الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من وقائع الثورة في ليبيا # 5

حامد حمودي عباس

2011 / 6 / 5
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


في ساعة مبكرة من صباح يوم السبت ، الموافق 7 / 5 / 2011 ، توقفت أمام شقتي سيارة تم الاتفاق مع صاحبها لتقلني واسرتي الى الحدود الليبية مع تونس مقابل أجر .. ولم يكن بمقدوري حساب مجمل الاحتمالات التي قد تحدث لي عبر طريق سيمر حتما بمدن ساخنة كالزاويه وزواره وغيرهما من مدن الجبل الغربي .. وقد كان برفقتي اثنان من الليبيين احدهما سائق المركبه والاخر عسكري بملابس مدنية ، وكلاهما كان في فترة ما جارا لي قبل انتقالي الى شقتي الحاليه .. فالسائق لم يكن واثق من قدرته على السفر بدون دليل يستطيع معاونته في المناورة اثناء السفر لتجنب مواقع الخطر .. طرابلس بدت لي وأنا أودعها وكأنها لا تريد لي الرحيل .. إنها المدينة التي قضيت فيها ومعها سنين طوال ، ولا يمكن لمدع بالوفاء أن ينسى ذكرياته مع ثنايا تلك العروس الوديعة على شواطيء البحر ، وهي تحتضن الالاف من العمال والمهندسين والاطباء وسواهم من العرب وغيرهم من الملل الاخرى ، دون أن يحدث لواحد منهم ان تعرض لحساب قانوني يتعلق بشروط الاقامه .. فالاجنبي ، وهذه قولة حق ، قلما يصادف في عرض الشارع من يستفسر عن هويته وبذات الطريقة التي تحدث حتى في بلاده .. ولا يمكنني هنا أن أتنكر لكوني وفي حالات عده ، لم أكن أحمل جواز سفر نافذ الصلاحية بحكم عدم وجود سفارة عراقية في طرابلس ، غير أنني كنت امارس عملي وحياتي اليومية بلا مضايقات .. كنت وأنا أنظر الى الشوارع المليئة بملامح اللاانتظام بفعل التناحر على محطات توزيع الوقود ، والتزاحم قرب المخابز ، والحركة المتشنجة للبشر وجلهم يفتخر بإشهار سلاحه ، أحسب في دواخلي بأن هذه المدينة الحبلى بالمفاجئات ، من المحتمل أن تنهار في أية لحظه .. حينها سيقذف قمقم الحصار الاجتماعي وليس الاقتصادي حممه في الشوارع والازقة والبيوت ، فيدمر كل شيء .. حصار حجب الشعب الليبي عن التمتع بأية نفحة فرح مطلق تحت ستار الدين تارة ، وبحجة التشبه بالغرب الصليبي تارة اخرى ، والابتعاد عن تعاليم الكتاب الاخضر تارة ثالثه .. ومن هنا جاءت الانفعالات الحادة لدى الناس .. لقد شاهدت العديد من صور الاعتداء على المارة وعلى السيارات في شوارع طرابلس تقوم بها مجاميع من الصبية المراهقين ، كتعبير عن الفرح بفوز احد فرق كرة القدم على فريق آخر .. إنه الانفعال المزمن ، والتشنج المزمن ، وتقلص المشاعر الى اعماق النفس ، فما إن تجد لها متسع لأن تفيض ، حتى تنطلق لتدمر ، وتحرق ، وتصهر كل شيء .
لقد قرأت ذات مرة ، تحقيقا صحفيا نشرته احدى الصحف الليبيه ، موضوعه هو البحث عن حقيقة تلك ( التكشيرة ) الدائمة للفرد الليبي ، بحيث اصبح الامر واقع حال لا يمكن انكاره .. غير ان التحقيق لم يبحث عن الاسباب واكتفى بالتشخيص فقط .. ولا انسى تلك الشهور الاولى لوصولي الى الجماهيرية العظمى ، حيث كنت مذهولا لمنظر الوجوه المكفهرة ، والتي تحمل عبوسا هو اقرب لعكس الملامح الجافة وغير المستبشره .. حتى اعتدت مع الوقت على التعايش مع الطبيعة البشرية الجديده ، الى الحد الذي دعاني في بعض الاحيان ، ان اتطلع في وجهي من خلال المرآة بهدف التثبت من عدم انتقال الحالة لي بحكم طول مدة الاختلاط .
إنه الحصار .. الحصار القاتل .. الحصار الاجتماعي المهول ، والذي لم تنفع معه جميع السيارات الحديثة ، ولا المزارع الممنوحة من الدوله ، ولا العمارات السكنية ، ولا السلف الميسرة ، ولم تخفي آثاره كل المكتسبات الاقتصادية المتعلقة بتطوير البنى التحتية للبلاد .. فمادام الفرح بجميع صنوفه محرم حسب فلسفة القابع خلف اسوار باب العزيزية ، فان المواطن الليبي ليس له الا ان يشهر الوجه العبوس ، وينثر من حوله آيات عدم الاستبشار بالخير .
إبتعدت السيارة بنا عن حدود العاصمة طرابلس .. وكلما توغلنا في العمق باتجاه راس جدير ، كلما ازدادت مخاوفنا من التعرض لمأزق قد يعرضنا للموت .. على مشارف مدينة الزاويه ، تجمع عدد من الدبابات العسكرية ، وثمة حاملات مدرعة للجنود تنتشر بكثافة واضحة عند اول اشارة ضوئية مررنا بها .. وبشكل مفاجيء إستدار السائق بنا ليغير من مساره بالاتجاه المعاكس ، ضننت بأن حركة ما قد حدثت جلبت انتباهه فعمد لهذا التصرف .. وفهمت بعدئذ بأنه عدل عن رأيه باجتياز المدينة من الداخل ، فقرر استخدام طرق خارجية اخرى مبتعدا عن مواقع حدوث اي احتكاك عسكري محتمل ..
مرت لحد الان ثلاث نقاط تفتيش ، لم تقم بأي إجراء عدا الاستفسار عن هوياتنا .. وحين يعلمون باننا من العراقيين ، كنا نسمع منهم كلمات عتب على مغادرتنا ليبيا في هذا الوقت بالذات .. أحدهم هتف باسم مدينة الفلوجه وهو يشير لنا بالمرور .. وفي نقاط اخرى استفسروا مني إن كنت احمل تلفونا نقالا أو جهاز كمبيوتر محمول .. فأجبت بالنفي مع انني أحمل معي الاثنين معا .. في مدينة زواره ، كنا مضطرين لاجتياز المدينة ، ووجدتني تواقا لتسجيل صورة لأوسع مساحة منها في ذهني كي أرى آثار ما جرى فيها من قتال قبل أيام .. جميع الجدران التي مررت بها وعلى جانبي الطريق كانت مثقبة بفعل الرصاص ، واغلب الواجهات الزجاجية للمحلات العامة قد طالها التهشيم ضمن مواجهات تبدو بانها حاده .. إنها مدينة ألأمازيغ من غير العرب وتعتبر العاصمة لهم في الغرب الليبي .. ولا أعلم مدى صحة الفكرة المنتشرة بين العرب المنتمين للشريط الساحلي الممتد على شواطيء البحر ، والتي تقول بأن الأمازيغ لا تربطهم علاقة الود بالعرب الليبيين ، وأنهم يحجمون عن تزويج بناتهم لهم ، مع ان هذه العادة قد تقلصت في الزمن الحاضر بفعل عوامل الاختلاط القسري بين الشعبين .
لم يتبقى لنا غير القليل كي نبلغ الحدود كما اشار السائق ومرافقه .. فنقطة التفتيش التي اصبحنا ننتظر دورنا لبلوغها هي ما قبل الاخيره ، وقد لاحظت بأنها اكثر من سواها من حيث التواجد العسكري .. توقف جانبا ودع الركاب ينزلون من السياره .. قالها العسكري ووجهه قد غادرته جميع ملامح الود .. من الممكن ان تبقى النساء في الداخل .. قالها آخر وهو يتحرك خلفنا بطريقة استعراضية تنم عن خوف لاحتمال حدوث شيء ما في أية لحظه .
سارعت بتوجيه ابني بانزال الحقائب وفتحها فورا وبطريقة توحي للمفتش باننا لا نحمل ما لا ترغب به الحكومه .. وبالفعل كان العسكري يشير باغلاق الحقيبة بمجرد قيامنا بفتحها دون ان يمسها بالمباشر .. معنا خبز.. وبكميات كافية لو رغبت بان نعطيك شيئا منه .. قلتها وقد شعرت بعدها بسخف ما فعلت ، فكان الرد هو أن رمقني باحتقار وهو يأمرني بالركوب ومواصلة السفر .
هذه على ما يبدو هي النقطة العسكرية الاخيرة قبل المعبر الحدودي ، حيث لم يطل توقفنا عندها بمجرد ان علم العسكر فيها باننا من العراقيين ، وفي حوار سريع بيني وبين أحدهم جرى الاتي :
- كيف لكم ان تغادروننا في أوقات الشده ؟ .. هل بدر منا ما يدعوكم لذلك ؟ .
- لا يوجد اي مبرر لهذه المغادرة عدا عن كوني صاحب اسره ، ومن المؤمل ان اعود بمجرد تأمين وضعها وتيسير حالها .
- العراقيون هم شركاؤنا في محاربة الامريكان ال ( .... ) .. فلماذا تهربون ؟ .
- سنعود .. سنعود وبأقرب وقت .

