الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري

عبد المجيد حمدان

2011 / 6 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


1
مطالب التنمية :الإسلام والحل


غياب:
كان شعار الإسلام هو الحل قد غاب عن ثورة 25 يناير المصرية ، بعد أن كان قد غاب عن ثورة الياسمين التونسية . ثم غاب بعدهما عن ثورات الشباب اليمني ثم الليبي والسوري . وكان مما يلفت النظر أن هذا الشعار غاب أيضا عن مظاهرات الشباب التي وقعت في الأردن ، في الجزائر ، في المغرب وفي البحرين والعراق . واستمر غياب هذا الشعار عن ثورة 25 يناير ، حتى بعد الإلتحاق الكثيف بها من جماعة الإخوان المسلمين وتيارات سلفية عدة . وبدا للمراقب وكأن جماعة الإخوان ، وباقي التيارات السلفية ، قد أقرت بأن هذا الشعار ، الذي رددته على مدى سنوات طويلة ، غير جامع وغير ملائم للمرحلة . كما بدا وكأن هذه الجماعات ، ومن خلال ترديدها لشعارات الثورة : إسقاط النظام ، تحقيق الحرية ، إقامة ديموقراطية حقيقية ، سيادة القانون ، إقرار حقوق الإنسان والمواطنة في مقدمتها ، وتحقيق العدالة الإجتماعية ، قد أقرت بهذه الشعارات بديلا لشعارها المخضرم : الإسلام هو الحل . وكان مفجرو الثورات قد طرحوا شعارهم هذا بديلا أيضا للديموقراطية الزائفة التي تطبقها النظم القائمة ، والمطلوب إسقاطها . واستمر هذا الحال حتى بعد نجاح ثورتي الياسمين و25 يناير .
في مصر كانت التعديلات الدستورية والتصويت عليها . وكما هو معروف جاءت النتيجة متماشية مع وجهة نظر هذه الجماعات التي طالبت بالتصويت عليها بنعم . وكان أن ظنت الجماعات ، كما عكست تصريحات عدد من رموزها ، أنها تمسك بأعنة قيادة الأغلبية الكاسحة من الجماهير ، وأن هذه الأغلبية تقبل برامجها ، وفي المقدمة منها شعارها الذي اختفى : الإسلام هو الحل .
بعد ظهور نتيجة التصويت ، على التعديلات الدستورية ، بدا وكأن نوعا من الإنقلاب قد حدث على سلوك جماعة الإخوان المسلمين . فليس فقط أن خطابهم استبدل المسايرة بالغطرسة ، بل وعاد لإشهار سلاح الإرهاب الفكري ، في وجه المعارضين ، هذا السلاح الذي برعت الجماعات الإسلامية في استخدامه على مدى السنوات الطويلة الماضية . وكان ما طرأ على سلوك عضو لجنة تعديل الدستور ، عضو جماعة الإخوان ، صبحي صالح ، من تغيير ، مؤشرا بارزا على عودة جماعة الإخوان لإشهار سلاح الإرهاب الفكري في وجه منتقديهم . والمتابع لتصريحات رجل القانون هذا لا بد أن يلاحظ ذلك الإنتقال من اللين والمسايرة ، وهو يشرح التعديلات الدستورية ، إلى الهجوم المتسم بالغطرسة بعد ذلك .
لا أهمية ، في واقع الأمر ، للسمة التي تصطبغ بها تصريحات صبحي صالح ، وغيره من رموز التيارات السلفية . لكن الوجهة التي يريدون لمصر السير فيها هي ، في واقع الحال ، على قدر كبير من الأهمية . فكثيرة هي التصريحات اللافتة للنظر ، والمؤشرة على الوجهة التي يريدون لمصر السير فيها . ونحن هنا سنعرض البعض منها والتي هي ، كما نرى ،أكثر من كافية .
سعيكم مشكور :
في مؤتمر انعقد بالهرم ، نظمه الإخوان المسلمون وسلفيون ، وضم أكثر من خمسين ألفا ، حسب المصري اليوم ، عدد 9 / 5 / 2011 ، قال الدكتور صفوت حجازي ، وهو داعية سلفي : " أعداء الإسلام هم أعداء مصر ، ويرتعدون فزعا لأنهم يعرفون أن نجاح الثورة المصرية هو نجاح وعودة الأمة العربية الواحدة ، ويعلمون أن الولايات العربية المتحدة قادمة ، والولايات المتحدة الإسلامية قادمة ، وسيكون لنا قريبا جدا خليفة وإمام يفعل كما كان يفعل هارون الرشيد ، لذلك أميركا وإسرائيل تعاديان هذه الثورة لأنهما تعلمان أنها الخطوة الأولى نحو بيت المقدس "
الشيخ محمد حسان ، وهو داعية سلفي آخر ، قال في نفس المهرجان : "ليس من حق أحد أن يمنع الإسلاميين من أن يعتنوا بدينهم ، لأنهم لم ينزلوا على مصر من كوكب آخر ، وأحد الأشخاص قال لي : انتم ركبتم الموجة ، فقلت له : إحنا البحر وهذا البلد دينه الإسلام ، والأقباط ما شعروا بالأمان إلا في ظل الإسلام، وأقول لهم : أنتم لستم في حاجة للإستقواء بأمريكا والخارج ، لأن ديننا يلزمنا بحمايتكم ، فلن نقبل الإهانة لهم على الإطلاق ، وسنعاملهم بالعدل . "
خطباء الإخوان لم يخرجوا عن خط زملائهم السلفيين ، وإن تفوقوا في تحديد الآلية . حلمي الجزار عضو مجلس شورى الإخوان قال : " نريد أن تكون الأصوات في الصناديق الإنتخابية معبرة عن هوية مصر ، فهي كنانة الله في الأرض وبلد الإسلام ، ونحن نعيش يوم الإسلام في مصر الآن ".
قد يبدو هذا الكلام لكثيرين نوعا من الهلوسة ، أو الهذيان ، وفي أحسن الحالات نوعا من أحلام اليقظة ، أو حتى الخيال الجامح ، وهو لذلك لا يحتاج إلى تعليق ، وهو ما فعلته المصري اليوم . ذلك خطأ دأب المثقفون ، ومن يوصفون بالمفكرين ، على ارتكابه . هذا كلام لا يطلقه قائلوه على عواهنه . وهم يرون، على ما يبدو ، أن تحقيقه لم يعد بعيد المنال . وآلية التحقيق حددها الشيخ الجزار . إذن كل جملة فيه تحتاج إلى وقفة ، ووقفة مطولة ، قافزين على مسألة عيش الأقباط كأهل ذمة ، في دولة الإسلام ، والتي كنا وقفنا معها في وقفتنا : عبود الزمر والعيش خارج الزمان والمكان .
قد يظن سامعو وقارئو الشيخ حجازي أن فلسطينيين كثر ، ربما يقفزون طربا لكلامه ، أو وعده ، بتحرير فلسطين . لكن لا أحد من عقلاء فلسطين يمكن أن يفرحه مثل هذا الكلام . لقد علمتنا التجربة المرة ،وتراكمات خبراتها على مدى عقود وعقود ، أن ننظر بحذر ، وبحذر زائد ، للطروحات المماثلة لطروحات الشيخ حجازي . علمتنا التجربة أن كل النظم العربية المستبدة ، والمعادية لطموحات شعوبها ، ركبت ظهر القضية الفلسطينية ، ولم تفعل شيئا غير استغلالها في تبرير استبداد نظمها ، وتثبيت وتعميق فسادها . الأمر ذاته تكرر مع كل القوى الطامحة لاعتلاء صهوة النظام ، والتي تضع العداء للديموقراطية ، وإنكار الحريات ، ورفض الحقوق ، والتفريق بين المواطنين ، على جدول أعمالها ، بلغت ما بلغت قدراتها على تمويه برامجها . كما علمتنا التجربة ، بكل مرارتها ، أن النظم التي لا تضع تنمية بلدانها على رأس جدول أعمالها ، ولا تعمل للتنمية بكامل طاقات بلدانها ، لا يفعل انحيازها خيرا لقضيتنا الفلسطينية .
استنادا لخبرات تجاربنا نرى أن مصر تحتاج ، أول ما تحتاج الآن ، إلى توظيف كل قدراتها وطاقاتها لتصفية إرث النظام البائد ، هذا الإرث الثقيل جدا . تحتاج صب كل جهودها على التنمية بكافة تنوعاتها ، تنمية تمكنها من أن تتبوأ مكانها الطبيعي بين أمم العالم المتقدمة . وحتى تنجز ذلك يتوجب أن لا يشغلها عنه شاغل ما ، ومهما علت درجة أهميته . نحن في فلسطين ندرك ، كما نعي تماما ، أن مصر المتطورة ، المتقدمة علميا وصناعيا ، المتقدمة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ،المتقدمة ثقافة وحضارة ..... هي من يساعد فعلا قضيتنا الوطنية . قد يستغرق ذلك عقدا أو أكثر ، وهو ليس بالوقت الطويل في عمر قضيتنا الوطنية . وإلى أن يحين ذلك لا يسعنا إلا أن نقول للشيخ حجازي وزميله الشيخ حسان ، ومن هم على شاكلتهم من الإخوان ، إلا ما تعودنا قوله للعائد من الحج : سعيكم مشكور وذنبكم مغفور .
أبشري يا مصر :
في الإقتباسات السابقة من خطابه بشر الشيخ صفوت حجازي المصريين بمستقبل "وضاء !". بجملة واحدة ومختصرة حل لهم معضلات التنمية . وللحقيقة لم يقصر هذه البشرى على المصريين فقط ، بل وطيرها لكل العرب أولا ، ثم لكل المسلمين بعدهم . فنجاح الثورة المصرية ، حسب قوله ، يفتح الطريق واسعا لوحدة الأمة العربية ، في ولايات عربية متحدة أولا، تعقبها وحدة إسلامية بولايات إسلامية متحدة . كما بشرنا جميعا بقرب عودة الخلافة ، وحيث سيعمل الخليفة الإمام مثلما كان هارون الرشيد يعمل . لماذا هارون الرشيد بالذات ، والجماعات الإسلامية تعتبر عهده ، وكل العهد العباسي ، خروجا على الإسلام الصحيح ؟ وما هو الطريق لإعادة استنساخ الرشيد ؟ الجواب لا يحتاج إلى أي نوع من البحث أو التنقيب . الآلية عرضها متحدثو الجماعات السلفية ، وجماعة الإخوان المسلمين ، في المهرجان لتحقيق برنامجهم هذا . كيف ؟
يبدأ تطبيق هذه الآلية من الانتخابات القادمة ، في تكرار لما فعله النظام البائد ، أي استخدام آلية الديموقراطية ، الإنتخابات وصناديق الإقتراع ، للقفز على السلطة . فحسب قول المسؤول الإخواني ، الشيخ الجزار ، على المصريين صب الأصوات لصالح جماعة الإخوان وحلفائهم . بهذا ، وبهذا فقط ، يكون التعبير الصحيح عن هوية مصر ، كنانة الله في الأرض ، وبلد الإسلام ، وحيث يعيش المصريون ، بفضل ثورة 25 يناير ، يوم الإسلام الآن ، حسب الشيخ حلمي الجزار . وفي حال أن تحققت الخطوة الأولى هذه ، تلحقها خطوة تحويل الدولة إلى الدولة الدينية المنشودة ، كما تشير تصريحات دعاة السلفيين والإخوان . وحسب ما يفهم من الاقتباسات السابقة ، إن حدث ذلك يطل عصر الخلافة والولايات العربية المتحدة ، فالولايات الإسلامية المتحدة ، وحيث مصر والقاهرة حاضرتها ( مركز الخلافة ) . ومرة أخرى يبرز السؤال : كيف السبيل إلى ذلك ؟
