الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلمة حق لأجل تونس.

رائد الدبس

2011 / 6 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


إذا كان لا بد من حديث صحيح سوف يُروى عن ثورة تونس في فقه الحرية العربية، فإنه حديث البداية المُلهِمة. وإذا كان لا بد من خارطة طريق جديدة رسمتها هذه الثورة، فهي خارطة طريق الساحل.. طريقٌ أدّى من قرطاج إلى مصر والشام، وعرج على ليبيا واليمن وغيرهما.. طريقٌ يربط ما بين المشرق والمغرب العربي الكبير. وإذا كان لا بد من فصل جديد في كتاب التاريخ العربي الحديث، فهو فصل عصر ثورات الحرية والكرامة والديمقراطية، وبناء الدولة العربية المدنية الحديثة، دولة القانون.

وبعد، فقد شكّلتْ ثورة تونس، بداية انتقالٍ تاريخيّ للمجتمع التونسي والمجتمعات العربية ، من حالة القطيعة التي سببتها أنظمة الاستبداد بين الدولة والمجتمع، إلى حالة تعيد الاعتبار للمجتمع ودوره في صنع دولته والمشاركة الفاعلة في إدارتها. لكن هذا الانتقال التاريخي، لا بد له أن يمر بمرحلة انتقالية. مرحلة مخاض ما بعد الثورة، بكل ما يتخللها من آلامٍ وفوضى، عنوانها الرئيس هو عملية تفاوض شاملة وواسعة النطاق، تجري الآن بين كل مكونات المجتمع المدني التونسي، بكل ما فيه من اتجاهات سياسية وفكرية. أما الهدف الرئيس من هذه العملية التفاوضية الشاملة، فهو إعادة الاعتبار للدولة المدنية التي خلخل الاستبداد أركانها وشوّه بنيانها. وتقتضي إعادة الاعتبار، إرساء قواعد نظام ديمقراطي يضمن حقوقاً متساوية لكل المواطنين، للمشاركة في الحياة السياسية دون إقصاء أو تهميش. وتقتضي المشاركة الشاملة في الحياة السياسية، اتفاق جميع المشاركين، اتفاقاً واضحاً لا لبس فيه، على الحد الأدنى من مبادئ العملية الديمقراطية، يتضمن الاعتراف الصريح بالديمقراطية، ليس بوصفها مجرد صندوق انتخابات، بل نظام حياةٍ سياسية في ظل الدولة المدنية الحديثة، دولة القانون التي تضمن لجميع مواطنيها حقوقاً متساوية، وحريات عامة دون أي تمييز من أي نوع.

لقد عشتُ كل أحداث ثورة تونس وما قبلها وما بعدها حتى هذه اللحظة، بما في ذلك أخطر الأيام والأسابيع التي تلت انهيار نظام بن علي وما تخللها من فوضى أمنيّة خطيرة، وعبث عصابات فلول العهد البائد، التي حاولت أن تربك الثورة وفشلت تماماً. لكن من المخاطر التي تواجه ثورة تونس اليوم من وجهة نظري، هذه الفوضى السلفية التي تعبث بثورة لم يكن لها علاقة بها. وتحاول أن تبث أفكاراً متخلّفة لا علاقة للإسلام بها، ولا علاقة لتيار الإسلام السياسي المعتدل والمستنير بها أيضا. وتحاول أن تقول بأنها تريد أسلمَة المجتمع التونسي، وكأن هذا المجتمع لم يكن مسلماً منذ أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً..!
ولأن الفوضى السلفية تخلق فائضاً من الوهم بامتلاك الحلول الجاهزة لكل صغيرة وكبيرة في شؤون الدولة والمجتمع، فإنها تمارس نوعاً من الغوغائيّة السياسية الاستبدادية التي تتميّز بأسلوب المناكَفَة والمساجلات البليدة، وليس النقاش الحر. وغالباً ما تكون تلك المناكفات السجالية على مستوى وفي مصلحة الأشد بلاهة، أو من يتقن فن الخطابة بلغة حمّالة أوجه عديدة. وإذا كانت الديمقراطية تقتضي الاعتراف بكل الآراء والاتجاهات، دون أي إقصاء، واحترام نتائج الانتخابات الحرة النزيهة، مهما كانت، فإن الحد الأدنى الذي يُفتَرَض الاتفاق عليه، هو الإعتراف بالديمقراطية وبدولة المواطَنَة والقانون، أي الدولة المدنية الحديثة. أما تخويف الناس من الديمقراطية ومن فكرة المواطنة والدولة المدنية، والقول بأنها تتعارض مع العقيدة، وأنها من مخلفات العلمانية الكافرة ، واختتام ذلك بالقول بأننا سنكتسح صناديق الانتخابات ، فكيف يستوي هذا الكلام مع الديمقراطية؟

يستفيد تيار الفوضى السلفية كثيراً من نقاش سلفي لائكي آخر متطرف مثله، ينطلق من فكر إقصائي لا يرغب بمشاركة كل التيارات الدينية في العملية الديمقراطية . ولا يخفى على أحد أن الردود بين هذا التطرفيْن تتخذ طابع المناكفة الشعاراتية وحملات التشهير. فردّاً على الشعار السلفي الخالي من المضمون السياسي : الإسلام هو الحل، والقرآن هو دستورنا، يرد المتطرفون اللائكيون بأن اللائكية هي الحل وهي الدستور، دون أن يبذلوا جهداً يترجم للناس مفهوم اللائكية وأهدافها. وفي الواقع، فإن الحل والدستور الجديد، ستتم صياغتهما بمشاركة كل الفاعلين الحقيقيين الناشطين في الحقل السياسي، وبنتيجة عملية التفاوض الشاملة التي ستخرج بعقد اجتماعي جديد ناظم لحياة الدولة والمجتمع.

في هذا السياق، فإن جوهر النقاش والتفاوض الذي يحدث في تونس لا يختلف عن نظيره في مصر. فالتيار السلفي حاضر هنا وهناك، داخل وخارج الحركات الإسلامية التقليدية مثل حركة الإخوان المسلمين وحزب النهضة، وليس بالضرورة أن يكون على توافق تام أو تعارض تام مع هاتين الحركتين.. يريد التيار السلفي أن يستخدم الديمقراطية كصندوق انتخاب، كي يعيد الأمور -وفق ما يعتقد- إلى حكم الحاكم المسلم ضمن دولة إسلامية. وهنالك تيار إسلام سياسي معتدل، داخل وخارج الحركات الإسلامية التقليدية، يتطلع إلى صياغة نموذج سياسي وطني ناجح يحاكي تجربة حزب العدالة والتنمية التركي على سبيل المثال. والتفاوض والنقاش الذي يدور الآن، هو بين كل التيارات السياسية الديمقراطية المعتدلة على اختلاف اتجاهاتها ومنابعها الفكرية من جهة، وبين الانفلات السلفي من جهة أخرى .

في المجتمع التونسي المتجانس من الناحية السوسيولوجية، لا يجد الانفلات الفوضوي السلفي قضايا مذهبية أوطائفية أو قبلية يتلاعب بها. ولا يبقى لديه سوى القول بأن النظام السابق كان علمانيا كافراً، وأن الحل هو بالعودة لنظام الدولة الإسلامية. وفي واقع الأمر فإن النظام السابق في تونس لم يكن علمانيا حقيقياً ولا كافراً، بل كان مجرد نظام استبدادي بلا قضية. حتى أنه لم يجرؤ على ادعاء قضية أيديولوجية أو سياسية كما يفعل نظيره السوري مثلاً. كل ما كان يدعيه النظام السابق هو تحقيق الاستقرار. وجوهر ما يطرحه السلفيون يدور حول تحقيق الاستقرار المستبد العادل الحلال ، أي استبدالُ استبدادٍ كان يحكم بلا قضية، باستبداد يحكم بقضية شرعيّة، وفق ما يعتقد. وفي النهاية فإن محصلة ما يدعون له تؤدي إلى تغييب الدولة الحديثة، وإعادة إنتاج القطيعة بين المجتمع والدولة.. فبدلاً من التوجه نحو إصلاح المؤسسة الدينية التي تعاني من الترهل والجمود، وطرق أبواب الاجتهاد المغلقة منذ قرون طويلة، تراهم يبتعدون عن الأبواب المغلقة ويتركونها تحتمل الانتظار لقرون أخرى قادمة.

المجتمع التونسي معروف بتسامحه وانفتاحه على كل الآراء والاتجاهات الفكرية، ومعروف بامتلاكه تقاليد عريقة في العمل النقابي والوطني والاجتماعي، ونسبة عالية من التعليم والثقافة. كل هذه العوامل تشكل ضمانة راسخة للنجاح في الوصول بالثورة المُلهِمة إلى بر الأمان. يبقى التذكير بمقولة المفكر الراحل إدوارد سعيد : لا تمتلك أية رؤية هيمنة كاملة على مجالها. فذلك هو حجر الزاوية في البناء التفاعلي بين كافة الرؤى المختلفة. أما هذه السطور، فلا تطمح أن تكون أكثر من كلمة حق لأجل تونس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تعلن طرح وحدات سكنية في -رفح الجديدة-| #مراسلو_سكاي


.. طلاب جامعة نورث إيسترن الأمريكية يبدأون اعتصاما مفتوحا تضامن




.. وقفة لتأبين الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل


.. رجل في إسبانيا تنمو رموشه بطريقة غريبة




.. البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمقا