الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عودة الدكتور -بهيج-

مصطفى مجدي الجمال

2011 / 6 / 11
الادارة و الاقتصاد


عودة الدكتور "بهيج"!!

منذ أن رفع اليسار المصري شعار الاشتراكية قبل نهاية القرن التاسع عشر، ثم بدء الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في تنفيذ ما عرف بالتحول الاشتراكي في ستينات القرن العشرين، لم يتوقف اليمين عن مهاجمة الاشتراكية باعتبارها فكرًا مستوردًا يتنافى مع الطبيعتين المصرية والإنسانية، ومع الدين، ولا علاقة لها بالاقتصاد كعلم.
إن اليسار المصري- بكل أجنحته- قد رأى في الاشتراكية الحل الأمثل للصراع الطبقي، والسبيل الناجع لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي.. أي التنمية العادلة والمستدامة بمفهومها العام. ولعل أهم عناصر هذه الاشتراكية هو إنهاء سيطرة رأس المال على الحكم، والحيلولة دون استيلاء البرجوازية بكافة شرائحها على فائض قيمة إنتاج العاملين، أي جعل العمل وليس الملكية الخاصة هو أساس القيمة، وعندئذ تتجلى الإنسانية في أسمى معانيها.
ورأى اليساريون والتقدميون عامة أنه لا يمكن حتى حماية الاستقلال السياسي بدون أن تكون هناك قاعدة إنتاج وطنية قوية، تتطور وفق خطط تنموية مقبولة شعبيًا ومنحازة اجتماعية، وتضع احتياجات الإنسان وتنميته في مركز اهتماماتها.. وقد بات واضحًا أن الشرائح الرأسمالية الموصوفة بـ"الوطنية" لم تعد قادرة ولا راغبة في إنجاز تنمية وطنية منفصلة عن نفوذ وطغيان الاحتكارات العالمية الكبرى.. ومن ثم فقد انتقلت المهام التاريخية التي اضطلعت بها الرأسمالية في البلدان "المتطورة" لتصبح من مسئولية حلف شعبي واسع يجمع بين النضال الوطني والديمقراطي والاجتماعي والثقافي..
أما الرأسماليون المستغلون ومعهم المفكرون والأكاديميون الذين يناصرونهم، فقد اعتبروا الاشتراكية مشروعًا فاشلاً من الألف إلى الياء، لأنها حسب زعمهم تدخل الأيديولوجيا في العلم الاقتصادي، أي أنها تتعامل مع السوق من منطلق الأوامر الحكومية، بينما السوق فى رأيهم يجب أن تترك وشأنها فهي قادرة على تصحيح نفسها أولاً بأول كما يزعمون، فلا يجوز للدولة أن تتدخل في الاقتصاد بتأميم أو تخطيط.
والغريب أنهم أنفسهم قد لجأوا إلى استيراد نظريات الليبرالية الجديدة المتوحشة التي صاغتها مدرسة شيكاغو، وروج لها البنك الدولي وصندوق النقد وفرضها فرضًا على الدول الضعيفة الراغبة في الحصول على قروض، واعتبر أنصار الليبرالية الجديدة كل من ينتقدهم جاهلاً ومغرضًا رغم أننا ضبطناهم متلبسين بإقحام الأيديولوجية- هم أيضًا- على علم الاقتصاد، خاصة حينما قدموا آلية أو يد السوق الخفية باعتبارها قوة شبه سماوية قادرة على علاج اختلالات الرأسمالية أولاً بأول.
ولكن بعدما تفجرت الأزمة المالية والاقتصادية التي لا تزال تعصف بالاقتصاد العالمي جراء فوضى السوق الرأسمالية العالمية، امتلأت الصحف الغربية بمئات المقالات التي تنتقد الليبرالية الجديدة وتعتبرها خطرًا ماحقًا على الرأسمالية نفسها، بدءًا من الملياردير جورج سوروس وانتهاء بصاحب جائزة نوبل: جوزيف ستجلتس. بل وأعادت الدوائر الأكاديمية الغربية الاعتبار للورد كينز ومدرسته التي تقوم على دور الدولة في تنشيط الطلب الكلي الفعال.
ومع ذلك كان الصمت الرهيب هو القاعدة بالنسبة للمفكرين والأكاديميين المصريين من مناصري الليبرالية الجديدة، ولم يكن المانع خيرًا بالطبع!! فقد تم تطبيق الليبرالية الجديدة في مصر مع إضافة عناصر الفساد والطفيلية والمضاربات وتزاوج السلطة مع رجال الأعمال.. فتفجرت الأوضاع في مصر على نحو أودى بالحزب الحاكم.. ولكن الحكومات الانتقالية أو المؤقتة التي جاءت بعد الثورة لا تزال حريصة على انتهاج نفس المنهج الليبرالي المتوحش، مع تقليم أظافره.. وخاصة تصفية بعض جيوب الفساد والاحتكار ومحاولة استعادة الثروات المنهوبة سواء خارج القانون أم تحت أعين القانون المفتوحة..
وبهذه المناسبة أتذكر شابًا نابهًا من تلاميذ لجنة السياسات التي كان يرأسها جمال مبارك، ورغم أنه قد نشأ في أسرة مصرية عادية فقد سنحت له الظروف بأن يتلقى إعداده العلمي في أرقى الجامعات الغربية، وحدث أن اصطدمت به شخصيًا في أحد المنتديات الاقتصادية لأنه كان من أشد المؤيدين للعولمة المالية ورفع يد الدولة والمجتمع تمامًا ونهائيًا عن أنشطة رأس المال كلها، باعتبار أن الرأسماليين هم الذين يصنعون القيمة والخير وفرص العمل وكل شيء. هكذا تعلم!! ولكن أكثر ما أثار ضيقي هو تعمده التهكم الشديد على أي رأى مخالف حتى لو انطلق من أرضية رأسمالية.
وإنني أريد أن أسأله الآن عن رأيه وهانحن نرى ماذا فعل ذلك النهج الرأسمالي المتوحش بالقلاع الكبرى للرأسمالية العالمية في أمريكا وأوربا واليابان إلى حد تعريضها لحافة الهاوية لولا هبة الدول الرأسمالية الكبرى لاستخدام مدخرات المواطنين لإنقاذ الشركات والمصارف المفلسة.. وأريد أن أسأله أيضًا عما تسبب فيه هذا النوع من الفكر والممارسة من خراب لبلد كمصر، حيث اجتمع مع الفساد والعمالة والاستبداد ليحول بلدًا كان في طليعة التجارب التنموية الوطنية في الستينيات، إلى بلد متخلف وضعيف وتابع اقتصاديًا؟
وكان ذلك الشاب أيضًا، ولنعطه اسمًا حركيًا هو "بهيج" مثلاً، يربط دائمًا بين الفساد والمصالح الشخصية وبين تدخل الدولة في الاقتصاد، وينفى تمامًا الفساد عن المؤسسات الرأسمالية على أساس أن الرأسماليين أحرار فيما يملكون، وهانحن نكتشف أن فساد الرؤساء التنفيذيين وملاك الشركات كان أشد خطرًا حتى على المجتمع الأمريكي نفسه، حيث تذهب مدخرات المودعين وصناديق التقاعد وأموال دافعي الضرائب أدراج الرياح. أما فساد النظام المباركي البائد ففضائحه بجلاجل كما يقول التعبير العامي المصري.. حتى أن الدكتور "بهيج" لا يستطيع أن يجلس على مقهى أو يتحدث في منتدى ليتباهى بأنه كان عضوًا في لجنة السياسات..
الغريب أن الدكتور "بهيج" فاجأني بأن رأيته على شاشات فضائية أجنبية يوجه النصح للمجلس العسكري، والحكومة الحالية، ولا مانع أيضًا من تقديم نقد ملطَّف للممارسات الاقتصادية السابقة، وأحمد له أنه لم يدعِ أنه كان من صناع الثورة كما يفعل كثير من الأفاقين المتكئين على ضعف ذاكرة الشعوب.
وهنا أعود بذاكرة الدكتور "بهيج" إلى رفضه الشديد السابق لأن تمد الدولة يد العون لشركات القطاع العام المتعثرة باعتبار هذا جريمة تقترف ضد آليات السوق المقدسة، وإن كان لا بد من دعم فليكن بهدف إعادة هيكلة هذه الشركات لبيعها لمستثمرين محليين أو أجانب. أي أن الهدف من العملية كلها هو الاستيلاء على ممتلكات الشعب والمجتمع بأثمان بخسة، أو الاستيلاء على موارد المجتمع من أجل إسعاف الرأسماليين المتعثرين بفعل جشعهم وفسادهم واستهتارهم.
وماذا بعد.. إن مصر لم تعد بحاجة للدكتور "بهيج" وأمثاله الذين نجحوا في تخريب كل ما أنجزته من تنمية صناعية وزراعية وبشرية.. وحولوا غالبية شباب مصر القادرين على العمل والإبداع إلى مجرد أرقام في صفوف طويلة من العاطلين الممرورين. وبات المجتمع كله على حافة أخطار لا يعلمها إلا الله بسبب سياسات رفع الرقابة كاملاً عن الرأسماليين، فكانت النتيجة ما نعيشه الآن من عذاب يومي للأسرة المصرية من أجل الحصول على أي شيء، وتفاقمت الأمراض الاجتماعية والعنف والمخدرات، وأصبحت الأزمة هي عنوان كل شيء.
رأسمالية الدكتور "بهيج" حققت النمو للرأسماليين وحدهم، وملأت حياتنا باليأس والفقر والكراهية. وتحتاج مصر إلى عقول وسواعد أبنائها كي تقف من جديد على قدميها، وقبل ذلك كي توقف انفتاح ما أسماه الراحل العظيم أحمد بهاء الدين "السداح مداح!".
وفى مقدمة هؤلاء لا بد أن يلعب مثقفو اليسار المصري دوراً فعالاً في إعادة الاعتبار إلى الاشتراكية وطرحها بقوة مرة أخرى على ساحة الجدل المجتمعي. وقبل هذا على اليسار المصري- بكافة أجنحته- أن يستعيد الثقة بفكره ونفسه وقدراته، ولا يصح أن يتصور أحد أن صياغة برنامج اجتماعي- اقتصادي جديد لمصر، يتصف بالتقدمية والديمقراطية والوطنية، يمكن أن يتحقق بمجرد مداولات ودراسات المثقفين والعلماء فحسب، وإنما يتطلب الأمر منهم أن يستقوا معارفهم أولاً من الواقع المباشر والرأي العام الشعبي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اقتصاد: تراجع البورصات الأوروبية غداة نتائج الانتخابات البرل


.. كلمة أخيرة - لميس الحديدي: محتاجين توسيع القاعدة الضريبية وأ




.. كلمة أخيرة - طرح مسودة أولية لوثيقة السياسة الضريبية للنقاش


.. بعد طرح مسودة أولية لوثيقة السياسة الضريبية 2030.. ماذا يريد




.. ما أهمية الانتخابات الأوروبية في ضوء تحديات الاقتصاد وأوكران