لم يختر السلفيون هارون الرشيد مثالا للإمام والخليفة القادم دون روية أو تبصر . فحسب رؤيتهم لم يتصف عهده باتساع ظاهرة الجواري ، كما لم تكن ليالي بغداد ليالي حمراء أفرزت حكايات ألف ليلة وليلة . إذ يسجل التاريخ أن عهد هارون اتصف بالجدية في توطيد دولة الإسلام . ويقول أن أبرز معالم هذا العهد تمثل في أن الرشيد كان يغزو سنة ، ويحج سنة ، ويستريح الثالثة . والأخيرة شطبها السلفيون من تاريخه . وبسبب حرصه على تطبيق برنامج عمله هذا ، عم الخير على البلاد . وكنتيجة لفيض الخير هذا، جرى تصنيف عهده بأنه أزهى العصور الإسلامية وأكثرها رخاءا وسعة عيش للعباد . وحكايته مع الغيمة مشهورة : أمطري في أي بلاد شئت فخراجك لنا . هكذا يقدم دعاة السلفية والإخوان جوابا على ، وخطة ل ، تحقيق مطالب التنمية التي تشغل بال المصريين اليوم ، وتتجند لوضع برامجها عقول كبيرة وكثيرة . ولا نظن القارئ بحاجة للتذكير بأن دعاة السلفية ، ويبدو أن الإخوان كذلك ، كما يدل على ذلك مظهرهم ومسلكهم ، لا يملكون أدنى فكرة عن متطلبات التنمية ، لبلد كمصر ، أو حتى لبلد أصغر ، في قرننا الحادي والعشرين هذا . هنا قد يسارع قارئ للقول : أليس الحديث هنا عن التنمية تحميل لكلام الشيخ حجازي بأكثر مما يحتمل ؟ أليس فيه تقويل للشيخ بما لم يقله ؟ وألا يعكس موقفا معاديا للكاتب من أهل الدعوة لينسب لنواياهم ما لا تضمر ؟ ونقول : لنستمع لداعية آخر ، ومن شريط مسجل تحت عنوان " الولاء والبراء عن الجهاد " . الداعية اسمه أبو إسحاق الجويني نقل كلامه الكاتب خالد منتصر في عموده "خارج النص " ، المصري اليوم عدد 9 ابريل نيسان الماضي . يقول الجويني :"هو إحنا الفقر اللي إحنا فيه إلا بسبب ترك الجهاد ، مش لو كنا كل سنة عمالين نغزو مرة أو اتنين أو تلاتة ، مش كان حيسلم ناس كتير في الأرض ،واللي يرفض هذه الدعوة ، ويحول بينا وبين دعوة الناس ، مش كنا نقاتلهم وناخدهم أسرى ، وناخد أموالهم وولادهم ونساءهم ، وكل دي عبارة عن فلوس ، وكل واحد مجاهد كان بيرجع من الجهاد وهو جيبه مليان ، ليه ؟ معاه اتنين تلاتة شحوطة – جمع شحط وهو الرجل طويل القامة قوي البنية - وتلات أربع نسوان وتلات أربع ولاد ، اضرب كل راس في 900 درهم ، أو 600 دينار تلاقيه راجع بمالية كويسة ، لو هو راح يعمل صفقة في بلاد الغرب عمره ما راح يعمل الفلوس دي ، وكل ما يتعذر ياخد راس يبيعها ويفك أزمته " . فهل يتصورنَّ أحد في قرننا الحادي والعشرين ، أن داعية يصغي له المؤمنون باحترام ، ويستمعون له بكل إجلال ، يدعو هكذا بمثل هذه الوقاحة ، لإعادة عصر الرقيق ، ولفتح أسواق النخاسة ، حتى يتمكن المجاهد الذي عاد بغنيمة من المقاتلين ومن النساء والأولاد ، بيع رأس منهم كلما احتاج كي يفك زنقته ؟!!!كيف لم تهب منظمات حقوق الإنسان في وجه داعية كهذا ، لا يرى في الإنسان المأسور أكثر من بهيمة ، يدخرها للبيع عند الحاجة؟، أليس ما قدمه الشيخ رؤية إسلاموية للتنمية التي تحتاجها مصر الآن بشدة ؟ وأخيرا أنحن من يتقول عليهم بما لا يقولونه ؟
قد يرد القارئ : ولكن هذا داعية ربما اشتط به الحماس وقال ما قال دون قصد ، أو دون ما فسره من هم مثلك . وأقول قد يكون ذلك صحيحا ، لكن لنسأل : لماذا لم يرد عليه داعية مثله ، يخطئه ويتنصل هو والجماعة من أقواله – في أشرطته ما هو أسخم من هذا - ؟ لماذا لا تقول الجماعة لمثل هؤلاء : اسكتوا أنتم تسيئون للجماعة وللدين ، ونحن براء من أقوالكم ؟ لا يقولون لأنهم في واقع الأمر يتبنون هذه الأفكار التي كانت مقبولة ومعمولا بها في العصور السابقة التي كانت عصور عبودية . وهم ربما لا يدركون أن عصر الرقيق انتهى بغير رجعة ، وأن لا قوة في الكون قادرة على إعادة فرضه على البشر من جديد . ومع ذلك دعونا نضع متطلبات التنمية تلك جانبا ونتابع حلم السلفيين والإخوان ذاك .
ويظل السؤال يلح : كيف سيتم تحقيق حلم الولايات المتحدة العربية ؟ هل ستسارع السعودية ، وهي دولة تطبيق الشريعة ، ومصدرة الدعوات السلفية ، وقبل ذلك هي بلد الإسلام ، بلد مسقط رأس رسول الله ، ومسقط رؤوس الصحابة الذين يتأسى بهم السلفيون ، هل ستسارع السعودية للانضمام طواعية إلى الإتحاد المنشود ، بمجرد تحول مصر إلى الدولة الدينية ؟ هل سيفعل السودان ذلك بنظامه الإسلامي والسابق على تطبيق الشريعة ؟ وهل ستفعل ذلك ليبيا ، إن حكمها إسلاميون ؟ هل ستفعل ذلك اليمن ؟ وماذا عن إيران وباكستان ؟ وماذا عن الدول غير المرشحة لتغيير نظمها القائمة قريبا جدا ، كدول الخليج والمغرب العربي ؟ الجواب واضح ولا يحتاج إلى إطالة تفكير : لا لن يفعل أي منها ذلك .
لكن وحين يبشرنا الشيخ حجازي بأنه " سيكون لنا قريبا جدا خليفة وإمام " مثل هارون الرشيد ، يكون معنى هذا أن الرئيس القادم لمصر ، أو بعد القادم على أبعد تقدير، إخوانيا كان أم سلفيا ، سيكون هو هارون الرشيد المنتظر . ومن يومه الأول سيبدأ تطبيق برنامج : الغزو سنة والحج سنة . هنا علينا أن نسأل الشيخ حجازي : أي الجوار سيكون وجهة غزوته الأولى ؟ أستكون ليبيا ، السودان أم فلسطين ، باعتبارها دول الجوار ؟ فلسطين ، حسب ما يفهم من كلام الشيخ حجازي ستنتظر بعض الوقت ، على الأقل حتى تقوم دولة الولايات العربية المتحدة من ولايتين أو ثلاثة .
لا يبدو من خطب هؤلاء الدعاة أن أيا منهم يعي متطلبات الحروب الحديثة أو عواقبها . إلتصاقهم بالماضي البعيد يجعلهم لا يدركون أن غزو الجارة ليبيا اليوم ، لا يجمعه أي جامع بغزو عمرو بن العاص لها في ذلك الماضي البعيد . كما أن حروب الحاضر لا شبه بينها وبين غزوات الرسول أو حتى غزوات هارون الرشيد . وإذا ما دققنا في خطاب الشيخ حجازي ، وهو لا ينطق عن هوى شخصي ، فهو في حقيقة الأمر يبشر المصريين بزج بلدهم في سلسلة حروب لا تنتهي ، سيجلب أولها دمارا لمصر ، بديلا للتنمية التي تستعد العقول المصرية الآن لبدء خطواتها . وقد لا يفعل السلفيون والإخوان أي شيء من ذلك . قد يكون كل كلامهم هذا ضحكا على ذقون البسطاء ، حتى إذا وصلوا الحكم تربعوا فيه . وبما أنهم لا يملكون برامج للتنمية فإنهم سوف ينعمون على مصر باستنساخ النظام البائد .
مشكلة صالح :
وننتقل بعد هذا إلى رجل القانون ، العضو المشارك في لجنة التعديلات الدستورية ، قطب الإخوان ، صبحي صالح . لقد كان أن لفت انتباه أي متابع للشأن المصري انتقال الأستاذ صالح ، وبعد ظهور نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية ، من الملاينة ، من المناورة ، إلى الترهيب ، إلى استلال وشحذ سلاح الإرهاب الفكري ، الذي أجادت جماعته ، وأجاد حلفاؤه ، الجماعات السلفية ، استخدامه ، على مدى العقود الماضية . الأستاذ صالح ، ونقلا عن المصري اليوم ، أعداد شهر ابريل ، نيسان ، ومايو أيار ، لم يكتف بالتأكيد : "لن نرضى بغير الشريعة بديلا " ، بل أضاف : " إيه المشكلة لما تقول حكم إسلامي ؟ مصر دولة إسلامية بنص الدستور أصلا ، وهذا موجود منذ دستور 23 ...... وما المشكلة أن يقال أن الشريعة الإسلامية تتضمن تشريعا جزائيا بأربعة جرائم اسمها جرائم الحدود وردت في القرآن نصا ، واللي عنده حساسية من القرآن أو دينه يعلن هذا صراحة دون التمسح بالإخوان " . ويضيف : "لا أعتقد أن أي شخص مسلم يعترض على تطبيق القرآن والحدود شرع الله عز وجل ، وأي مسلم مش عاجبه كلام ربنا فمشكلته هو " . وفي وقت لاحق ، ومناسبة ثانية قال :"التحالف بين التيارات الإسلامية يستهدف التصدي لحملات بعض القوى السياسية التي تريد إقصاء المشروع الإسلامي وعدم تطبيق الفرائض والحدود التي نص عليها صحيح الدين " وأضاف : "الهجوم على التيارات الدينية هجوم على الإسلام ورفض تطبيق أوامره ونواهيه ".
والمتابع يرى كيف يفيض أستاذ القانون هذا على مستمعيه بالجديد من تحفه كل يوم . أتحفهم بأنه وجماعته ، لا يعترف بالمسلم الليبرالي ولا بالمسلم اليساري أو العلماني ، كما لا يرى زواج الأخ صحيحا إلا من أخت من الجماعة ، وهو غير مقبول إن كان من مسلمة مؤمنة ، ولكن من غير الجماعة . وسمى من يفعل ذلك باسم عجيب ، أو ربما صفة ، هو فلوطة ، لم يتكرم على سامعيه حتى الآن بتعريفه . وليتساءل القارئ : أي صورة يراها أستاذ القانون هذا لمصر المستقبل ؟ . لكن دعونا نتجاوز جديد صالح ونعود إلى وقفة مع تصريحاته السابقة .
وقبل أي شيء لا بد أن نلفت الانتباه لفعل إرهابه الفكري ، المتضمن في التصريحات السالفة ، على من قرأت لهم في الرد عليه . من قرأت لهم تجنبوا الدخول في مواجهة تفنيد لطروحات صالح . لم يسألوه عما وراء حكمه القطعي :"لن نرضى بغير الشريعة بديلا " . استداروا وداوروا لنفي تهمة الحساسية مع القرآن والدين عن أنفسهم . قالوا أن حساسيتهم هي مع تفسير جماعته للقرآن وللدين ، واعتبار هذا التفسير هو صحيح الدين ، ومعارضته خروج على الدين . هو لم ينكر ذلك وقال لهم ما معناه: نعم تفسيرنا ورؤيتنا هي الدين . قال بالحرف : "الهجوم على التيارات الدينية هجوم على الإسلام ورفض لتطبيق أوامره ونواهيه " . وإذا كان مثل هذا القول ليس إرهابا فكريا فكيف يكون الإرهاب الفكري إذن ؟ ولم يسأله كاتب ما : أليس لديك أنت يا شيخ صبحي مشكلة ومن ثم حساسية مع القرآن ؟ بالتأكيد لديك هذه المشكلة وعندك هذه الحساسية ، كما يتبين من نفس كلماتك السابقة . ترى هل يجوز لك – كالشاعر - ما لا يجوز لغيرك ؟ ونحن ، لأننا لسنا مثلك ، ولا نكيل الاتهامات جزافا ، سنعرض من أقوالك مشكلتك وسنستخرج منها ما نراه حساسيتك .
صالح : خداع مع سبق الإصرار والترصد .
حين قال : لا نرضى بغير الشريعة بديلا ، قال أن في القرآن أكثر من ستمائة آية تشريع . وتساءل ساخرا : ماذا نعمل بها ؟ وفي الإقتباس السالف قال : "وما المشكلة أن الشريعة الإسلامية تتضمن تشريعا جزائيا بأربع جرائم اسمها جرائم الحدود وردت نصا في القرآن " ، ليقذف بعدها في وجه القارئ أو السامع ، كأي محامي "شاطر!" ، تهمة :"واللي عنده حساسية من القرآن أو دينه يعلن هذا صراحة دون التمسح في الإخوان " .
لا أظن إلا أن الشيخ صبحي ، وهو المحامي النابه واللامع ، يعرف أن الخداع ، وهو نوع من الغش ، رذيلة . وهو جناية إن مارسها المرء ، كما في حالته هذه ، مع سبق الإصرار والترصد . ولا بد يعرف أن ضررها ، بعد خطرها ، لا يمكن حصره أو التنبؤ به . وها هو يلجأ للخداع والغش مع أنه يدعي أن خصوم جماعته يأخذون عليه طهارتها . وهو هكذا يرى أن خداع جمهور ، وغش أمة ، عن سابق إصرار وترصد ، لا يمس هذه الطهارة . كيف ؟
عدَّد السيد سابق ، زميل سابق للشيخ صبحي صالح في الجماعة ، وأحد أساتذة الأزهر الشريف ، في مؤلفه " فقه السنة" ، جرائم الحدود كما وردت في القرآن بسبعة هي : الزنا ، القذف ، السرقة ، السكر ، المحاربة ، الردة والبغي . وسؤالنا هو : أي ثلاثة منها ألغاها ، أو أسقطها ، الأستاذ الشيخ صالح ؟ والقارئ لا يحتاج إلى نباهة خاصة ، أو انتظار جواب صالح لمعرفتها . هي : القذف ، المحاربة والبغي . وأدع للقارئ البحث فيها ليجيب بنفسه على السؤال : لماذا أسقطها صالح وجماعته ؟
ولا أظن أن الشيخ صالح لا يعرف حكاية علي بن أبي طالب مع قاضي – ويقال والي – من قضاته . سأله الإمام : هل تعرف الناسخ والمنسوخ ؟ أجاب القاضي : لا . رد الإمام : إذن فقد هلكت وأهلكت . وعلى عكس هذا القاضي لا نظن الشيخ صالح يجهل الناسخ والمنسوخ . ورغم ذلك يصر على إهلاك الناس . هو تساءل ساخرا عن الستمائة آية تشريع ماذا نعمل بها . تساءل وهو يعرف أن أكثر من أربعمائة منها جرى نسخها ، أي إبطال أحكامها ، وحيث لم يعد المسلمون ، ومنذ زمن ، يطبقون أحكامها . بعضها تم نسخه في زمن النزول ، آيات تحريم الخمر مثلا ، وأخرى بعد اكتمال النزول . هو يعرف مثلا أن بضعا وثلاثين آية عالجت أوضاع العبيد ، العتق ، المكاتبة ، ملك اليمين ...الخ . ولأن عصر العبودية انتهى إلى غير رجعة ، فإن الأحكام التي جاءت بها هذه الآيات غدت غير قائمة ، اللهم إلا إذا كان الشيخ صالح وجماعته يضعون في برامجهم إعادة عصر العبودية هذا ، كما رأينا من هلوسة زميله الجويني . وحين يتحدث الشيخ صالح وأمثاله من دعاة الجماعات الإسلامية عن الحدود ، فإنهم يذهبون إلى ضرورة تطبيق حد الزنا بالرجم والجلد ، ويتناسون أنهم هم من أعمل النسخ في الآيات ألخاصة بالزنا . فهذه الآيات لا تقف عند تشريع حد الزنا وتطبيقه ، بل وتتجاوزه ، وبنفس درجة الإهتمام إلى مسألة إثبات واقعة الزنا ، بآيات الشهود الأربعة . وإذا تعذر الإثبات بها ، يكون اللجوء إلى آيات الملاعنة أو اللعان . ولأهمية مسألة إثبات الواقعة كانت آيات قذف المحصنات ، بحد القذف الذي نصت عليه . هذه الآيات ، وبالأساس ، ضمنت للمتهم ، وخصوصا المتهمة ، حق الدفاع عن النفس ، والحصول على البراءة ، وبالتالي الإفلات من تطبيق الحد ، عقوبة الرجم أو الجلد . لكن فحولة المسلم ، لم ترض بهذه الآيات وأحكامها . وكيف له أن يقبل جلد ابنته في ساحة عامة ، ثم تترك ، مجبرا على عدم عقابها مجددا ، أو النيل من إنسانيتها بأي شكل ، كما تقضي أحكام الآيات السابقة . وكان أن هذه الآيات ، جميعها ، أبطل القائمون على الشرع ، من أمثال الأستاذ صالح ، أحكامها ، واستبدلت بقانون وضعي يعرف باسم العذر المحل والعذر المخفف . هذان القانونان يعالجان جرائم قتل النساء على خلفية ما يعرف بشرف العائلة وغسل العار . وهي مفاهيم لم يعرفها التشريع الذي يطالب الأستاذ صالح بتطبيقه ، وعلى وجه الإطلاق . هكذا جرى نسخ أحكام هذه الآيات جميعا ، لسبب بسيط ، لأن المسلمين لم يرضوا بها . حدث ذلك ليس فقط بموافقة ورضا جماعة الإخوان ، والجماعات الأخرى ، بل وانبرى هؤلاء يدافعون عن القانونين السالفين واللذين حلا محل أحكام هذه الآيات ، دفاعا مجيدا ، لدرجة أن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن ، رأت في محاولة تعديل هذين القانونين ، في اتجاه تطبيق الشريعة ، دعوة لإباحة الزنا ، ولإفساد المجتمع . وكان أن نجحوا في ردع الحكومة الأردنية عن تعديل القانونين . وفي مصر ، وعلى كثرة ما يحدث من قتل على خلفية ما يوصف بشرف العائلة ، لم يحدث أن قام قطب من الإخوان ، أو داعية من الدعاة ، باستنكار ذلك ، أو الدعوة إلى إعادة العمل بأحكام آيات إثبات واقعة الزنا ، أو الدعوة لتطبيق حد القذف على من يتهم المحصنة ، أو يقوم بقتلها دون إقامة الدليل . ويمكن أن نستمر في إيراد أمثلة النسخ التي يعرفها الشيخ صالح بكل تأكيد ، إلا أننا نكتفي بالقول أن هناك من يقول من العلماء أن كل ما بقي معمولا به من آيات التشريع يزيد قليلا عن بضع وثمانين آية . ولعلنا نسأل الشيخ صالح ، وهو رجل القانون القدير ، هل هذا العدد من الآيات ، وما تضمنته من أحكام كاف لتغطية هذا الكم الهائل من القضايا ، وبينهاالجرائم والجنايات والجنح ، التي تقع في المجتمعات المعاصرة ؟ ولعلنا نسأل الأستاذ صالح : إذا كانت سرقة خمسة جنيهات تقضي بقطع يد السارق ، ترى كيف ستكون عقوبة سارق المليارات ؟ وهو يعرف أن أساليب السرقات ، في عصر النيت والإلكترونيات الحديثة ، تختلف كثيرا عن شروط إثبات جريمة السرقة ، كما بينها الشرع ، فكيف يرى أن يكون التعامل معها ؟ ولا مزيد من الأسئلة التي لن يتكرم الأستاذ المبجل وجماعته بإجابة الناس عنها .
صالح وحساسيته مع القرآن :
يعرف الأستاذ صالح يقينا ، أنه حين يهدد خصوم جماعته ، بمشكلة لهم مع القرآن أو الدين ، أن سلاح الترهيب هذا لم يعد ماضيا وفعالا ، كما كان في الماضي القريب . هو يعرف أنه حين يشهره في وجه من يصفهم بالملحدين ، والعلمانيين واليساريين ، لا يفعل في الحقيقة شيئا . صحيح أنه وجماعته علموا أتباعهم أن كل السابقين ملحدين ، لكنهم لم يعلموهم أن لا مشكلة للملحد مع القرآن ، لأنه وببساطة لا يأخذه عقيدة له . والأستاذ صالح يعرف ، وإن كان لا يعترف ، وهو يشهر هذا السلاح ، أنه هو ، جماعته ، كما كل المسلمين ، من لهم مشكلة مع القرآن والدين ، وأن الذين يقذف بهكذا اتهامات في وجوههم ، صاروا قادرين ليس فقط على الدفاع ، بل ورد التهمة إلى أصحابها الحقيقيين ، هو وجماعته .
لقد برزت مشكلة المسلمين مع القرآن مبكرا جدا . في معركة صفين ، وحين أشار سير الأحداث أن الغلبة ستكون لفريق الخلافة ، لجأ الداهية عمرو بن العاص إلى الخديعة . وهداه دهاؤه إلى استخدام القرآن كأفضل وسيلة لتمرير الخديعة . أشار على معاوية برفع المصاحف على أسنة الرماح ، كطلب بالإحتكام إلى القرآن . انطلت الخدعة على قادة جيش علي الذي فشل في إقناعهم بأن في الأمر خديعة . وقف القتال . نجا معاوية وجماعته ، وكان التحكيم .
سأل الإمام محكمه ، أبو موسى الأشعري ، عن مرجعية المفاوضات . قال أنها القرآن . وصاح علي : ويحك إنه حمال أوجه . وكان ، قبلها أو بعدها ، لا أعرف ، قد قال قولة شهيرة أخرى ، عبرت بوضوح عن مشكلة المسلمين الأوائل مع القرآن . قال : القرآن بين دفتي كتاب ، لا ينطق ، وإنما ينطق به الرجال ، أي تفسيرا وتأويلا حسب ما تمليه ثقافة عصرهم ومصالحهم . ويعرف الأستاذ صالح أن النسخ الذي أشرنا إليه ، لم يكن إلا بسبب تعارض مصالح الذين ينطقون بالقرآن مع ما هو قائم بين دفتي الكتاب .
وكان التحكيم الذي اتخذ القرآن مرجعية . وباستغلاله وقعت الخدعة الكبرى في التاريخ الإسلامي . الخدعة التي أنهت الخلافة ، وأهالت التراب على العهد الراشدي ، وحرمت المسلمين من حق انتخاب خليفتهم ، ومن حق مساءلته . الخدعة التي استبدلت الخلافة بالملك العضوض ، والذي احتفظ من الخلافة الراشدية بعمامة الخليفة . هذه الخدعة التي كان بطلها الصحابي عمرو بن العاص الذي يرفعه الأستاذ صالح وجماعته إلى رتبة المقدس ، ليقول لنا بكل الوضوح ، أن الدين إن كان في خدمة المصلحة فأهلا وسهلا ، وإلا فبكل بساطة نستبدل أحكامه ، ونعلي صوت الزعيق بأننا لن نرضى بغير الشريعة بديلا .
ولم يكن ما سبق كل مشكلة المسلمين مع القرآن والدين . فقد ساعدت خدعة التحكيم على بروز ظاهرة نشوء الأحزاب السياسية ، والتي اعتمدت تأويل آيات قرآنية مبررا لظهورها ، وتفسيرا لبرامجها . ومعروف أن الخوارج هم من دشن هذه المرحلة ، وهم من اعتمد التشدد المفرط تجاه تطبيق الشريعة ، راية لجماعتهم . ومنذ ذلك الزمن البعيد واصلت مشكلة الناس مع القرآن تفريخ الجماعات فالطوائف والمذاهب المتعارضة داخل الطائفة الواحدة .
وفي العصر العباسي الأول برز المعتزلة ، بفكرهم المنفتح ، وبإعلائهم لشأن العقل وتقديمه على النقل ، منهج الأستاذ صالح وجماعته . أوصلهم اعتماد منهج العقل إلى مناقشة القرآن نفسه . وتوصلوا إلى القول بأن القرآن مخلوق ، بديلا للقول بأنه مسطور في اللوح المحفوظ من الأزل ، وسيبقى كذلك إلى الأبد ، ولا تبديل أو تغيير لآياته وأحكامه وشرائعه . ويعرف الشيخ صالح وجماعته أنه لو امتد العمر بالمعتزلة ، لربما هداهم بحثهم لتطوير مقولة خلق القرآن ، والوصول بها إلى ، أو قريبا من ، ما يراه الملحدون ، وهي أن القرآن ما هو إلا نتاج لفكر محمد ، لم يأت به وحي ، لا من السماء ولا من غيرها . وخلاصة القول أنه لو لم يكن للمسلمين مشكلة أو حساسية مع القرآن ، لما كان هناك أي مبرر لوجود هذا الطيف الواسع ، والمتعارض في المواقف والطرح ، من الجماعات الإسلامية ، وفي بلد واحد كمصر .
خاتمة القول :
أثناء كتابة هذه الحلقة ، حدث أن شاهدت مناظرة على فضائية دريم 2 ، برنامج العاشرة مساءا ، كان طرفاهما الأستاذ الشيخ صبحي صالح ، والدكتور خالد منتصر ، طبيب الأمراض الجلدية ، معارض الأستاذ صالح ، وصاحب عمود خارج النص ، جريدة المصري اليوم ، الذي سبقت الإشارة إليه . ومع أن مواضيع المناظرة وقعت خارج موضوعات هذه الحلقة ، إلا أنها – المناظرة وموضوعاتها – زادت قناعتي بصحة ودقة ما ذهبت إليه . في المناظرة تمثل لي الأستاذ صالح في ثوب عمرو بن العاص ، واستغلاله القرآن في تمرير الخدعة ، التي أنهت الخلافة الراشدية ، وأتت المسلمين بالملك العضوض . أبرزت المناظرة الكيفية التي تعتمدها جماعة الإخوان في تطويع الدين لخدمة السياسة . كما أظهرت فعالية ديماغوجية الإخوان في السياسة ، وليس فقط في التهرب من الطروحات غير المقبولة على الناس ، بالإدعاء بأن ما قيل كان مسألة هزار. الأستاذ صالح دافع بحماسة عن الخلافة العثمانية ، معتبرا أن السلاطين ،الذين ملأت الدنيا روائح فسادهم ، كانوا أئمة للإسلام والمسلمين . ليس هذا وحسب بل وأصر على تكفير الشيخ علي عبد الرازق وطه حسين واحمد لطفي السيد وغيرهم لأن زمنهم تلا سقوط الخلافة ، وكان أن قدموا أفكارا حملت الكثير من الجديد ، والكثير من النقد للقديم .
هنا قدم لنا الشيخ صالح إشارة واضحة ، خصوصا وقد لجأ لسلاح الإرهاب الفكري ، عن خشيته وجماعته مما قد تحمله رياح التغيير القادم التي قد تأتي بها الديموقراطية . هو يعرف ، ولذلك يسارع إلى إشهار سلاح الترهيب ، أن حرية التعبير تعني أيضا حرية البحث القائم على حرية الشك . هذا يعني أنه قد يحدث في الشرق الإسلامي ما كان قد سبقه إليه الغرب المسيحي ، أي إنطلاقة في حرية البحث الديني ، وخضوع العقيدة للنقد ، فالموافقة أو المعارضة . الغرب المسيحي فعل هذا ، وما زال ، مع الكتاب المقدس – العهد القديم أو التوراة والأناجيل - . وقالت كثير من الدراسات بمخالفة ما ورد فيها – قصة الخلق وغيرها – للعلم وقوانينه . ونزعت أبحاث علوم الآثار مثلا صفة التأريخ عن أسفار التوراة ، كما شطبت كل ما ورد فيها عن تاريخ إسرائيل وملوكها . كما وقفت طويلا عند الأساطير التي تعبق بها الأسفار وردتها إلى منابعها الأصلية . وربما بسبب ذلك غدا الغرب غير متمسك بالدين . وربما هذا ما يخشاه الشيخ صالح وجماعته ، مما قد يعني انقطاع سبوبة الرزق عند هذه الجماعة .
بالعودة للمناظرة ، وعلى منوال أي سياسي براغماتي ، برر الأستاذ صبحي سقطاته وسقطات جماعته . زعم أن جماعته ، وهو شخصيا ، يتعرضون لحملة تشويه وإقصاء . وزعم أن الخصوم ينتزعون عبارات له من سياقاتها ، ويفسرونها على غير الوجه التي ذهبت إليه ، كما ويحملونها غير ما تحتمل . وأورد أمثلة على ذلك . وكان أن البرنامج عرض شريطا لخطاب الشيخ صالح الذي وردت فيه العبارات المذكورة – موضوع هذه الحلقة والمثبتة سالفا - ، وإذا بها تحمل أكثر بكثير مما ذهب إليه "منتزعوها من سياقاتها ". وذهب صالح ، وهو من أشار إلى أن خصوم الجماعة يأخذون عليها طهارتها، إلى حد الكذب الصريح ، حين إدعى أن البرنامج استدرجه إلى مكيدة ، ونصب له محاكمة . وكان أن مديرة الحوار رفضت مجاملته ، وأثبتت بالدليل القاطع أنه كان على علم كامل بموضوع حلقة المناظرة ، وعلى معرفة تامة بشخص مناظره ، وبموافقته المسبقة على ذلك . كما بين الشريط أنه كذب في تبرير العبارات التي نسبت إليه ، والتي زعم أنها أخرجت من سياقاتها .
زعم الشيخ صالح أنه كان يعرض على مستمعيه تاريخ تطور فكر جماعة الإخوان ، وتطور تنظيمها . لكنه في الشريط كان يلقي خطابا ، ولا يقدم محاضرة . وهو كسياسي لا شك يعرف أن الخطابة آلية لا تستهدف الشرح والإقناع ، ولا تخاطب العقل . هي آلية تقوم على فن استثارة العواطف ، واستفزاز الغرائز ، وتوظف سلسلة من الإيحاءات ، بينها خفض ورفع الصوت ، وحركات الجسد واليد، وتعابير الوجه ...إلخ لإحداث التـأثير المطلوب في النفس المقابلة . ويشهد مشاهد الشريط أن الشيخ صالح برع في كل ذلك وأكثر ، فنال ما نال من التصفيق المتتابع جزاء وفاقا لفن خطابته.
وفيما بعد زاد هذا الشيخ الطين بلة . لم يكتف بالزعم أن البرنامج استدرجه لمحاكمة ، وأن مديرة الحلقة أثبتت بشكل قاطع كذبه في ذلك ، وأن سكوته ، ثم قبوله بتواصل المناظرة ، حمل إقرارا صريحا منه بسقوط زعمه . كان أنه بعد ذلك وفي موقعه على الفيس بوك واليوتيوب – المصري اليوم 2 / 6 - توجه إلى شباب الإخوان يردد الزعم باتهامه بالكذب في تلك المناظرة ، التي أقر فيها ببطلان زعمه . وأكثر من ذلك شبه اتهامه بالكذب باتهام مشركي مكة للنبي بالكذب ، حاضا الشباب على الدفاع عن الإسلام ، بدعوى أن إتهامه إتهام للإسلام . وربما لم يسأل نفسه ، كما لم يسأله أحد من الجماعة : ألم تكن المناظرة ، وهو المحامي القدير ، والخطيب المفوه ، والداعية العظيم ، فرصة نادرة ، ومطلوبة لإظهار تفوق فكره على الفكر العلماني ، خصوصا وأن المناظر مجرد طبيب ، لا يملك القدرات التي يملكها سماحته ؟ وسؤال آخر طرحته مناشدته على الفيس بوك لشباب الإخوان يقول : لماذا هذا الخوف من مناظرة بين جهبذ من جهابذة الإسلام ، وشخص عادي ، يملك عقلا حرا ومنفتحا ، لتوصف بأنها مكيدة ، واستدراج إلى محاكمة ؟ لماذا لم يحولها هذا المحامي اللامع إلى محاكمة للفكر الآخر ؟ هل نفهم أن قوة دعوة الإخوان تتمثل في انغلاقها ، حيث يكشف أي انفتاح ، ولو في مناظرة ، مدى هشاشتها ؟
بقي أن نشير أن السياسي يعرف أن لا عذر له إن حشا كلامه ، محاضراته أو خطاباته ، بعبارات غير مقبولة ، يستهدف تمريرها . هو يعرف أن خصومه قادرون على اخراج عبارات كهذه من المكان الذي حشرت فيه ، وهذا واجبهم لتعريتها وفضح مقاصد أصحابها . لقد اشتهر في عالم السياسة أن يدعي السياسي بأن سقطة ما هي زلة لسان . والشيخ صالح لا بد يعرف أن أحدا في بلد ديموقراطي لا يسامح على زلات اللسان . الديموقراطية تجبر المسئول على الخروج والإعتذار عن زلة اللسان والتعهد بضبط اللسان . والمسئول الذي تكثر زلاته يفقد ثقة جمهوره ولا تنفعه الإدعاءات بأن الخصوم يتربصون له ، ويتصيدون سقطاته ، أو يخرجون عباراته عن سياقاتها . ولعلنا نذكر بأن هذه واحدة من أكثر ما يخشاه أولئك الذين يرفضون الديموقراطية .
ونختم هذه الحلقة بالتالي . جاء القرآن ، قبل أربعة عشر ونصف تقريبا ، على مجتمع جمع بين مقدمات التحضر ، والتقاليد العريقة للبادية . اتصف ذلك المجتمع المتبدي بجلافة الطبع ، قساوة الصفات ، والخشونة في المعاملات والعلاقات . وكان أن الدعوة الجديدة حققت نجاحا غير مسبوق في تهذيب نفوس أهل ذلك المجتمع المتبدي . استبدلت الجلافة بالسماحة ، والخشونة باللين ، والقساوة بالمرونة ، وضيق الأفق باتساعه ، والإنغلاق بالإنفتاح . ومن شاهد مظاهرات جماعات الإسلام السياسي أمام الكنائس ، وما أعقبها ، يتوجب عليه أن يكرر طرح السؤال مرة بعد أخرى : ما الذي يفعله الدعاة حتى يتحول الناس ، في القرن الحادي والعشرين ، من أناس سليلي حضارة متجذرة ، موغلة في القدم ، حضارة عمرها سبعة آلاف عام ، إلى أناس لا نظير لهم إلا قطعان البقر الوحشي في الغابات الإفريقية ؟ وعليه أن يطرح السؤال : ترى لو قدر للرسول أن يخرج من قبره ، ليرى ما فعلته هذه الجماعات بدينه وأمته ، فما الذي نتوقع منه فعله ؟ جواب مفترض سيقول : سيبحث عن هجرة جديدة ، عن قبيلتين من أوس وخزرج جديدتين ، ليبدأ الدعوة من جديد ، في مواجهة ملأ من دعاة الجماعات ، أعتى بكثير من ملأ قريش ، وأكثر كفرا ونفاقا من الأعاريب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نور وبانين ستارز.. أسئلة الجمهور المحرجة وأجوبة جريئة وصدمة


.. ما العقبات التي تقف في طريق الطائرات المروحية في ظل الظروف ا




.. شخصيات رفيعة كانت على متن مروحية الرئيس الإيراني


.. كتائب القسام تستهدف دبابتين إسرائيليتين بقذائف -الياسين 105-




.. جوامع إيران تصدح بالدعاء للرئيس الإيراني والوفد المرافق له