الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرحية ( البَرَدة ) : جماليات المكان وحدود الاشتغال التأويلي

صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)

2011 / 6 / 8
الادب والفن


أن الفرضيات الإخراجية الناجحة تنطلق من تفسير جديد لقراءة المكان ، وقد أثارت البنية المعمارية للمكان المتمثل بالبيت البغدادي القديم الكثير من الرؤى الإخراجية ، وبعد أن تحول ذلك المكان العتيق منذ عقود إلى مستودع فاعل لكثير من التجارب ؛ استطاعت أن تخلق جيلاً مسرحياً يبحث في الظلام عن الضوء ويصنع من الفراغ هماً يحوله إلى معرفة جمالية تشكل حضوراً في فضاء الثقافة المسرحية العراقية.
أن منتدى المسرح ينتمي إلى ذلك النوع من الأمكنة الأليفة على أرواحنا والتي تحتاج إلى وعي كامل بمضمون العرض المسرحي الذي يقدم فيه، فالمكان لا يقبل بالعروض المسرحية التي لا تكون أليفة معه ومتناسقة مع جدرانه ومعبرة عن همومه وقد بدا ذلك واضحاً للقائمين عليه عندما أرادوا إقحام بعض العروض المسرحية التي تم تأسيس فضاءاتها على خشبات مسارح أخرى.
واليوم نحن أمام تجربة مسرحية وليدة هذا المكان يقودها مخرج شاب ومعه وفريق مسرحي يضم عدداً من المواهب التي تسعى إلى حفر صورها في ذاكرته العتيقة، عبر تقديمهم لعرض مسرحي يحمل عنوان (البَرَدة) تأليف (حيدر جمعة – غسان إسماعيل ) وإخراج (غسان إسماعيل) تمثيل (فكرت سالم ،علي حرجان، احمد مونيكا، حيدر سعد ،حنين السعدي، محمد ثامر. ، أمير عبد الحسين ، أمير أبو الهيل ،غسان إسماعيل ) سينوغرافيا (علي محمود السوداني) .
إن اللغة المحلية التي أستند عليها كاتبا نص مسرحية (البردة) تعد سلاحاً ذا حدين ، احدهما يحيل المتلقي إلى مساحات من التأويل من اجل قراءة تغوص بعيداً في العرض ، والحد الآخر يبقى في منطقة ضيقة لا يخدم لغة المسرح اللفظية منها والبصرية، وسوف نحاول أن نقتفي أثار تلك اللغة داخل منظومة العرض.
إبتداءا استوقفنا كثيراً عنوان هذه المسرحية الوارد في دليل العرض ،وأحالنا في لحظة قراءته الأولى إلى ذلك البرد الشتائي الذي يمر علينا في منتصف كانون الأول من كل عام ، ليعوضنا عن أشهر طويلة من صيف لهاب لا حدود لحرارته ،فإذا ما أتتنا (البردة) أحسسنا أن الحياة بدأت من جديد ، ولكنها بردة لأيام معدودات سرعان ما تنتهي لنبدأ محنة الصيف وسوء الخدمات وذاكرة طويلة من الهموم التي لا تنتهي من جراء سياسات خاطئة تقود هذه البلاد إلى المجهول .
هذه الفكرة البكر لم ينتظر المخرج طويلا حتى غير قناعاتنا بافتراضها ، ليطلع علينا في المشهد الأول بفرضية (البردة) التي يريد لها أن تعني (الستارة) تلك القطعة القماشية التي تستر أسرارنا وخطايانا وتبعد عنا عيون المتطفلين والأغراب المحيطين بنا من كل حدب وصوب ، إلا أن المخرج ينفي وجود هذه الفرضية التي منحنا أولى خيوط التأويل فيها ولكنه وسرعان ما قطعها متخلياً عنها وناسفاً تلك الفكرة معبراً عن ضياع (البردة ) التي أحالتنا مرة أخرى إلى ضياع ما يسترنا حتى باتت أسرارنا وهمومنا مكشوفة وعارية أمام الآخر الذي ينبش في عرينا كل يوم مرتدياً أقنعه عدة تارة يكون محتلاً وأخرى يكون جاراً لا يؤمن بمحبة جاره وثالثة يكون فاسداً يأكل من أموال أهل بيته ، وجميع هذه الأشكال توجه الطعنات إلى أجسادنا التي لا حول لها ، ذلك ما كنا نحاول اكتشافه في (البردة) إلا أن المخرج رفض الخضوع إلى افتراض التأويل الذي كان يمكن له أن يمنح العرض فرصة لقراءة أعمق .
أن الرمز الدلالي الذي أحالنا المخرج إليه في مفردة (البردة) في المشهد الأول من العرض أستطاع أن يلفت انتباه المتلقي إلى منطقة اشتغال هذا العرض ، إلا أن خيار الإخراج يتخلى عن (البردة ) بكل ما فيها من رؤية فكرية عميقة ، ليتجه إلى البحث عن صياغات لغوية محلية الصنع تثير الضحك لدى المتلقي معلناً بذلك نهاية للفكرة الأولى التي يلتصق عنوان هذا العرض بالمشهد الأول منها وحسب، أما باقي مشاهد العرض فإنها تنتمي إلى مسميات أخرى يطرح من خلالها المخرج والمؤلف حكايات عدة عن اليومي والمتداول ويوزع فيها كل مايمكن أن يثيره ذلك لدى المتلقي من ضحكات وتصفيق ، وهذا بالتأكيد جزء من حقوقه إذا ما كان يطمح لذلك ، غافلا أن المسرح ليس ضحكاً مجرداً..
إن سينوغرافيا (البردة) التي استطاع (علي السوداني) أن يتلمس فيها بيئة المكان ويضع عليها لمساته الجمالية التي جاءت متجانسة مع معمار المكان ليرسم فيها علاماته البصرية ذات الدلالة الايقونية التي لا تحيل المتلقي إلى معنى آخر سوى المعنى الذي تكونت من أجله، ولم يتجاهل السينوغراف في هذا العرض أي عنصر يمكن أن يخدم رؤية المخرج باستثناء علامة دلالية تعرف المتلقي بإسم المصبغة التي قد تحيلنا إلى أفكار أخرى كما هو الحال مع علامة (فندق سالار يرحب بكم) في إشارة إلى أن صاحب هذا الفندق ينتمي إلى القومية الكردية ، والتي يؤكد من خلالها على أن هذا الحي السكني يقف بعيداً عن الصراعات الطائفية والقومية وأن جميع المواطنين متآلفين مع بعضهم البعض ، وتلك إشارة تستحق الانتباه ، على الرغم من أن النص قام بمعارضتها تماماً على لسان (البانكي ) إذ يقول (أني للسليمانية ميطببوني) .
أما توظيف الإضاءة الجمالي الذي ساعد العرض في خلق أجواء تعبر عن تلك البيئة التي تمتاز بها المصبغة والتي جاءت هي الأخرى متناسبة مع الكثير من المشاهد .
وتعد الاكتشافات التي تحسب لصالح المخرج وفريق عمله من الممثلين الشباب الذين لعبوا أدوارهم بشكل يتناسب مع رؤية المخرج على الرغم من أن اغلبهم لايزال يرسم خطوط تجاربه الأولى.
وقد كان للممثل (محمد ثامر) الذي لعب دور (المغترب) بنباهة العارف لسلوك هذه الشخصية من دون أن يلجأ إلى المبالغة والتكلف في صياغة سلوكه الأدائي، مع أن الدور المسند إليه يحتاج إلى مساحة أكبر داخل منظومة العرض وهذا يعود إلى المخرج في تطوير هذه الشخصية لاسيما وانه قادر على ذلك بوصفه وزميله حيدر جمعة قادران على كتابة هذه الشخصية بشكل يتناسب مع قدرات هذا الممثل الواعد، في الوقت نفسه لا نغفل وجود طاقة أخرى في عرض (البردة ) متمثلة بالممثل (أمير أبو الهيل) الذي لعب دور (البانكي) والذي أستطاع أن يتلاعب بالألفاظ المحلية المتاحة لديه بشكل يدعم فعل الشخصية التي تمثل جيلاً من الشباب ، إلا أن ما يؤخذ على هذا الممثل .. لجوءه في بعض المشاهد إلى تكرار الأفعال من دون أن يكون لها أي مسوغ .
إن المخرج نجح بشكل كبير في إسناد دور (الحرامي) إلى الممثل (علي حرجان) لما تحمله هذه الشخصية من سلوك استطاع الممثل أن يعبر عنه بشكل واضح ، ويعود ذلك إلى هذا النوع من الشخصيات التي بات حضورها يشكل تواجداً ملحوظاً في مجتمعنا و يضيف وجعاً آخر لأوجاعنا حتى صار هذا المجتمع مثقل بأشخاص لا نعرف مصدر ثرواتهم الحقيقية.
وقد كان للشخصية التي قام الممثل (فكرت سالم ) فيها بأداء دور بارز في (البردة) ويعود ذلك إلى الإمكانيات التمثيلية التي يمتاز بها هذا الممثل الذي سبق له أن خاض تجربة التمثيل في مسرحيات عدة تتخذ من اللهجة المحلية أسلوبا لها كان آخرها مسرحية (غرفة إنعاش) إخراج كحيل خالد ، وفي هذا العرض استطاع (فكرت سالم) أن يتعامل ببراعة مع شخصية لديها تلكؤ في النطق تحتاج إلى ممثل واثق من أدواته لكي يتمكن من التواصل مع المتلقي وإيصال المعنى الذي تطرحه هذه الشخصية .
أن قائمة ممثلي (البردة ) تمتد طويلا لنصل إلى الممثل (احمد مونيكا) الذي كنا ننتظر منه عطاء أكثر لما يمتلك من إمكانيات لم يتمكن من توظيفها بشكل صحيح لخدمة هذه الشخصية التي تعاني من تحولات عدة نذكر من بينها ذلك الشخص الذي يطمح إلى أن يكون لديه التزام ديني عالي المستوى من الخارج والمليء بالمتناقضات من الداخل ، ويتحول في أوقات كثيرة إلى شخصية سلطوية يفرض على العاملين معه كل شي حتى انه يحلل ويحرم كل ما يتنافى مع تفكيره (الضحك حرام ) وتحيلنا هذه الشخصية بدورها إلى تلك الفئة التي ترفض دعوات الدين إلى التسامح مع الآخر، وفي احد المشاهد التي يكشف من خلالها المخرج زيف هذه الشخصية التي تختبئ وراء ستار الدين لما يحوي من سلطة تعطيه الحق في إصدار الأحكام على كل من حوله ، من دون أن يدرك أن كل السلطات لا تساعد في الحصول على الحب الذي رفضته تلك الحبيبة التي تبحث عن متع الدنيا وأهوائها وليس لديها فرق إذا كان شريكها القادم ( لصاً ) أو غير ذلك مادام قادرا على توفير متطلباتها ،فالمقارنة بين حبيب يتخذ الدين ستاراً لفرض السيطرة على الآخرين، وبين من يحصل على أمواله من مصادر مجهولة ، كل هذا لا يجدي نفعاً في زماننا هذا.
أن التجربة المسرحية التي بدأ الشباب بصناعة ملامحها الجمالية تحتاج إلى الكثير من الرعاية والدعم ، ذلك ان عرض مسرحية (البردة) وكل العاملين فيه يشكلون هواجس أجيال من الشباب الذين يعيشون في هذه البلاد ويطمحون إلى الخلاص من هموم تراكمت عليهم منذ لحظة ولادتهم الأولى ولا يعرف أي منهم متى تنتهي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا