الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماريت تقول : مصر تقتل نفسها

سوسن بشير

2004 / 11 / 8
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


ماريت امرأة فاتنة من النرويج، من هذه البقعة من الأرض، التي يُذكر عن نسائها، إنهن من أجمل نساء الكون، بيضاء هذا البياض الذي يمتزج به أحمر الصحة والحيوية، و مهما لفحته شمس مصر، يظل محتفظاً برونقه، مع اكتسابه مزيداً من الحُمرة الملفتة. جاءت ماريت إلى مصر يوماً، وكان هذا اليوم فاصلاً في حياتها، عشقت البلد برؤاها الخاصة، وتخصصت كمسئولة سفريات، تحضر أفواجاً منتقاة من بلادها، تصطحبهم وتعد برنامجهم، لتريهم عظمة البلد الذي عشقته، هل يمكن بعد ذلك ألا أحب ماريت؟
وهل يمكن أن يغير شيئاً، كون ماريت أصبحت اليوم في سن أمي، وازداد وزنها لتصبح امرأة ممتلئة، وتزوج ولداها في النرويج، وأصبحت جدة. بالنسبة لي، لا يبدل هذا من فتنتها اللامرئية الثابتة، أما عن رجال مصر، فتؤكد ماريت أن هذه العوامل التي أصابها بها الزمن والسمنة، لم تردع الرجال في الشارع عن التعرض لها، وإلى هنا كنت آخذ الحديث في مجرى بين الجد والهذر، لكن كان لحديث ماريت شأن آخر.
ولتتضح الصورة أكثر، أقول إن ماريت عاشقة مصر، أتتنا في بداية السبعينيات، ومن ذلك الحين لم تتوقف زياراتها المتكررة، وغدا عشقها للمكان وعملها ممتزجان بشكل جيد. لكن ماريت لاحظت جهل النرويجيين بتاريخ مصر وعراقتها، وعدم تقديرهم لهذا البلد حق قدره على حد قولها، فتخصصت في نوع محدد من الرحلات لاحقاً، حيث يتكون وفد ماريت من عدد من النساء تحديداً، ينتمي الجزء الأكبر منهن، أو جميعهن، إلى فئة مثقفة لها اهتمام بالأدب، وعادة ما يحوي وفدها كاتبة واحدة على الأقل، ويحلو لماريت أن تطلق على وفدها، وفد القارئات.
تضيف ماريت إلى برنامج الزيارات الأثري برنامجها الخاص، حيث تصطحب قارئاتها إلى متاحف محلية فنية، وحفلات بدار الأوبرا مختصة بالموسيقى العربية، وتتوقف بهن خلال البرنامج الأثري التقليدي، أمام الجداريات الفرعونية الموضحة لدور المرأة المصرية في غابر الزمان، وتحرص كل الحرص على التقاء قارئاتها بأحد كاتبات أو كتاب مصر، لترسيخ الصورة بجوانبها الثقافية في أذهانهن.
هذه المرة التي دار فيها حديثنا المقصود، لم توفق ماريت كل التوفيق في وفدها، وجاء هذه المرة كأي فوج سياحي اعتيادي، من نسوة اهتممن بالشراء والبحث عن بارات محلية، بعد أن اكتفين بالدرس السياحي التقليدي،وهذا لا عيب فيه،لكن هل ترضى ماريت؟عبرت عن استيائها منهن علناً،وهنا كانت المواجهة، وجهت النسوة لماريت تهمة التضليل، وسألنها عن سر حبها لبلد تنتشر فيه القاذورات في الشوارع، وينظر فيه الرجال إليهن كأنهن قادمات من كوكب المريخ بملابس فضائية، بل لم تردع أعمارهن الوقورة بعض الشباب،الذين تجرؤا وفي ظهر اليوم بوضع الأيادي عليهن في وسط الشارع، كما أن النساء فيه خانعات ومتخفيات، ولا صلة تربطهن بنساء الجداريات الفرعونية. حاولت ماريت أن توضح لنسائها، أن المسألة برمتها تعود إلى سببين، الأول هو الحظ السيئ بالفعل، الذي أوقع بعض نساء الفوج في سلسلة من المواقف السلبية، من الطبيعي أن تتواجد في أي دولة من دول العالم النامي، سببها الوضع الاقتصادي بالأساس. أما السبب الثاني الذي أكدت عليه ماريت هو العمى الإرادي، أي إغلاق النسوة أعينهن عن الجمال المتجلي في تاريخ مصر وحضارتها وأهلها الطيبين، وكان الخلاف حاداً. لكن ما آذى ماريت هو صواب بعض ما ألقينه النسوة عليها، ولمسته بنفسها ولم تصرح لهن، وإن صرحت به لي ولأصدقائها من المصريين، حين قالت فجأة وبحزن "مصر تقتل نفسها"، لديكم أكبر ثروة أثرية في العالم، لكنها ثروة مهدرة، يسير الاهتمام بها ومحاولة استغلالها كما يجب، كسير السلحفاة، أما عن الناس فليس لديهم وعي أثري، لا يثير تراثهم لديهم اهتماماً كبيراً، وهذا ليس خطأهم وحدهم، بل خطأ كل من عليهم مسئولية تجاه هذا البلد.
كنت أعرف هذا الكلام، وهو معاد كاسطوانة مشروخة، لكني كنت أعرف أيضاً أن ماريت لديها مزيد، وأن حزنها الحقيقي من البشر، فقلت لها لندع الحكومة والآمال العظيمة فيها من ترشيد الثروة القومية إلى الأمل في تصنيع أول ممحاة مصرية على جنب، ماذا فيك يا ماريت؟
صرحت ماريت بأن النظرة البراقة في العيون المصرية انطفأت، والطلعة البهية للوجوه السمراء في الشارع المصري اختفت. حل الحزن وكسرة النفس في العيون والوجوه ، غدا الناس متحفزين وواثبين بغير ترحيب. تعرضت هي نفسها للتحرش، وبصقت امرأة ترتدي الخمار على الفوج بأكمله، وفهمت ماريت من همهمتها اعتراضها على ما يلبسن، وقالت كانت جريمتنا أننا بلا أكمام. أوضحت ماريت إن مشكلتها ليست في حدوث هذه المواقف،لكن في تكرارها الملفت،مع اعترافها بعدم تعميم الأمر،وإشارتها إلى حسن الضيافة والأمان المصريين الثابتين لدى الأغلبية،منهن صديقات بالحجاب،لكن أحزنها الشارع المصري من بعض رجاله ونسائه،الذين اعتادت منهم على الكرم الأخلاقي ذاته الذي تلقاه ممن تعرفهم بشكل شخصي.قالت هناك ما يغلي داخل النفوس،ويخرج في صور مختلفة،وهذا بداية مرض عضال،علكم تجدوا له ما يداويه لكي لا تقتل مصر نفسها.تُرى هل تتفقون مع ماريت؟تُرى إلى من يجب أن نبلغ شكواها؟إلى الناس في الشوارع،إلى المسئولين في مكاتب مكيفة،إلى بعض رجال دين يوقعون بالبغضاء بين مصري مسلم و مصري مسيحي،فما بالك بالأجانب؟أم علينا ألا نجزع، ولا تجزع ماريت أيضاً فمصر آمنة بأهلها،لن تقتل نفسها أبداً، وأن ما يفعله البعض، ويُضَلل به البعض،لابد له من نهاية. ترى أي الوجهين أقرب للحقيقة،أم أن الحقيقة كلمة جوفاء،وعلينا أن نتساءل أيهما أقرب للواقع؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. تقارير: الحرب الإسرائيلية على غزة دمرت ربع الأراضي الزراعية




.. مصادر لبنانية: الرد اللبناني على المبادرة الفرنسية المعدّلة


.. مقررة أممية: هدف العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ البداية ت




.. شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي على خان يونس