الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رأيت أمل دنقل

السمّاح عبد الله
شاعر

(Alsammah Abdollah)

2011 / 6 / 1
الادب والفن



في بداية الثمانينيات هبطت إلى القاهرة شابا صغيرا يحمل سبعة عشر عاما ودفتر أشعار وحقيبة ملأى بالأحلام الكبار، أنبئت أنني سأكون ضيفا على الشاعر الكبير فاروق شوشة في برنامجه الشهير " أمسية ثقافية " بالتليفزيون، فتحت دفتر أشعاري وبدأت أنتقي القصيدة التي لابد وأن فاروق شوشة سيطلب مني إلقاءها في البرنامج ووقع اختياري على قصيدة " رعشة الرغبة المستحيلة " والتي كتبتها في محبة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر لمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله والذي كنت واقعا في أسر حبه تلك الفترة، كانت القصيدة طويلة بعض الشيء وكان علي اقتطاع أجزاء منها.

في صباح اليوم التالي وبدون أية مقدمات قررت رؤية أمل دنقل، لم تكن معرفتي بجغرافية القاهرة تتيح لي الذهاب من الجيزة إلى معهد الأورام حيث يقطن أمل دنقل إحدى غرفه، في موقف الأوتوبيسات بميدان الجيزة سألت أحد الرجال المتجهمين ومن فرط جهامته لم يرد على سؤالي، التقطت السؤال إحدى الواقفات، لم تكن متجهمة، كانت لسبب ما فرحة، التفتت إلي وقالت :

- تعال معي، أنا ذاهبة لمعهد الأورام.

في مقعد الأتوبيس تجاورنا وبدأنا الكلام.

قالت إنها ذاهبة لزيارة جدتها، كل الأطباء أكدوا لهم أنها مائتة لا محالة، إن هي إلا حسبة أيام قليلة، وأضافت :

- إن ماتت سترتاح.

وعندما عرفت أنني شاعر، يبدو أنها لم تفهم، غير أنها علقت على اسمي الذي يشيع أكثر بين النساء، وفجأة سألتني :

- لم أنت ذاهب لمعهد الأورام ؟

أجبتها :

- سأزور الشاعر الكبير أمل دنقل.

علقت بشيء من المرح :

- يبدو أن رجال عائلتكم يحملون أسماء نسائية

صححت لها افتراضها الخاطيء :

- أمل دنقل ليس من عائلتنا.

وأضفت :

- ثم إن عائلتنا فيها أسماء رجالية كثيرة مثل عبد الله والأنور وإسماعيل وفواز وأبو الفضل وأحمد والسيد وغيرها كثير.

صمتنا فترة، ومع إحدى الانحناءات الدائرية للأتوبيس أخبرتني أن زوج عمتها عازف جيتار وتستطيع أن تتوسط بيننا لكي يعرض قصائدي على بعض معارفه من المطربين والمطربات أمثال عماد عبد الحليم وعايدة الشاعر وهاني شاكر وغيرهم، أخبرتها أنني أفضل فايزة أحمد.

قالت :

- سأحاول معه.

في معهد الأورام سألت عن غرفة الشاعر أمل دنقل، كانت أشهر غرفة في المعهد كله، لكن رجال الأمن نصحوني بالانتظار على الأقل ساعتين حتى يحين موعد الزيارة، فكرت أن أنسب وقت لمقابلته هو الآن قبل أن يحين حين الزيارة الرسمي وتمتليء الغرفة بالزوار.

استطعت التسلل بعيدا عن عيون المراقبين، وخلسة دلفت إلى دهليز يوصل لغرفته، كان الباب مغلقا، وكان ثمة صمت، طرقت الباب فجاءني الصوت :

- ادخل.

فتحت الباب ودخلت، وأنا أدخل كان أمل دنقل يحاول على عجالة ارتداء طاقية رمادية، لكنني استطعت أن أتبين أن رأسه بلا شعر تقريبا، كان نحيلا جدا، وأظن أن شعر حاجبيه أيضا كان قد سقط، وتكسرت كل الكلمات في جوفي، تسمرت في مكاني وأنا أعاين جسده النحيل، ويبدو أن صمتي قد طال لأنه فاجأني بصوت أقرب إلى الغلظة :

- ماذا تريد ؟

كل ما قلته إنني أبحث عن غرفة إبراهيم حسان وأتساءل إن كانت هذه هي غرفته.

بنفس غلظته ونفس جهامة رجل موقف الأتوبيس في ميدان الجيزة، أجابني وهو يلتفت إلى الجهة الأخرى من الغرفة :

- لا

هل اعتذرت له، هل تمتمت بأي شيء، وأنا أغادر الغرفة ؟

لا أذكر

كل ما أذكره أنني عدت أدراجي مرة أخرى، وفي كل خطوة كنت أتهم نفسي بعدم الشجاعة تارة وعدم القدرة على تجميع الكلمات تارة أخرى، لكن الأكيد أن الرعب كان يملأني على حالة هذا الشاعر الكبير.

في البهو لقيت فتاة الأتوبيس جالسة في انتظار موعد الزيارة، عندما شاهدتني أهم بمغادرة المعهد لحقت بي صائحة :

- هيه، هل ستقابل زوج عمتي ؟

بنفس غلظة أمل دنقل وجهامة رجل موقف الأتوبيس في ميدان الجيزة، أدرت وجهي للناحية الأخرى وأجبتها :

- لا

وعدت إلى الدار.

في الليل كتبت قصيدة اسمها " هل تعرفني " وهي قصيدة من وحي رؤيتي لأمل دنقل.

في هذه القصيدة قلت كل ما لم يحدث في الزيارة الحقيقية، عرفته بنفسي وبشعري وأقمت معه جسور الكلام، ذلك الذي تكسر على حافة فمي فادعيت أنني أخطأت الغرفة.

في اليوم الثاني اصطحبت دفتر أشعاري وذهبت إلى التليفزيون لتسجيل حلقة من الأمسية الثقافية مع فاروق شوشة، وعندما طلب مني أن أقدم للمشاهدين نموذجا من شعري، وبدون أن أنتبه، مررت على قصيدة جمال عبد الناصر مرور الكلام تلك التي كانت صفحتها مطوية تمهيدا لقراءتها، ووصلت إلى صفحات الدفتر وقلت:

قصيدة إلى أمل دنقل على سرير الشفاء.

حين حملتُ حقائب سفري
وطرقت على بابك في الليل
منزويا كنتَ تغني للوطن المتمدد في عينيك ووجع الأرض
وأنا خاصمت الأيام حواليك
وعشقت الركض
وفجائيّا كنتَ وكنتُ أخبّئك بكتبي
وأهاجر لأراضيك وبلدانك ليلاَ
وإلى حيث يضم الجفنان الحلم الأملاَ
وأفاجئهم بك منتصبا نخلاَ
وعنيدا كالريح الهوجاءْ
هل تعرفني ؟
آخر عودٍ نبت بأرض الشعراءْ
ورسمتك في كرّاساتي حقلا ونهارا
موّجتك أنهارا أوقدتك نارا نزّلتك مطرا
وتخيرتك فصلا غير جميع فصول الأعوام
تطلع أخضر كالحب
وتغني للفقراءِ .

إلى آخر القصيدة.

ربما لم تمض سنة على إذاعة هذه الحلقة من الأمسية الثقافية إلا وكان أمل دنقل قد مات.

في كتابها الاستثنائي بالغ العذوبة " الجنوبي " ذكرت الأديبة عبلة الرويني أن أمل دنقل شاهد هذه الحلقة من الأمسية الثقافية واستمع إلى قصيدتي وكتبت تقول :

( مددت يدي أفتح التليفزيون في محاولة لكسر هذا الملل الخانق كان برنامج " أمسية ثقافية " للشاعر فاروق شوشة قد أوشك على الانتهاء، دعا فاروق شوشة ضيفه الشاب السمّاح عبد الله إلى تقديم قصيدته، ذكر الشاب أنها قصيدة إلى الشاعر أمل دنقل وأتمنى لو انه يستمع إلينا الآن، كدت أجن من الفرح وأنا أخاطب السمّاح عبد الله الذي لا نعرفه أمام شاشة التليفزيون:

أنت جميل .. أنت أكثر من جميل.

سقط الملل وسقطت الكآبة تماما وامتلأت الغرفة بضجيج الفرح الحاد في صوتي، بينما راح أمل دنقل في هدوئه يهديء من انفعالي:
يصبح فرحك أجمل داخلك، مثلما يصبح حزنك أنبل دون الشكوى به.

هكذا استطاعت قصيدة من شاب صغير أن تكسر كل ملامح الكآبة، وتعيد إلى أمل الهدوء والسكينة والفرح.

مرة أخرى يكون الشعر هو التوازن والبديل عن الانتحار. )

انتهى كلام عبلة الرويني، وابتدأ فرحي الخاص.

نعم، أستطيع أن أقول رأيت أمل دنقل.

بل وأضيف:

ورآني.

لم أجرؤ على مخاطبته وتعريفه بنفسي وإسماعه شعري في الغرفة رقم 8 بمعهد السرطان، فخاطبته وعرفته بنفسي وأسمعته شعري من خلال شاشة التليفزيون.

نعم ،








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من مدح نفسه ذمها
سلام ربيع ( 2011 / 6 / 1 - 18:13 )
اقرأك مرات واغلبها تمتدح نفسك اين هو شعرك عادي ولا يوجد فيه غرابة تحياتي


2 - الى التعليق رقم1
حسن علي عبدالستار ( 2011 / 6 / 1 - 18:59 )
لم ارى مديحا في المقال فلماذا هذا التجنى علي شاعر كبير في حجم السماح عبدالله الا اذا كنت تقصد مديح امل دنقل وهو بالفعل يستحق المديح؟


3 - تحياتي لك
سلام ربيع ( 2011 / 6 / 2 - 23:57 )
انت لم دنقل سوى نفسك

اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل