الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ساعات ساخنة في اوراق مسافر / 1

محمد نوري قادر

2011 / 6 / 7
الادب والفن



كل شيء نراه له شكله وما يبدو عليه , مثلما لكل مركب شراع , له ألوانه, وحلمه واتجاهه وما يحمله من متاع , لا خوف من الصعود إليه ,أو تتبع خطاه , ولا خوف أيضا من التقرب منه , وتفحص ما يملكه من قدرة للخروج من هذا المأزق الخانق , حيث لا وجود للدهشة عندما يصبح الطقس غائم , ولا وجود ايضا للطلاسم , وما يعكر الماء إذا أعلن الصباح وصدحت البلابل . أشياء عدة تجعلنا حيث نكون وتجمعنا معنا بنفس الوقت , لا وقت لدينا نضيعه في تفاهات ليس لها طائل ,وليس فيها ما يروي ظمأ الألفة , صقيع المودة لا يحتاج إلا دفء يذوبه , ومزمار يتلو أناشيد الفرح , عندها سينزل المطر , ذلك ما نوّد وما يجعل الطير يمرح , لقد تخلفنا مسافات طويلة عن منبع النهر في معظم الفصول , رواسبه طمرت مساحات شاسعة من حقول ممتدة على طول طريقنا الوعر , زادت من أوجاع المفاصل , عكرت الافتنان برنين النغم للعاشق , كنت أشدو ولكن كسنبلة ارتجف من شدة الهلع عند عودتي , ريح شديدة العواصف تهز أحلامي هزّا , تساقط فيها الأمل والمتعة, كما تتساقط أوراق الشجرة عندما يزفر الفأس بيد الحطاب , تمالكت نفسي أول الأمر, خطواتي كلها متعثرة ,أو بالأحرى متثاقلة , لا أدري , ربما لا تقوى على حمل جسدي النحيل هذا , توقفت مرات وأنا انظر بدهشة ولا اصدق ما أرى ,أدمدم بكلمات مبهمة , ربما أخطأت في العودة , في أمور كنت اجهلها ولم احسب لها , متناسيا أساليب العاهرة عندما تهوى وما فعلت مرات ومرات , لكننا للأسف لم نتعظ لما أصاب الجميع منها وما أصابنا قبل سنين عدة , شعرت إني كأبله فقد رشده , لا يمكن للمرء أن يصمت وهو يرى ما لا يطيقه , ولا يمكن أن يعيش كما تعيش البهائم . توالت بمخيلتي رؤى وأشياء مفزعة لا طاقة على تحملها جعلتني ازفر من الألم , من الوجع الذي مزق كبدي ,ما كان يختبئ بظلاله ويسكن جوفي ,إلى متى نبقى هكذا نتلوى ؟ إلى متى نبقى لا نكف عن الثرثرة ؟ الوعيد الأجوف أنهكنا وأنهك كل قوانا , وعيد وتهديد لا طائل له ,ليس له ما يبرره , إلى متى يبقى هؤلاء الذين يحيطون حولنا لا يدركون ما نحب ونعشق ؟ لنا الحق أن نعيش كما يجب , ألا يكفي هذا الخصام الأزلي الممتد منذ نشوء الكون حتى أيامنا هذه من اجل الصلاح والتقوى ؟ هل حقا من ينادون بالتقوى ,هم ينادون بالتقوى ؟ أم هي مظلة يحتمون تحت ظلالها لا أكثر , لا يوجد في قواميسهم ما يدعوا إلى ذلك , لم نلمسه في كل الأزمنة , إني أرى القبح قد طفح أعلى من السطح وأصبح يلامس إقدامنا , القبح لطخ ثيابنا وجعل رائحتها كريهة ,ونحن على امتدادها متخبطون فيها بلا جدوى , جعل الأشجار عارية من البهجة , منبثق منها ما يزكم الأنف ويسبب الصداع . يطربها فقط نهيق الحمير, نهيقها الذي مزق السكينة , إنهم يفعلون ما يحلو لهم بأسم التقوى حتى ملئوا الحقل ضجيج مفتعل ولم يكتفوا .
ترنحت خطواتي كأنني ثمل , المشاهد والأسئلة مرايا صاعقة تنطق ما حملته العاصفة , ما فعله هذا الجنون اللامجدي الذي يرثى له حقا ,خراب لم يكن معلن , تلك هي الحقيقة , ولم يكن ما يحلم به الإنسان وما يداوي جرحه, انبثق من الأوجاع والألم , جوف المرء مغمورا به حين لا يجد ملاذا آخر,سببه الحنق والغضب , هكذا هو نار مخبئة تحت ارض طمرتها الرمال والأوحال لها أسماء شتى , يخطأ التقدير في إطفائها من لا يرى ما يراه غيره , تحرق فصوله ,تجعل كل أيامه رماد لذلك لم يعد بمقدرة المرء أن يقشع العاهة ,فقط ما يستطيع ان يوهم نفسه ,لا يستطيع أن يقشع هذا الوحل كله . كيف للنهر أن يجرف الوحل بهذا الإيقاع وقد غمر الواحة ,وأطربت أغانيه من ظل الطريق ووجد ضالته فيها , في نفوس مريضة أصلا بالوباء , لا جدوى من الثرثرة, لا جدوى من السير في حقل يملئه الألغام , هي موجودة ومتشظية هنا, وفي كل مكان .
كل شيء إذن له رائحة حين تقترب منه ,وتميزه حين تلامسه , وما أشدّه إذ كنت تعيش في ظل له في هذا الزمن الموبوء حتى التخمة فيه بخطوات مترنحة وأحيانا متناغمة , ويوجد من يتطيب بها . آه كم هو موجع الصوت الذي يدوي في أعماقنا, وكم امتد صداه .
وددت لو لم آتي كي لا أزيد من جراحي ولا أجد صدى لآهات تعكر الأيام وتفزعني كما كنت فيما مضى. أنا لا أقوى على رؤية الألم , ولا يوجد من يعشق الالم , لا أريد أن أرى ما كنت اعرفه أو أكون على مقربة خطوات منه , لكني وصلت توا ولا بد من البقاء لبعض الوقت , ولا بد أن اقضي أيام كنت احلم فيها بعد فراق طال ورحيل مرغما عليه خوفا من الذئب الذي كان يطارد فرائسه بمتعة لا متناهية , وخوفا أن اقضي بقية العمر في زنزانة مقفلة إلى الأبد , أو الموت في مقبرة لا يعلم بها احد , كما حصل وقد ظهرت . كم تمنيت أن يطول عمري لأرى ما سيحصل مثلما تمنيت العودة بكل جوانحي , أو على الأقل زيارة اقضي أياما فيها بصحبة من أودّهم وأحبّهم تشفي بعضا من غليلي ونارا تتلظى رغم كل ما حصل ويحصل بشهية مفرطة كشهية الجائع للتمر . فما أكثر الأحلام التي تراود المرء في غربته وما أشدّها عندما تطول ولا تجد من يواسيك فيهاغير الهمس ,أو صحبة قلقة وعابرة من بعض الأصدقاء , وضحكات مجنونة ,وكؤوس مبعثرة لا تشفي ما يثقل ويحرق جفونك إلا لحظات معدودة جدا وتبعدك عن الجرح النازف مودة ثم تعود متشظية مرة أخرى . لم يشغل بالي شيئا سوى السفر عندما أصبح ممكنا حين هوى الصنم, وأصبح الخوف خبر كان مستتر ورائي , لم يعد يشكل هاجسا للطيور التي تحلم دوما أن تعود إلى أعشاشها مهما طالت الأيام وطال السفر , لا غيره يشعرني بالدفء والدفء كله , وها أنا أرى وأحصي ما فزعت لرؤيته وان كان جزءا من فيض غمر زبده شواطئ أتعبها السهاد والحمى ولم تزل .
واستسلمت خطواتي للإيقاع تتقدم بوجل نحو ما يخفق القلب لذكره , احمل حقيبتي مجتازا الشارع الرئيس الذي لا توجد على جوانبه أرصفة , أو نبتة تزينه , أو سلة للأوساخ ,أو ما يدل إن هنا أيدي عاملة تعمل على تنظيف المكان . ترائي لي إني امشي في مستودع كبير للنفايات , المدينة التي اعشقها وأحبها حتى الموت ولن تفارق مخيلتي , ناسها, أزقتها وشوارعها منذ الوهلة الأولى بدت لي إنها أشبه بمقبرة , لا شيء يوحي إن حياة توجد فيها , أحدق منذهلا للخراب الذي حصل, لا يوجد من كتب عنه ,أو نقل صورة حقيقية له إلا خلف كواليس معتمة , وبهمس يكاد لا يسمع هنا وهناك , وما يسمح به فقط ,كأن الجميع يباركه , وكان حقا كذلك ,ولا يوجد أيضا من يطرق أبوابه إلا بموافقة وان ادعى البعض غير ذلك فقد كان البلد كله أشبه بزنزانة مغلقة لا يسمح لأحد الدخول والخروج منه إلا بموافقة صارمة من جهات عليا تسمح بإصدار وثيقة للسفر إذا لم يكن اسمه مدرج طبعا ضمن قوائم الممنوعين منه , أو يهرب إلى إحدى دول الجوار , وفي كلتا الحالتين يجد نفسه غير مرحب به ولم يجد آذنا صاغية تسمع شكواه, ويبدو للآخرين , الأصدقاء والأخوة الأعداء ,مشكوكا بأمره , أو انه في مهمة بعث من اجلها .
لم يكن هذا الإنسان والخراب الذي لحق بنا يعني شيئا للجميع , فهو حقلا أصبح لتجربة ينتظر نتائجها . اندهشت جدا للفوضى التي تعم المكان وكل ما يحيط حولها , الفوضى أحيانا تصيب المرء بالقرف والغثيان عندما يفاجئ بها, كيف يمكن أن يحصل هذا ؟ كيف يمكن لمدينة أن تكون هكذا قذرة ؟ وكيف للبشر فيها أن يعيشوا ويحلموا ويقضون أياما كما يعيش الآخرين في مدن أخرى ؟ لم تكن هكذا عندما تركتها , كانت جميلة وهادئة كامرأة ,......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