الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القرين في سرديات المهجر (3)رواية -صوت أمي- لعبد القادر بنعلي أنموذجا

نجاة تميم

2011 / 6 / 8
الادب والفن


المواجهة وألبوم الصور
"تريد أن ترى ألبوم الصور". قال أبي. ص.130 "...حسب علمي لم تهتم أمي بهذا الألبوم، فتوقها لهذا الألبوم يرتبط برغبتها بالانشغال بشيء آخر. فصور الماضي قد تكون مثل قطعة قماش مبللة تجلب البرودة. أو هل قرر (أبي) هذا الصباح أن الوقت قد حان لكي يضع هذا الألبوم أمام أعينها، بحيث يتخلص من عتاب نظراتها..."ص.131 هذا الوضع يجب أن يتغير!
قرر السارد المصور الناجح في عمله أن يجد لنفسه مكانا أو بالأحرى حيز التصوير الذي اختاره دون الأخذ بعين الاعتبار رأي والديه وهو الذي يعتبر نفسه عصاميا، صنع نفسه بنفسه،"وهو الذي يصنع أوهاما بصرية لأنه يجد أن الواقع عبارة عن كارثة كونية."ص 84
فماذا يعني التصوير إذا بالنسبة له؟ إن الصورة تعكس، بالتأكيد، ثيمة القرين وتتماشى مع مفهوم الثنائية في مواضيع الرواية. إن السارد-المصور يحب التصوير منذ صغر سنه. وفاز بالجائزة الأولى عندما أخذ صورا لسكان الحي وأوضح فيها النقاط المشتركة بين هؤلاء الناس بدل الاختلافات التي قد تكون سببا في تعميق المسافات بينهم. فإن الصورة، حسب نيكول غيشار، يمكنها أن تقول عن نفسها "أنها هي الحقيقة التي لا تتوقف عن الكذب، عكس ما يقوله كوكتو عن نفسه: أنا كذبة التي تقول دائما الحقيقة." "المصور لا يريد هذا "الأنا " المفضل، فهو يبحث عن الغرابة بشخصيتي، الكائن الآخر الذي بداخلي دون علمي، ليكشفه للكل وبالأخص لي؛ فهو يريد الآخر." وقد يكون هذا الآخر هو القرين؛ "البورتريت الذي يكون بمثابة نوع آخر من المواجهة مع قرينه."
لقد حان وقت المواجهة. عِلما أننا، كما تقول نيكول غشار، "نسكن أوجهنا دون أن نراها. فعندما ننظر إلى أنفسنا لا نرى فقط تقاطيعنا وإنما طباعنا لأن البورتريت الذي نصنعه نحن عن أنفسنا هو نتيجة عملية سيكولوجية أكثر منها بصرية.
فالأب، الذي لا يحبذ التصوير، يتصل بابنه ليبلغه بأن أمه مريضة وأنها تريد أن ترى ألبوم الصور. هكذا بدأت الرواية من نهايتها. ويعود بنا السارد المصور إلى عقدين من الزمن، عندما كانت الأم ترفض مشاهدة الصور. كانت تبدو جميلة جدا كما لاحظ ذلك صاحب محل التصوير بالمغرب، كأنها أحد" نجمات هوليود". كانت تلبس فستانا جميلا، رأسها مكشوفا، وشعرها مسدولا على كتفيها. تقف بجانب الأب، الغطاس البهلواني. كانت فترة الاستمتاع بأغاني أم كلثوم. خلال هذه الفترة كانت الأم تتحدث كثيرا مع السارد المصور، نقلا عن الأخ التوأم /المدون أثناء سفرة المغرب. لكن هذه الأم التي لم يذكر اسمها في الرواية عزفت عن الكلام لمدة عشرين سنة. فبعد غرق ابنها في البحر ودخول ابنها الآخر في مرحلة المراهقة واكتشافه كتاب الأنسكلوبيديا ونظرية داروين، قررت الأم العزوف عن الكلام. قاطعت زوجها وابنها والعالم الخارجي أيضا. كان نوعا من الرفض للوضع الذي هي عليه. استعملت الخرس لتعبر عن حزنها وعدم رضاها عن وضعها. قضت سنوات طويلة منغلقة على نفسها.
تبنَى السارد/ المصور الشزوفرينية لكي يخلق عالما ثالثا يستطيع أن يبدع فيه ويتألق. حيث يرى جيل دولوز أن صيرورة الشزوفرينية هي صيرورة ثورية، محرﱢرة، تمكن الفرد من الخروج من وسط الميدان الذي خصصته أو فرضته المجموعة المهيمنة بالمجتمع. فكان التصوير المجال الأمثل للمواجهة. "فلا يمكن لصورة أن تتكون بدون معرفة". فالمعرفة في حالتها السليمة تتوارى كوعي للعلاقات. ويضيف (هوسرل) أن هذا الوعي يمكن ملؤه. ليس بالكلمات: الكلمات ليست إلا سند المعرفة. الصورة هي المحتوى الحدسي للمعنى. هذا ما يدركه أيضا السارد/المصور عند تصفحه ألبوم صور العائلة: "في أحد الصور، ينظر (أبي) مُبتسماً إلى الكاميرا بينما يضم امرأة مجهولة، جذابة فحسب، مكشوفة الرأس. هذه أمي! حرام! لا أصدق أنها أمي. إذا كانت هي فعلا، فإذاً، هذه المرأة التي تقف الآن في المطبخ ليست أمي وإنما صورة منعكسة لها غير واضحة...وفي صورة أخرى أراهما وفي يد أبي أسطوانة كوكب الشرق، أم كلثوم. ص133... أرى صورة أخرى وأمي ترتدي فستانا صيفيا بخطوط صفراء. هذه الصورة أخذت بهولندا قبل ولادتنا. ص134 واستمر السارد/المصور باستعراض، من خلال الصور، التغيرات التي حدثت على حياة والديه. و يلاحظ أن هناك "بديل في الصورة الذي لا تستطيع الكلمات التعبير عنه. شيء يملأ محتوى الصورة". ص134 فعلا "فإن فضاء الصورة ضروري، لأنه يمنحنا إمكانية اتخاذ مسافة مقابل العالم. فالصورة تبعدنا عن العدمية، كما عن الذاتية الصرفة. بينما في علاقتنا مع الآخر يمكننا أن نحس بالحرية في الصورة وهذا ما أخلصت إليه بيتر فان زيلفهاوت في دراستها عن الفضاء الخيالي. فالسارد المصور يريد "أن يوثق شيءً ما، لكي لا يصيب هذا الشيء الضياع". ص121
لقد شفيت الأم وعادت إلى حياتها الطبيعية؛ فرحة بصورها وبأحفادها التوأم، أبناء إيفا سواريس، التي تركتهم، لظروف غامضة، عند أبيهما السارد/المصور ورحلت إلى مكان مجهول بعد سوء علاقتها مع زوجها. " لقد أخذت صورا لك ولأبي وللكل. سأعرضهم على الناس...سأعرض صوري. لأنني أعتقد أنها تعبر عن أشياء لم يجري الحديث عنها بعد. ص237 هكذا يخبر السارد/المصور أمه عن سبب أخذه صورا للعائلة. يريد أن يمنح حياة لهذه الصور ويجعلها تتحاور مع الآخر ويمنح هذا الأخير فرصة لكي يملئ الفضاء الذي تشغله هذه الصور؛ تماما كما يقول سارتر في كتابه " المتخيل": عندما أشاهد صورة وألاحظ الشخص، فهذا الأمر يكون حدسا. الشخص نفسه لا يوجد في الصورة وإنما يصبح حدسا عن طريقي أنا ، أنا أضعه في الصورة، لذلك فالصورة تفتقد شيئا: الحياة والتعبير. ويتابع سارتر قوله؛ لكي نحدد الملامح التي تخص الصورة كصورة يجب أن نعتمد فعلا جديدا للوعي. يجب أن نفكر. فكلمة صورة لا ترمز إلا لعلاقة الوعي بالشيء، بعبارة أخرى، هي الطريقة التي يبدو عليها الشيء في الوعي، أو بالأحرى، كيف يتراءى الشيء في الوعي.
لقد حدث التصالح مع الذات من خلال إيجاد فضاء ثالث يؤمًن التواصل مع الذات ومع الآخر بدون انفصام في الشخصية. بعدما كان السارد/المصور يقول:"لكي أعود إلى البيت، يجب علي أن أترك جزأ مني"ص146 وكذلك الروائية العراقية بتول الخضيري في روايتها كم بدت السماء قريبة؛ عندما تتحدث عن التربية المزدوجة التي عرفتها من أم من أصول انجليزية وأب عراقي مخاطبة أباها: "خلافكما أدى إلى اختلاطي بالعالمين، ما عدا البيت الذي كان في حد ذاته عالمين."ص13 رغم ذلك استطاعت أن تتجاوز وضعيتها العائلية والاجتماعية كما جسَدتها في روايتها، علما أن بتول، هي أيضا تنتمي إلى نفس ثقافتي بطلتها. وتستمر في مخاطبة والدها: لقد بدأت حقبة جديدة في حياتي...ص 76 .. إن موت خدَوجة (صديقة طفولتها) وتردي حالتك الصحية،حولاني إلى طفلة أخرى". ص 60 أما فيما يخص عبد القادر بنعلي، فالوضع الاجتماعي والسياسي بالأخص هو الذي جعله يكتب هذه الرواية، بحيث يمكن أن تكون للكتابة منافع علاجية. إن نظرية الانتماء المزدوج عند (بول فالتزاويك ) تقول أن إمكانية الخروج من هذه الوضعية تكمن في إيجاد حل لها وذلك من خلال إعادة تأطيرها وتجاوزها. وهذا ما لمسناه في رواية صوت أمي. لقد وجد الكاتب كما وجدت بتول الخضيري فضاءً ثالثا استطاعا فيه أن يجدا ثقافة مشتركة تجمع بين العالمين اللذين يعيشان فيهما دون تضارب أو تصادم. فهذا الفضاء الثالث يساعد على التواصل والارتقاء مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما قاله أوتو رنك"بأن الإنسان لا يستطيع أن ينسلخ عن ماضيه وإن حدث ذلك فيكون سبب مأساته".
أخيرا، نجح بنعلي في نقل الوضعية من إطار إلى آخر وعرضِها للتواصل مع الرأي الآخر؛ وجهة جديدة تجسدت في فضاء ثالث عبر الكتابة وموتيف التصوير.

الهوامش:








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | المسرحية والأكاديمية عليّة الخاليدي |


.. قصيدة الشاعر العقيد مشعل الحارثي أمام ولي العهد السعودي في ح




.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟


.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د




.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل