. يُعاتِبُهـا ، ومِـنْ ضَجَـرٍ ، يُعَنِّفُهـا ..
وعندمـا تَبكـي ، يُكَفكِفُ دَمعَهـا بجدولٍ مِـنْ حَنـانٍ ونَدَمٍ ،
كـي لا تَتَأبَّـطَ إلـى النـومِ الحُزنَ ، مِثلَ " نـدى "..

أَسلَمَ نَفسَه لحظنِ مَـوجةٍ طَيَّـرَتْ رؤوسَ المُفرداتِ من أَعنـاقِ معانيهـا ..
فـي غابـاتِ إنكِسارٍ ، مفتـوحٍ ، على الذي يأتـي ولا يأتـي ..
...........................
تَعِبَتْ ناياتُ اللهفَـةِ وسطَ نَعيـقِ الغربـانِ .. غزَتْ أَزِقَّـةَ الحاراتِ القديمةِ
، التي نامَتْ علـى ظِلِّهـا ، مُهَدهَـدَةً بترانيـمِ الجَـدّاتِ الطيبـاتِ ..

لَـمْ يُُجاهِـر الغريبُ بدمعـةٍ ، أَغلـى من اللؤلؤِ كُلِّـه .. إِدّخَرَهـا ، يسقي
بهـا عرائشَ الحزنِ عند شُرُفـاتِ المنزلِ ، يَومَ يتآكلُ الربيـعُ من فَرط الزهو والبهـاء ...


على ظهـرِ الريـحِ تَدَحرَجَتْ حُبَيباتُ مَطَـرٍ ثقيلةٍ ، تَرَكَتْ حَـوافِرُهـا ندوباً بَيِّنَةٍ ،
على بِسـاطِ الرمـلِ في الحديقـةِ ، قُبـالَةَ الدارِ ..

مذعـورةً ، هَربَتْ العصافيرُ وبقيَّةُ الطيـرِ ، إلاّ طائر الفاختَـة ، سميناً كـانَ ،
يَفْخَجُ في مِشيَته .. كأنـه يَلهثُ مِـنْ ثُقلِ جسمه ، يُفَتِّشُ عـن .. مـاذا ؟
أَتُـراه يبحثُ عـن نصفـه الآخـرَ ، أَمْ عَمَّـا يدرأُ به غائلـةَ الجـوع ؟!
..................................
..................................

طائـرٌ لَعيـنٌ ، يَرشُّ الوحشةَ في المَغـارِبِ .." كوكو ختي .. كوكو ختي "(1) ،
يُكَسِّـرُ بهـا أَوزانَ دَنـدَنَـةٍ لَـمْ تُبـارِح الغريبَ مُنذُ أَيـامٍ ،

" كوكو ختي .. كوكوختي .. " تَنْثُـرُ رَمـادَ الحنيـن .. تستحلِبُ البُكـاءَ ،
شـوقاً لبيوتٍ في درابينَ أَليفةٍ ، لِوجـوهٍ طَيِّبـةٍ ، نَجيبَـةٍ ..(2)


" كوكوختي .. كوكوختي .." يَدورُ الطائـرُ على نفسِهِ ، يَمنَةً ثُمَّ يسرة .. مُنتَفِخَ الأوداج ،

من خَلفِ الأحراشِ ، أَطَلَّتْ هِـرَّةٌ جائعـةٌ .. سوداءَ ، تَصحَبُ صغيرتهـا ،
سوداءَ بِبُقعٍ بيضـاءَ ، كأنهـا خَرَجَتْ تُدرِّبهـا فـي جولَـةِ صيـدٍ ..
.................................
مُتَوفِّزَةً ، أَقْعَتْ الأُمُّ على رِجلَيْها ، حتى لامَسَ الأرضَ بَطنُها ، أَشارَتْ للصغيرةِ
أَنْ " هذا صَيـدٌ سمينٌ ، يجب ألاّ يفوتَ " !



رَفَعَتْ الصغيرةُ ذَيلَهـا ، شَدَّتْ أُذنيهـا .. قَفَزَتْ .. ، إرتَجَفَتْ الأُمُّ قليلاً ،
كأَنَّ مَسَّاً كهربائياً أَصابهـا إستعداداً لمساعدَةِ صغيرتِهـا .. لكنَّ الفاختَةَ إبتعَدَت مسافةً لتكونَ فـي مَأمَنٍ من الأم وصغيرَتِهـا ...
مُرتبكـاً ، أو مثلَ مَـنْ ، هَجَـرَ الدارَ والجارَ ، لا يفتأُ يَدورُ على نفسه ،
يُردِّدُ ، دونَ مَلَلٍ " كوكو ختي.. كوكوختي .."

إنسحَبَت الأُمُّ ، ظَلَّت الصغيرةُ تناورُ الفاختة ، يَلهوانِ بقفزاتٍ من كـرٍّ وفَـرٍّ ..
خَرخَشَةٌ في اليابسِ من الأوراق .. صوتُ الأُمِ صليلٌ أَفزَعَ الغريبَ في شُرفته ،
أخرَجه مـن شارة الحُزنِ ..

خَبْطُ أجنحَـةٍ كصوتِ حَشرَجَـةِ مَخنوقٍ ..
الأحراشُ حَبَسَتْ بَقيَّـةَ المشهَدِ عن الغريبِ ..!
................................

شاحِبٌ هذا المَطَـر ..
الغريبُ يُعرِفُ ، يا"بَـدْرُ" .." أَيَّ حُـزنٍ يبعثُ المَطَـر.. !"
فـي يومِ " عيدِ البكـاء " ، بلا شمعة !!



(2)


مَطَـرٌ ، ثُـمَّ مَطَـرٌ .. بَعـده مَطَـرْ ..

مَطَـرٌ يغسِلُ الأشجارَ والأرصفةَ ، يُناكِدُ الغريبَ حتى لا يَضَعَ ، هـذا ، كلاماً
في قُبَّعةِ سائلٍ على القارعَةِ ، ويَنصَرِفَ ، مثلَ بقيَّةِ الناس ، بعدَ نهايةِ " الدوام الرسمي " ،
كأنَّـه غيرُ عاطِلٍ !! أو قَـد ينصَرِفَ لِيُسرِجَ الجيـادَ تَـوريةً ، ويُطعِمُهـا مجـازاً ..!

كذلكَ هـو "سائسُ المَطَـرِ "، يريدُ الإنتهاءَ من " نـوبةِ العمَلِ " .. لا وقتَ لديـه ..
أَدلَـقَ كلَّ قِرَبٍ السماء ، دفعَـةً واحدةً ، إختنقَتْ مجاري الصَرف ..
هـو ذا مَطَـرُ اللـه ينهـالُ ، من ثقوبٍ خُرافِـيَّةٍ ، علـى ما بقِيَ من نهـارٍ ،
كأَنّـه يَسفَحُ دَمعَ الآلهـةَ مُتَأَسّياً لِوَحشَةِ الغريب ... يَنخُـلُ من عَلٍ خيباتٍ بَشوشةٍ ..

" مَطَـرٌ ، مَطَـرْ .."
الرمـاديُّ أَغبَرَ .. لكن إنْ مَسَّته فِضَّـةُ اللـونِ ، تَـلأَلأَ سِحراً ..
ما يشبَه صـوتَ مِطـرَقَـةٍ غيـر مُنتَظِـمٍ ، أَم تُـراه كعباً عالياً يَقرَعُ بـلاطَ المَمـر المظلم ،
ينتَشِلُ الغريبَ من شُرودِه ، فَيُشعِلُ لُفافَـةً أُخـرى ..

ومثلمـا تطلَـعُ الحوريـاتُ من بطنِ البحـر ، أَشرَقَ من جوفِ الزقاقِ الصغيرِ ،
المُظلِمِ ، ثوبٌ فِضّيٌّ ، يَلمَعُ كنصلٍ مصقـولٍ ، يَلِفُّ جَسَداً أَحلى من عَسَلِ الأحـلامِ ..
أَشهى من لَـذّةٍ بعـدَ طـولِ إمتنـاعٍ .. !
ثوبٌ فَـرِهٌ ، مُهفهَفٌ ، جَعَّـدَه البَلَلُ ..لاذَ بِمُنخَفَظـاتٍ ومنحنيـاتٍ ، كأنـه يؤاخِـذٌ المَغـرِبَ بجريـرةِ الإصبـاح ..
يُبـاهـي الكـونَ أَنْ لاشيءَ بينه وبينَ بَضاضَـةِ قَـدٍّ ملائكيٍّ ..
....................................

يُحَدِّقُ الغريبُ في ما يُشبِه لُعبةً ، ليسَ فيها سوى الخُسران .. تَعتَريـه رَجفَةٌ ..
يَستَعيذُ برَزانَـةٍ ، لا معنىً لهـا ، مِـنْ جَسَدٍ يُثرثِـرُ غوايَـةً وشَبَقاً ..
أَوصَدَ جُفونَـه ، إذْ أَحَسَّ بقلبِـه يَنُـطُّ إلـى رَقَبَته ..
فَكَّـرَ :" ماذا ينبغي عليَّ ؟ هَـلْ أَقولُ حصرماً لعنقودٍ لا أَطالـه ؟!
مَـنْ يُرجِـعُ ماضِيِّ إلـى ماضيه ، كـي أَنضـو عنّـي كُلَّ الحِكَمِ
والمواعِظَ عَسايَ أَصيرُ أَهـلاً لهـا ..!! أو أَخطِفُهـا على صهـوةِ
حصـانٍ كالثلجِ أَبيَضَ ، أو دامِسٍ كَلَيْلٍ بلا قَمَـرٍ .. نتَشَبَّثُ بِبَعض
عندمـا نغفـو علـى خَبَبٍ .. !"

آيَـةً للبهـاءِ تَبقى .. خَـراباً يَغـدو كلُّ ما حولهـا ، أينما حَلَّتْ ..
أُمُّ القَصيـدِ هِـيَ ، لا أَقَـلَّ ولا أَكثَـرَ ..
فِتنَـةٌ تُشَـقِّقُ المَـرايـا .. تُجَنِّنُ النَردَ في بَهـوِ الهيـام ،
هـيَ صَعقَةٌ لذيذةٌ كتلكَ ، التي تنْزِلُ فـي الظهـر ..
لا .. ! هِـيَ إنشودَةُ عِشقٍ ، ما قالَهـا " إنسٌ ولا جـانْ " !

" مَطَـرٌ ,, مَطَـرْ " يُؤَرجِـحُ تَسريحَـةَ صاحِبَةِ الثوبِ الشحيحِ ، الكريـمِ ،
أَميـرَةُ الفِتنَـةِ ، لا تَخافُ البَلَلَ .. ولا ما تَفعَلُه فَتحَـة الـ U عندَ الصدرِ ..
لكنها هَزَّتْ رأسَها تَنفِضُ القَطْرَ عنْ بقايا تسريحةِ خَرَّبَهـا المَطَـرُ ،
فَبَدَتْ مثلَ مُهـرَةٍ تصهَلُ .. إستطالت علـى قائمتينِ إثنَتَينِ ، وبالأُخريَيْنِ تَتَسَلَّقُ سُلَّمَ العاصِفَـةِ ..!

إنحَنَتْ فاتِنَتي تخلَـعُ حذاءاًً ، إنتَفَت الحاجـةُ إليه ..
الأحراشُ حَجَبَتْ المشهدَ عن الغريبِ ، ثانيـةً .. !!

ما قيمـةُ عينٍ إنْ لَمْ تَـرَ رَبَّـةَ الفِتنَـةِ هـذي ..!
...............................
...............................

آلـى الغريبُ علـى نفسه أَن ينتقِمَ ..! وبالمِقَصِّ يُقَزِّمَ قامَـةَ الأحراش ..!!














ــــــــــــــــ

(1) "كوكوختي .." صوت تتنادى به طيور الفاختة، وهي من فصيلة الحَمام البرّي ، عندما تفتقد مثيلاتها ،
أضفى عليها الخيال الشعبي العراقي من عِندياته حواراً بين أُختٍ تحنُّ لأُختها ، التي تزوجت في الحلة (محافظة بابل)
ولم تَعُدْ تراها مُذاك .. يوم كانت الحيوانات واسطة النقل بين المدن .. تسألُ الأخت الملتاعة حنيناً لأختها في الحلّة ،
تسأل طائر الفاختة:" كوكوختي.. وين أُختي؟ " فتجيبها الفاختة:" بالحلّة "
"وِشْتَاكُلْ ؟"بمعنى ماذا تأكل وهل هي جائعة ؟ فتجيبها:" باقِلّة " ، تُلفَظ باللهجة العراقية كما الجيم المصريّة،
"وِشْتِشْرَبْ ؟" فيأتي جوابُ الفاختة :" مايَ الله " ... وهكذا
(2) لستُ أَذكُرُ على وجه التحديد من القائل " لا تَعُدْ إلـى مكانٍ ، إستبدَّ بكَ الحنينُ إليـه طويـلاً









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نشرة الرابعة | السعودية.. مركز جديد للذكاء الاصطناعي لخدمة ا


.. كل الزوايا - د. محمود مسلم رئيس لجنة الثقافة والسياحة يتحدث




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -شقو- في العرض الخاص بالفيلم..


.. أون سيت - هل ممكن نشوف إيمي معاك في فيلم رومانسي؟ .. شوف حسن




.. حول العالم | لوحات فنية رسمتها جبال الأرز في فيتنام