الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورات الشعبية العربية -- تغيير واضح في الأولويات

منعم زيدان صويص

2011 / 6 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


لا شك أن الانتفاضات الشعبية العربية الحالية تعكس تغيراً هائلاً في تفكير الأجيال الجديدة من الشعوب العربية، فالأفكار والمعتقدات السياسية التي سيطرت على عقول العرب منذ العرب العالمية الأولى واستمرت طوال القرن الماضي بدأت تتغير، وبدأت الشعوب تتحرر من واحدة من أهم المعتقدات التي كانت سائدة حتى وقت قريب، وأعني بذلك لوم الآخرين على تأخرها وعلى ما يحل بالعرب من مصائب، وتنمية الشعور بالكراهية العمياء للشعوب الأخرى، وخاصة الشعوب الغربية. والحقيقة أن معظم هذه الكراهية كان مبني على عدم الرضا عن النفس، وهو شعور داخلي مستتر في العقل الباطن سببه الهوة السحيقة، من حيث التطور، بين الشعوب العربية والشعوب الغربية. ومما فاقم عدم الرضا عن النفس هو اقتناع، وربما إيمان، الشعوب العربية أنها خير الأمم وأن حضارتها الغابرة كانت الأعظم في التاريخ -- وهذا ما تعلمناه في المدارس وعلى أيدي الشيوخ ولذلك نحن لا نحتمل أن لا نكون الأعظم. وبالنظر إلى وضع العرب الضعيف والمأساوي تحول عدم الرضا هذا إلى يأس ومن ثم إلى كره شديد لغير العرب خصوصا إذا كانوا متفوقين عليهم، وشعورهم الداخلي العميق يقول: إنه من غير العدل أن يتفوق هؤلاء علينا لأننا خير أمة. إننا أمة مقدسة. وفي كثير من الأحيان كان عدم الرضا المستتر هذا يظهر نفسه على شكل احتقار الآخرين والتهكم عليهم، فكان الفلسطينيون والعرب في بدايات القضية الفلسطينية يسمون اليهود "شذاذ الآفاق،" وكثير من العرب الآن يسمون الإسرائيليين صهاينة أو صهيونيين، ظنا منهم أن هذا التعبير تحقيري مع أن اليهود المتعصبين لإسرائيل يفتخرون بهذا الاسم. وأصبحنا نسمع أيضا التعبير "متصهين" لوصف المؤيد للصهيونية. فنحن شعوب تكتفي بالسباب وتعتبره سلاحا. وكما قال العربي القديم: أوسعتهم شتما ولاذوا بالإبل.

وكان بروز الحركات الدينية في النصف الأول من القرن العشرين أحد مظاهر هذا اليأس الذي تحول إلى كره الغير والذي تعمق عندما بدأ النزاع بين اليهود والفلسطينيين بعد الحرب العالمية الأولى بالظهور وبعد الاحتلال البريطاني لفلسطين وبعد أن حكمت الدول الاستعمارية الغربية معظم البلاد العربية بعد الحكم العثماني. والحقيقة أن عدم الرضا ظهر في البداية بين المثقفين العرب، وكثير منهم درسوا في جامعات غربية أو في جامعات أسسها الغربيون في المنطقة العربية مثل الجامعة الأمريكية في بيروت، التي خرّجت الكثيرين من الذين انضموا لاحقا للقوميين العرب وحركة الإخوان المسلمين والشيوعيين. وفي النهاية تحول عدم الرضا هذا لدى الكثيرين إلى الإيمان بالفرضية القائلة بأن السبب وراء تأخر العرب والمسلمين هو "ابتعادهم عن الدين" وأنهم لو رجعوأ إلى الدين لاستردوا قوتهم وعنفوانهم. واستمر هذا الاعتقاد عقودا من الزمن حتى بدأ يضعف في السنوات الأخيرة.

