الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انهيار الأخلاق في زمن السوق المحرَّرة من القيود

الطاهر باكري

2011 / 6 / 11
العولمة وتطورات العالم المعاصر


إن البحث عن استقرار أسواق المال، وضمان مزيد من التحرر للأسواق، يكون على حساب انهيار الأخلاق، واغتيال التضامن الإنساني؛ وذلك بالنزوع نحو الأنانية المتحررة من القيم. إننا أمام حقبة الشجع الاقتصادي المُهدِّم للأخلاق.

فالهوس الذي يصيب المسؤولين عن السياسة النقدية العالمية في أحايين كثيرة، مصدره ومنبعه الأساسي، هو الرغبة في استقرار أسواق المال لا غير، قصد تجاوز الأزمات؛ إذ إنهم لا يعيرون كثير الاهتمام لكل التناقضات الاجتماعية ذات الصلة بالقيم والفضائل والأخلاق؛ إذ إن المنفعة الشخصية والهرولة نحو الربح تظل الدَّيْدَن المُقَدَّس، والهدف الأول وراء تَوَسُّعِ خريطة التجارة العالمية، وتحرير الاقتصاد من كل القيود، ومن رقابة الحكومات؛ بل أكثر من ذلك، تساهم كبريات الشركات العالمية في إفساد عمل الحكومات، وتكوين خرائط السياسة العالمية، وتنصيب رؤساء يُؤمَل فيهم أن يفتحوا مزيدا من الأسواق؛ لمزيد من السلع والبضائع؛ بما في ذلك تجارة الأسلحة؛ مما يبين بشكل جلي أن فساد أخلاق السَّاسَةِ من فساد اقتصاد السوق المتحررة من القيود.

فالعدالة الاجتماعية، والحفاظ على البيئة، وصحة المواطنين، ومكافحة تشغيل الأطفال... لا يدرجها المنافحون عن السوق الحرة ضمن أجنداتهم بشكل جدي، رغم ما يمكن أن يصرحوا به حول رغبتهم في الحفاظ على البيئة، أو تحقيق الرفاه الاجتماعي؛ بَيْدَ أن معطيات الصناعة ومؤشرات الفقر قد تعصف بكل أكاذيبهم، وتجعلها حبيسة الصالونات والمؤتمرات الاقتصادية، ومن باب الوقاحة والنفاق الاقتصادي السياسي أن يتبنى منظرو السوق الحرة خطابا يمزج بين إباحة استعمال كل الوسائل –كيفما كان نوعها- للربح والأخلاق؛ وذلك في زمن ترزح فيه نسبة كبيرة من سكان الدول النامية تحت وطأة الفقر؛ إذ لم تصمد أسعار منتجاتهم الوطنية –المحلية- أمام تسرب سلع رخيصة الأسعار إلى أسواقهم المحلية؛ وذلك أمام عجز الحكومات عن تحريك آليات الرقابة لضبط الأسعار، وبذلك تظل الحكومات مشكلة في حد ذاتها، إذ يدفع مواطنو الدولة الوطنية ثمن وضريبة تخلي دولتهم عن مهامها.

وفي ظل سعيها الحثيث نحو السيطرة على الأسواق العالمية، وتكسير شوكة المنافسين، تقوم الشركات العالمية -العابرة للقارات- بالسيطرة على الفضائيات الإعلامية؛ بهدف شن حرب شعواء على شركات منافسة لها؛ لتلطيخ سمعتها مستغلة في ذلك موضوع الأخلاق؛ وذلك نابع من إدراك منظري السوق الحرة أن السيطرة على إعلام متعولم؛ معناه السيطرة على زبناء في كل القارات؛ لذلك كانت تلك القنوات سلاحًا فعالًا؛ لاغتيال المنافسين الاقتصاديين، والترويج لمنتجات قد تكون معدلة طبيعيا، ومضرة بصحة المستهلكين؛ الذين مارس عليهم الإشهار نوعا من الافتتان، وصدقوا العديد من الأكاذيب، والألوان، والصور المغرية - يستغل فيها جسد المرأة أبشع استغلال وبطريقة تتنافى مع الأخلاق- التي تُنْسَجُ عن طريقها يافطات إشهارية لا يصح من مضامينها إلا السعر المكتوب عليها؛ فقد أضحت الأسعار مُغرية؛ ولم يعد مواطنو الدول النامية يتساءلون عن نوعية ومكونات المنتوجات، ومدى ملاءمتها لصحتهم؛ بل يظل السعر الرخيص، هو محور تفكيرهم؛ كلما دخلوا السوق للتبضع.

لقد غيرت السوق الحرة عادات الشعوب والأمم، وأذنت التقاليد والعادات بالزوال؛ إذ أصبح نمط اللباس معولما، لم يعد للزي المحلي الوطني وجود كبير، لقد تغيرت طرائق الحياة وملامح المجتمعات؛ فقد أصبحت تتناسخ واحدة تلو الأخرى؛ بل تغير حتى نمط التفكير، فقد شجع منظرو الليبرالية انتشار الفكر الفرداني، واعتبار الذات مركز العالم؛ فغدت الجماعة والمجتمع المحلي في ذمة التاريخ.

وأمام تفشي ازدهار الأفكار الليبرالية، تم دق آخر مسمار في نعش التضامن الإنساني؛ إذ لم يعد الفرد يفكر في مجتمعه، أو حتى أقرب الناس إليه كجيرانه؛ بل أضحى تفكيره منحصرا حول ذاته، وسعيه نحو مواكبة تطورات العالم من موضة، وعادات، وموسيقى، وفكر يتجدد بتجدد السلع والتصنيع.

وتحولت الرياضة بكل بساطة إلى ميدان تتنافس الشركات لدعمه واستغلال ملايير المشاهدين، بدون سبق إنذار لهم؛ إذ غدت كرة القدم وسيلة لجعل ملايير من المشاهدين للقنوات الفضائية يتتبعون وصلات الإشهار؛ لمنتوجات تتسلل إلى كل أسواق العالم بحرية؛ بعد أن أضحوا رهيني تتبع المقابلات الكروية، خصوصا أمام تفشي نسب البطالة؛ بسب المنافسة الشرسة؛ والتي تؤدي إلى إفلاس المصانع؛ وتسريح آلاف العمال، لقد تم استغلال هؤلاء المشاهدين بكثير من الخبث ودون اعتبار لشرف الرياضة وأخلاقياتها، لقد أمست كرة القدم، اللعبة المفضلة لدى المسيطرين على الاقتصاد العالمي؛ رغم أنهم لا يمارسونها، ولا يتفرجون في أشواطها، إنها وسيلة سهلة لجلب الزبناء !!

أمام هذا الوضع، نجد أن مجموعة من المفاهيم فقدت معناها الأصلي والطبيعي في زمن السوق الحرة، ومن بين تلك المفاهيم نذكر:

-الحرية: حرية ملغومة لا تكشف أبدا عن الدوافع الأساسية من وراء التسويق الحر؛
-المساواة: انعدام المساواة في توزيع الثروات، وتنامي التفاوتات الاجتماعية؛ إذ صار لدينا ما يعرف بأغنياء العالم؛
-العادات: عادات متعولمة تتجه نحو الانحلال الأخلاقي.

أمام هذا الوضع، سيكون على سكان العالم، أن يطالبوا دولهم؛ باستحضار وصية "كينز" حول أهمية تدخل الدولة لتنظيم وتحديد الأسعار، وكذا إحياء الإرث الاقتصادي الأخلاقي لأب الاقتصاد السياسي "آدم سميت".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم


.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام




.. دلالات استهداف جنود الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم غلاف غزة


.. مسارات الاحتجاجات الطلابية في التاريخ الأمريكي.. ما وزنها ال




.. بعد مقتل جنودها.. إسرائيل تغلق معبر كرم أبو سالم أمام المساع