تحركت السيارة على عجل بمجرد أن صمت الرجل .. فمزاجية المجموعة قد تتغير فورا لو تدخل فرد اخر منها وغير مجرى الحوار الى وجهة اكثر عدوانيه .. وحين لاحت لي أولى عوارض المركز الحدودي الليبي وبشكل مفاجيء ، أيقنت بأنني قد اقتربت من تجاوز نهاية فصل مهم من حياتي ، وأمام بداية فصل اخر جديد ، لا أعرف بالضبط كيف سيكون ، وأين سيحل بي الترحال القادم .

يتبع
ليبيـــــــــــا
16 / 5 / 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حبست أنفاسى حتى تمروا
فاتن واصل ( 2011 / 6 / 5 - 22:51 )
يسألوكم لماذا تهربون ؟ ولماذا يريدون توريط آخرين ليس لهم أى ذنب فيما يحدث من جنون .. أكاد أشك ان هؤلاء الليبيين كلهم مجانين كقائدهم القبيح.. سأظل احبس انفاسى رعبا حتى تصل بنا كلماتك الى مستقر آمن .. قلبى على الأسرة والرعب الذى يمكن أن يكونوا قد عايشوه طوال طريق الخروج من هذا الجحيم.. هذا أستاذ حامد الذى تصفه هو ما نطلق عليه اسم -الأهوال - ..قلوبنا معك


2 - عزيزي الأستاذ حامد حمودي عباس
ليندا كبرييل ( 2011 / 6 / 5 - 23:44 )
أما عن الصبية المبسوطين على حالهم بفوز فريق كرة على آخر فهذه موجودة في كل البلاد العربية ، يلهوننا بها ليصرفونا عن ملاحظة ما يحيكونه وراء الكواليس ، وأما عن التكشيرة المرسومة على الوجوه ، فهل تريد أكثر من الشعب المصري خفة روح ودم ؟ ومع ذلك .. ماذا حل بجمال روحه وأين ذهبت الابتسامة .. كل العرب يا أخ حامد تعلو وجهه التكشيرة ، ويعيشون في دواخلهم تناقضاً عجيباً ، العرب أينما ذهبت محاصرون اجتماعياً ونفسياً ، في ليبيا يهربون ، في سوريا يهربون ، في اليمن يهربون ، كلنا نهرب من واقعنا ومآسينا . كيف خرجت من ليبيا ؟ حتماً عانيت كثيراً . أنتظر حلقتك الجديدة وشكراً


3 - قيمة الدولة من قيمة الفرد
الحكيم البابلي ( 2011 / 6 / 6 - 05:54 )
الصديق العزيز حامد
الذي إستقطب إهتمامي في حلقة اليوم هو المقطع القائل : ( تحركت سيارتنا على عجل بمجرد ان صمت الرجل - العسكري - فمزاجية المجموعة قد تتغير فورأً لو تدخل شخص آخر منها وغير مجرى الحوار إلى وجهة اخرى أكثر عدوانية .. الخ ) . إنتهى
مخيفٌ هذا المقطع وما يحمل في طياتهِ من زخم لحقيقة ونفسية ونوعية العسكر العربي المرابط على نقاط التفتيش ، وإستعدادهم لقلب الموقف - مع كائن من كان - لمجزرة حقيقية بلحظات ولأتفه ألأسباب ، فرجل الأمن الذي يحقق معنا فاقد لقيمتهِ أساساً !! فكيف نتوقع منه ان يُحافظ على قيمتنا ؟
في الدول العربية لا شيئ مضمون مع القوات الحكومية ، فالمزاجية هي سيدة الموقف ، ويحق لأغبى شرطي إتهام ألأبرياء بالخيانة العظمى مع تنفيذ العقوبة فورأً !! وكما يقول المثل المصري : يا ما في الحبس مظاليم ، ولو نالنا الحبس .. وهو أضعف الإيمان لمن تخلى عنه حظه ، فهنا سينطبق علينا المثل العراقي : إلى أن تثبت نفسك حصيني ... يروح جلدك للدباغ
برأيي ... هناك اسباب عديدة ومختلفة لهجرة ألإنسان العربي للغرب ، ولكن اولها هو شعوره بأن لا قيمة له في وطنه ، وهذا كان سبب هجرتي
تحياتي


4 - وطن بديل يا محسنين
محمد حسين يونس ( 2011 / 6 / 6 - 16:36 )
لقد ضاقت بنا بلادنا هت يوجد محسن ينعم علينا بوطن نصف اوروبي

اخر الافلام

.. جهود مصرية لتحقيق الهدنة ووقف التصعيد في رفح الفلسطينية | #م


.. فصائل فلسطينية تؤكد رفضها لفرض أي وصاية على معبر رفح




.. دمار واسع في أغلب مدن غزة بعد 7 أشهر من الحرب


.. مخصصة لغوث أهالي غزة.. إبحار سفينة تركية قطرية من ميناء مرسي




.. الجيش الإسرائيلي يستهدف الطوابق العلوية للمباني السكنية بمدي