الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل هناك منهج علمي؟

هشام غصيب

2011 / 6 / 10
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


هناك علم بالتأكيد. ولكن هل هناك منهج علمي محدد بخطوات متتابعة محددة سلفا؟ هل إن طريقة نيوتن في البحث والاستقصاء هي نفسها طريقة آينشتاين؟ وهل إن طريقة هذا الأخير هي نفسها طريقة بور وهايزنبرغ وفاينمان وهوكنغ؟ هل إن الممارسة العلمية مجرد مهارة محددة كمهارة الحداد والنجار والملاح والصياد، بحيث لا يختلف عالم عن آخر إلا من حيث إتقانه هذه المهارة المحددة؟

ولكن، إلام نرجع ونحتكم للإجابة عن هذه الأسئلة؟ قد نحتكم إلى الفلسفة ونشتق منهجا علميا محدد الخطوات من مفهوم الحقيقة ومفهوم المنطق كما سبق أن فعل الفيلسوف الإنجليزي، فرانسيس بيكون، في مطلع الحقبة الحديثة. ولكن، أليس من الأجدى أن نلجأ إلى تاريخ الممارسة العلمية نفسها وندرس بعمق طرائق العلماء الفعلية ونقارن بينها؟ فإذا فعلنا ذلك، ماذا يتبين لنا في هذا المضمار؟

إن مثل هذه الدراسة لتكشف لنا عن فيض هائل من الأساليب والطرائق والمناهج، والذي ينمو ويتنامى باستمرار، ويصعب (ربما يستحيل) اختزاله إلى منهج محدد بخطوات محددة سلفا. لذلك أجرؤ على القول إنه ليس هناك منهج علمي بخطوات محددة سلفا، وإنما لدينا عائلة لانهائية من المناهج والطرائق والأساليب المتنوعة.

هل يعني ذلك أننا بإزاء فوضى فكرية وأن الممارسة العلمية غير محددة، وأنه ليس هناك حدود واضحة المعالم بين الممارسة العلمية وغيرها من الممارسات (السحرية والتنجيمية والسيميائية مثلاً)؟ وجوابي عن ذلك هو أنه ليس هناك منهج علمي، لكن هناك عقلانية علمية محددة. تتعدد المناهج العلمية بلا حدود، لكنه يحكمها عقلانية محددة تميز بين الممارسة العلمية وغيرها من الممارسات. إن الجوهر العلمي للممارسة العلمية يتحدد بعقلانية علمية متشعبة، وليس بمنهج علمي محدد.

ولكن ماذا نعني بالعقلانية العلمية، بالعقل العلمي؟ للإجابة عن هذا السؤال، نتساءل عن المشتركات العامة للممارسات العلمية، أي محددات الممارسة العلمية وأسسها ومقومّاتها.

وأرى أن هناك أربعة أصناف من الأسس والمحددات: الأسس الإيبستملوجية، والأسس الأنطولوجية، والأسس الأخلاقية، والأسس السوسيولوجية. فالعلم مشروع ثقافي يفترض ثقافة متعددة الأبعاد.

ويرتبط مفهوم العقل العلمي بالصنف الأول من الأسس، الصنف الإيبستملوجي، على النحو الآتي:

في مقدمة الأسس الإيبستملوجية التي يرتكز إليها العلم:

أ‌- إن العلم لا يقبل الأمور على علاتها. ومعنى ذلك أنه لا يقبل البتة بالمسلمات المطلقة. فهو ينطلق من الافتراضات المدروسة والقابلة للنقض والاختبار. أما المسلمات المطلقة، فلا تدخل البتة في فضاء الممارسة العلمية .

ب- إن العلم لا يعترف في أي مرجعية أو سلطة خارجه، سواء أكانت سلطة سياسية أم دينية أم نصية أم سلطة بديهيات. إن مرجعيته هي العقل العلمي وحدة أو الحجة العلمية وحدها. هذه هي المرجعية الوحيدة التي تحتكم إليها المرجعية العلمية.

جـ- إن العلم لا يكتفي بظاهر الأمور، وإنما يسعى إلى اكتشاف قوانين حركة الظاهر، أي قوانين تحول الباطن إلى ظاهر، أي قوانين الباطن، وذلك بالاستعمال المبدع الخلاق للعقل العلمي.

إن هذه الأسس لتشير إلى وجود العقل العلمي ومحوريته في الممارسة العلمية، أي إلى وجود عقلانية علمية تحدد الممارسة العلمية، وإن لم يكن هناك منهجية علمية بخطوات محددة تحددها.

ولعل جوهر العقل العلمي يكمن في العلاقة الجدلية (الديالكتيكية) بين نمط معين من التنظير المريّض (من الرياضيات، بتشديد الياء) والقياس الدقيق. وأعني بالعلاقة الجدلية العلاقة الضرورية والتحويلية والتناقضية. فالعلاقة الجدلية بين طرفين تفيد أن أيا منهما ينتفي بانتفاء الآخر، وأنهما يتحولان باستمرار إلى بعضهما بعضا، وأن هناك توتراً تناقضيا دائما بينهما. وبهذا المعنى، فإن التنظير العلمي يفقد ذاته من دون القياس الدقيق، والعكس بالعكس. فالتجربة لا تكون علمية إذا لم تكن نابعة من النظرية وتصب فيها. كما إن النظرية لا تكون علمية إذا لم تكن قابلة لأن تختبر بدقة. وعليه ، فإن النظرية العلمية تترجم باستمرار إلى تجربة علمية، والعكس بالعكس. وهناك توتر تناقضي دائم بين النظرية والتجربة.

وهذه العلاقة متشعبة ومتعددة الأبعاد. فهي شبكة مترابطة من الممارسات والعمليات والأدوات الذهنية. ومن الخطأ عزل هذه الممارسات والعمليات عن بعضها بعضاً أو أخذ كل منها على حدة. فهي بمجموعها تشكل كلا واحداً موحداً، ويسند كل منها الآخر. وتدخل جميعا في تحديد المنتوج المعرفي. كما إنها جميعا تدخل في شبك التنظير العلمي بالتجريب العلمي وفي شبك الممارسة العلمية بموضوعها (الطبيعة).

ونجمل أبعاد العلاقة الجدلية بين التنظير والتجريب في العمليات والأدوات الذهنية الآتية:

1- الاستقراء: وهي تدخل في باب تحويل التجريب إلى تنظير، أو تحويل الخاص المحدود إلى العام اللامحدود. فالعلماء يستخلصون بالاستقراء علائق أو قوانين عامة من عدد محدود من القياسات الدقيقة. لكن من الخطأ الظن أنها عملية ميكانيكية روتينية. كلا! إنها عملية إبداعية خلاقة تتضمن براعة رياضية متميزة وحدساً فيزيائيا قويا ومخيالاً علميا خصبا. وخير مثال على ذلك هو الكيفية التي توصل بها الفلكي الألماني، يوهانس كبلر (1571-1630)، إلى قوانين حركة الكواكب حول الشمس. فبالإضافة إلى تسخيره البارع لرياضيات عصره، فقد سخر أفكاره اللاهوتية الغريبة والفيثاغورية (نسبة إلى الفيلسوف والرياضي الإغريقي، فيثاغورس) والجمالية وحسه المادي الفيزيائي العميق من أجل استقراء هذه القوانين، التي شكلت الأولى من نوعها في تاريخ البشرية.

2- الاستنتاج: وهي عملية تدخل في باب تحويل النظرية إلى تجربة وقياس، أو تحويل العام اللامحدود إلى خاص محدود. فالعلماء يسخرون أدوات المنطق والرياضيات من أجل استنتاج تجسّد العام في الخاص. والمثال الأكبر على ذلك هو استنتاج نيوتن لقوانين غاليليو في حركة الأجسام على الأرض وقوانين كبلر في حركة الكواكب حول الشمس من قوانين نيوتن الكونية في الحركة والجاذبية. والمثال الكبير الآخر هو استنتاج الفيزيائي السكتلندي، جيمس كلارك ماكسويل، في الربع الثالث من القرن التاسع عشر، أن هناك أمواجا كهرمغناطيسية ( كالضوء)، وذلك من قوانين الكهرباء والمغناطيسية.

3- الاختبار: إن العلم يختبر أفكاره ومقولاته باستمرار بتطبيقها على حالات عيانية ومقارنة النتائج النظرية بنظيرتها التجريبية. وبتعبير آخر، فإنه يجسد العام في حالة خاصة بالاستنتاج. ثم إنه يحاكي هذه الحالة الخاصة في الطبيعة، أي في المختبر.ويقارن بين العام المجسد وبين الواقع التجريبي. مثال ذلك اختبار مشهور لنظرية النسبية العامة، التي وضعها آينشتاين عام 1915، أجري 1919. إذ طبق آينشتاين نظريته على شعاع ضوئي يمر في محاذاة سطح الشمس، واستنتج أنه ينحرف بزاوية صغيرة معينة. وتم قياس هذه الزاوية عام 1919، فتبين أن القياس مطابق تماماً للاستنتاج النظري . وشكل ذلك رافعة مكينة لهذه النظرية.

4- التجربة الفكرية: وهي تجربة مثالية متخيلة يكون إجراؤها فعليا صعبا، أو حتى مستحيلاً، في العصر الذي تم تصورها فيه. وهي ترتكز إلى التجريد الذي يميز الجوهري عن العرضي ويهمل الأخير. وتهدف إلى توضيح الأفكار وإشكالاتها وتناقضاتها وبيان مدى معقوليتها. وعلى سبيل المثال، فقد تصور آينشتاين نفســه ( وكان في سن السادسة عشرة) يطارد شعاعاً ضوئيا بسرعة الضوء نفسه. وتساءل : ماذا أرى في هذه الحالة؟ ويظن أن هذه التجربة الفكرية كانت نقطة انطلاق مسيرته الفكرية التي أوصلته إلى نظرية النسبية الخاصة.

5- التركيب الجدلي: وهو الآلية الأساسية في بناء النظريات العلمية. ويتمثل أساساً في ربط الأفكار المتباينة، وربما المتناقضة، معاً في تركيبات فكرية جديدة تحل التناقضات وتتخطاها وتوسع رقعة التفسير والتنبؤ العلميين . ومثال كبير على ذلك الكيفية التي دمج بها نيوتن قوانين غاليليو في الحركة الأرضية مع قوانين كبلر في الحركة السماوية في نظرية كونية شاملة في الحركة والجاذبية.

6- النقد: وهو تحليل الأفكار وتفكيكها وإعادة تركيبها بطرق متنوعة ومقارنتها مع غيرها من الأفكار ومع الوقائع من أجل الكشف عن بناها الداخلية وحدودها وتناقضاتها وإشكالاتها وثغراتها وأسسها وجذورها وآفاقها، تمهيداً لهدمها أو تطويرها أو تخطيها. والمثال الأكبر على ذلك هو النقد الحارق الذي وجهه غاليليو صوب فيزياء أرسطو، والذي دمر هذه الفيزياء تماماً وإلى غير رجعة وأقام قاعدة فيزياء جديدة على أنقاضها0

7- الفرضية: أي تركيب تفسيرات محتملة لظاهرات جديدة من قلب الإطار النظري السائد.

8- الملاحظة الذكية: أي قراءة حقائق كبرى في فروق طفيفة. مثال ذلك قراءة العالم الإغريقي، إراتسثنيس، في القرن الثالث قبل الميلاد، حقيقة كروية الأرض في اختلاف طفيف في زاوية ظل مزولة ( وتد عمودي) وقت الانقلاب الصيفي وقت الظهيرة بين الإسكندرية وأسوان. وقاده ذلك إلى حساب محيط الأرض بدقة كبيرة.

إن هذه الأدوات الذهنية والممارسات العلمية تشكل أبعاد العلاقة الجدلية بين التنظير العلمي والتجريب العلمي وموضوع الممارسة العلمية (الطبيعة). وهي في مجملها تشكل بنية العقل العلمي ، أساس الفيض اللانهائي من المنهجيات العلمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Socialism the podcast 131: Prepare a workers- general electi


.. لماذا طالب حزب العمال البريطاني الحكومة بوقف بيع الأسلحة لإس




.. ما خيارات جيش الاحتلال الإسرائيلي لمواجهة عمليات الفصائل الف


.. رقعة | كالينينغراد.. تخضع للسيادة الروسية لكنها لا ترتبط جغر




.. Algerian Liberation - To Your Left: Palestine | تحرر الجزائر