حتى عهد قريب، كانت الأولوية للشعوب العربية هي للسياسة الخارجية والأمور المتعلقة بها مثل القضية الفلسطينية ومواقف العالم من حقوق الشعب الفلسطيني ولم تكن الأولوية للحرية والديمقراطية والتقدم العلمي والاجتماعي، وكان الباروميتر الذي يقيس شعبية ونجاح أي زعيم عربي هو موقفه من فلسطين وإسرائيل، ولذلك تبارى السياسيون العرب في الإدعاء يتبنى قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه، وبالتظاهر بمصادقة الدول والشعوب التي تؤيد هذه الحقوق ومعاداة الدول والشعوب التي تتعاطف مع أو تؤيد إسرائيل، وعلى هذا الأساس تعمق الكره والعداء للغرب -- الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. وبقي هذا المقياس سائدا حتى بداية الثورات العربية الحديثة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

مع بداية الثورات الشعبية في تونس ومصر اكتشف المراقبون أن السياسة الخارجية ومواقف الدول الأجنبية لم تعد أولوية للشعوب، وأصبحت الأولويات للحرية والديمقراطية ورفع الظلم الذي تمارسه الطبقات الحاكمة على شعوبها وإنها فساد الحكام والحكومات. وهذا لا يعني أن الشعوب نسيت القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، فمعظم هذه الشعوب لا تزال تعتبرها مقدسة، ولكن هذه الشعوب بدأت تنظر إلى هذه المسألة من زاوية أخرى أساسها انه بدون أن تكون الشعوب حرة كريمة وبدون أن يعم العدل والديمقراطية لن تستطيع الدول العربية أن تقف في وجه إسرائيل أو غيرها. فالشعب السوري لا يأبه الآن بإدعاءات النظام السوري بأنه يقاوم إسرائيل وأنه قلعه في مواجهتها وفي مقاومة من يؤيدوها لأن هذا الشعب يعرف أن نظامه لم يفعل شيئا في هذا الاتجاه. أما تصريحات حسن نصر الله واحمدي نجاد بإزالة إسرائيل من الخارطة فقد بدأ بريقها يخبو، ولذلك فهما يكررانها بين الحين والآخر ليذكروا الشعوب العربية بها ويستعيدوا ما خسروه من شعبية ولكن دون جدوى. أما إسرائيل فقد بدأت من الآن تحسب ألف حساب للشعوب العربية المتحررة.

والآن لنعد إلى الانتفاضات الشعبية العربية الحالية والتي خلقت تغييرا هائلا في تفكير الشعوب العربية، ونسأل: هل انعكس هذا التغيير على الإعلام العربي وعلى تفكير الغالبية العظمى من الكتاب والمثقفين العرب؟ وهنا أسميهم مثقفين مجازا ؟ صحيح أن معظمهم يؤيدون هذه الثورات الشعبية ويرفعون أعلام الحرية والديمقراطية، إلا أن الكثيرين منهم -- وخاصة أولئك المتشبعين بالإيديولوجيات القومية العربية التي نشأت في أواسط القرن العشرين وبالأفكار السلفية -- أُخذوا بهذه الانتفاضات على حين غرة كما يقال. فهم للآن لم يتخذوا موقفا واضحا من هذه الثورات. فمواقفهم متناقضة. فهم يظهرون كالمصابين بانفصام في الشخصية. فمن ناحية هم لا يؤيدون إزالة الأنظمة التي تسمي نفسها دول ممانعة وينظرون بتوجس للدول الغربية التي تدعوا إلى وتشجع الحرية والديمقراطية في العالم ويشككون في أهدافها قائلين أنها دول استعمارية همها أن تستولي على "النفط العربي" -- وهي نفس الإدعاءات التي سادت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، قبل أن تحصل معظم دول العالم الثالث على استقلالها -- ومن الناحية الثانية يخجلون من البقاء على الحياد ويخافون أن تتركهم الشعوب على قارعة الطريق بدون رحمة وتظل ماشيه في طريق التقدم والنهضة ويذهب القطار بعيدا عنهم ويتركهم وراءه.

وهنا أريد أن أستشهد بمقال لأحد هؤلاء الكتاب، وهو ذو إنتاج غزير وخبرة طويلة، كنموذج على هذا الانفصام في الشخصية . ولن أذكر أسمه لأن هذا ليس مهما فهناك المئات بل الآلاف من أمثاله، ولأن باستطاعة أي شخص في هذا الزمان -- زمان الإنترنت وثورة الاتصالات -- أن يكتشفه.

يقول هذا الكاتب معلقا عل الثورة الليبية الحالية، والتي يؤيدها طبعا لأنه لا يستطيع أن يفعل غير ذلك، أن بنغازي "ستستقبل" قريباً جداً "نيكولاي ساركوزي وديفيد كاميرون، بكل ارثهما الاستعماري الإمبراطوري القبيح، عندما أفل نجما الإمبراطوريتين وانكمشتا إلى أن غدتا تابعتين ذليلتين للولايات المتحدة الأميركية، بل جاء نيكولا ساركوزي (دع عنك كاميرون وقبله غوردون براون وخصوصاً توني بلير) ليلغي (حدود الاعتذار) ما كان حاوله الجنرال ديغول، عندما رفض أن يكون مجرد «جُرْم» في الفلك الأميركي، فانسحب من حلف شمال الأطلسي في بروتوكوله العسكري، الذي رأى أن واشنطن أرادت أن تسخّره في خدمة مصالحها الإستراتيجية الضيقة وتكرّسه مخلب قط في مواجهة الاتحاد السوفيتي."

وأنا أعتذر قبل كل شىء من القارئ إذا ضاق ذرعا ببعض هذه العبارات الملتوية ولكن هذه هي طريقة الكاتب في التعبير. من يصدق أن هذا الكاتب يعيش في القرن الحادي والعشرين؟ إن هذا الكاتب يختزل أمما ودولا كاملة في شخصيات رؤسائها -- وهذا يدل انه يؤمن بالدكتاتوريات -- ولا يعير اعتبارا لمصالح الشعوب أو لعظمة الأمم، بل يعتبر فقط لكرامة الزعماء، وينظر باستهزاء شديد إلى أمم استطاعت أن تبقى قوى عظمى لعدة قرون، بغض النظر عن تحالفاتها عبر العصور، فمن يقرأ عبارات الاستهزاء هذه يظن أن الدولة، أو الدول، الفقيرة والمتأخرة التي ينتمي لها الكاتب هي أعظم من فرنسا وبريطانيا لأنهما "تابعتين ذليلتين للولايات المتحدة الأميركية."

ويصف الكاتب نيكولا ساركوزي مستهزءا بأنه "نصير" الربيع العربي " و عراب الثورة الليبية وأول من اعترف بالمجلس الوطني واستقبل مصطفى عبد الجليل في قصر الاليزيه.. وهو الذي قاد عملية استصدار قرار مجلس الأمن رقم 1973 بعد أن وفّر له عمرو موسى مظلة عربية، بدت للحظة ما «مطلوبة» شكلياً، لضمان دعم أوسع، ثم ما لبث هو وكاميرون وبيرلسكوني وخصوصاً اوباما، أن أداروا ظهورهم لكل صوت عربي وواصلوا تنفيذ خططهم التي تفوح منها رائحة النفط الليبي ولا شيء غيره، وان كان العنوان الذي ما زالوا يديرون حملتهم وفقه هو «حماية المدنيين الليبيين،» الذين هم في واقع الحال وقود هذه الحرب التي لا تلوح في الأفق نهاية لها."

إن "الإنفصام" في التفكير واضح. فالكاتب يود أن ينجح الثوار الليبيون في الانتصار على القذافي والإطاحة بحكمه ولكنه يصف ساركوزي -- هذا "التابع الذليل للولايات المتحدة الأميركية" -- بأنه "عرّاب" الثورة الليبية، ويمضي ليقول إن ساركوزي مع "كاميرون وبيرلسكوني وخصوصاً اوباما" أداروا ظهورهم لكل صوت عربي وواصلوا تنفيذ خططهم التي تفوح منها رائحة النفط الليبي ولا شيء غيره ." ولا أدري ماذا يعني الكاتب ب "كل صوت عربي" فمعظم العرب -- أنظمة وشعوبا -- أيدت وتؤيد تدخل حلف شمال الأطلسي وتخليص الشعب الليبي من الهلاك. ولو لم تتدخل اوروبا لكان قضى القذافي على المتظاهرين وقتل الآلاف منهم، ولم تتبرع أية دولة عربية بمساعدة الثوار لإنهاء حكم القذافي الذي يقف الكاتب ضده. أما الطريقة التي يتحدث بها الكاتب وكثير من الكتاب العرب عن النفط العربي فهي تدخل ضمن نظرية المؤامرة وهي الطريقة التى لم تتغير منذ ستين سنة وأكثر، فالغرب في رأيهم يريد أن "يسرق" نفط العرب، وأمثال هذا الكاتب كانوا دائما يطالبون دول النفط العربية بعدم بيع النفط، خاصة للغرب، رغم الدرس الذي تعلموه -- أو بالأحرى الذي لم يتعلموه -- من تجربة 1973 التي أضرت بالعرب أكثر بكثير مما أضرت بالغرب ورفعت أسعار مستورداتهم من الغرب أضعاف الزيادة التي طرأت على أسعار النفط بعد ذلك. لا يستطيع العرب أن يتغلبوا على التخطيط الاقتصادي الغربي لأنهم متأخرون في كل شيء. إن العرب لا يستطيعون أن يعيشوا بدون تصدير النفط شهرا واحدا، والغرب كذلك لا يستطيع أن يعيش بدون نفط، فالحاجة متبادلة وكلا الطرفين يعتمد على الآخر، وما على الدول العربية المصدرة للنفط إلا أن ترفع أسعار نفطها إذا أرادت، لأنها لا تستطيع إيقاف الإنتاج.

ويضيف الكاتب: "نحن اذاً أمام حملة استعمارية عارية، والقصف المتواصل لطرابلس الذي تعدى مسألة إضعاف أو استنزاف أو تحييد القوة العسكرية للعقيد وكتائبه المنهكة، إضافة إلى البنى التحتية الليبية، تفرض المزيد من الأسئلة حول ما إذا كان يراد من ذلك تدمير العاصمة الليبية وما تبقى من مدن وبلدات تحت سيطرة نظام القذافي الايل للسقوط،." إذن الكاتب ينبه، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إلى " حملة استعمارية عارية،" ويتفق في ذلك مع العقيد الليبي الذي ما انفك يدّعي بأن "المستعمرين يريدون أن يرجعوا لحكم ليبيا." ولكن هذا الكاتب، ككل أمثاله من الكتاب العرب، لم يقترح أو يلمح إلى أي حلول عربية ممكنة للأزمة الليبية.

ويتحدث الكاتب بشىء من الشك والإستهزاء عن "توالي الاعترافات بالمجلس الوطني الانتقالي كممثل شرعي للشعب الليبي،" وعن غياب أي "خطوة سياسية" يمكن إن تلي «اسقاط» القذافي ويتساءل عن "الصيّغ او السيناريوهات التالية لمرحلة الاستسلام، وعن "الصورة التي ستكون عليها ليبيا الجديدة." ولكنه لم ينبس ببنت شفة عن أي مواقف للدول العربيه أو الجامعة العربية من الأزمة.

ويختتم الكاتب مقاله بالقول: " إن من الحكمة عدم إبداء الحماسة لما يجري الآن، ليس فقط للالتباس والغموض الشديدين اللذين يفرضان نفسيهما على المشهد الليبي، وإنما أيضا لكل هذه الحماسة الغربية «لدعم» الثورة الليبية إلى درجة تدفع ساركوزي وكاميرون للهبوط في بنغازي كي يُستقبلا استقبال الفاتحين (...) وتُرفع أعلام بلديهما الى جانب علم الاستقلال الليبي." إذن، الكاتب يخلص الى القول إن الوضع شديد الغموض والالتباس وينصح بعدم التحمس لما يجري، ومعنى هذا أنه يقترح أن كل ما يستطيع العرب المخلصون أن يفعلوه الآن هو إما أن يتحمسوا لما يجري أو أن يظلوا مراقبين هادئين للأحداث الليبية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تفض بالقوة اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة


.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: مسودة الاتفاق بين حماس وإسرائيل




.. جيروزاليم بوست: صحفيون إسرائيليون قرروا فضح نتنياهو ولعبته ا


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. فلسطيني يعيد بناء منزله المدمر في خان يونس