الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ساعات ساخنة في اوراق مسافر / 2

محمد نوري قادر

2011 / 6 / 11
الادب والفن


ولم يوجد ما يعكر صفوها سوى الأحمق وأحلامه البائسة وطموحاته المستحيلة وروائحه العفنة وما يحيطون به من أشباه رجال مدججين بالسلاح يأتمرون بأمره يحركهم كالدمى متى وأنى يشاء بإشارة من يده , يرعبهم مرآه , يرتجفون هلعا إذا ذكر أحدا باسمه بصوت عال , موبوءين بالعاهات ,لوطيين ,قرويين وأميين , حمقى حد اللعنة , طاعتهم عمياء , استحقوا السخرية من الجميع ولم يأبه لها احد منهم , يغتنمون الفرص لفعل كل ما هو قبيح ومقزز , متهيئون أبدا لطاعة سيدهم بامتنان والانقضاض على من لا يودّهم ككلاب مسعورة , ومن يروه خطر على تواجدهم المقيت وان لم يكن كذلك , فقط لإشباع غرائزهم الحيوانية , أو من يشير إليهم بالاتهام لما فعلوه واقترفوه , وما استباحوه لأنفسهم كما هو الأحمق , ولم يكترثوا لشيء إلا لشهواتهم الدنيئة , ولم يعنيهم من الأمر شيئا.
المنازل الممتدة على طول الطريق مكتظة بالآهات أحيانا ومتفرقة أحيانا كأنها لا تريد أحدا أن يسمع الأنين والوجع الذي يغمرها , تخلو من الأشجار الباسقة ,مبنية بترتيب عشوائي وغير منتظم تبدو للمسافر والغريب كما لو إنها معتقل تحتشد فيها العوائل بلا ماء صالح للشرب ولا كهرباء , تفتقر لأبسط حقوق السكن والعيش بما تستحقه , ولا تصلح ضمن القواعد للسكن حتى للحيوان في دول أخرى , كأنهم موجودين فيها ينتظرون مصيرهم المحتوم , ولا اعتقد إنهم راضين عنها , يعيشون فيها رغما عنهم , لا يوجد من يستطيع أن يمد لهم يد العون , ولم يستطع أحدا منهم أن يصرخ خوفا من الاعتقال ومن الموت بغتة وفي حادث مأساوي , أو من المقصلة التي طالت العديد منهم بلا سبب يذكر أو باتهام باطل لا أساس له من الحقيقة بشيء , إنهم ينتظرون فقط نهايتهم البائسة , ثيابهم رثة , فقدت بريقها وألوانها فقد استعملت سنين عدة ,أو لا يوجد بديلا لها , ذلك ما يبدو , وربما هي أصلا مستعملة ينتقونها من الباعة المتجولين المنتشرين في كل الأمكنة الذين يفترشون بضائعهم على الأرصفة وعلى عربات صنعت من الخشب لتجارة نشطت ولقيت رواجا وسوقا خصبة مفتوحة على مصراعيه . كان الجوع والإهمال فعل فعله القبيح حيث الصورة جليّة ولا تحتاج إلى أدلة أو براهين منظورة وواضحة , ولا تحتاج أيضا إلى عين ثاقبة لتفحصها والغور في أعماقها وخصوصا في الأحياء البعيدة عن المدينة , آه كم هي مؤلمة حقا , إنها تصيب من يراها ويتأملها بالحنق والكآبة , هي صورة للمأساة الحقيقية التي عاشها الإنسان في العصر الحديث بأبشع صورة لها وسط صمت مطبق وعهر قل نظيره في كل الأزمنة وفي كل الأعراف والمواثيق , يقابله الآخرين بسخرية واستهزاء , وكأن شيئا لم يحصل , مأساة كالأمواج المتلاطمة من الآهات تسمع عن بعد , لكن أحدا لم يسمعها , تخرج من الأبواب المهملة والشبابيك الصدئة المغطاة بقطع مرقعة من قماش بال . كيف يقضي هؤلاء الناس أيامهم ؟ أليس لهم حق كما هو للأخر ؟ كيف يقضون أياما في حرارة الصيف الملتهبة وأياما في ليالي الشتاء الباردة حين يكون الليل ساكنا وكئيبا وفي المطر بلا مدفأة أو نور يضيء بعض من العتمة إلا من زجاجة وضع فيها الزيت وتركن في زاوية؟! . كيف لا تعلم شعوب العالم إن مجزرة وإبادة جماعية لشعب اعزل تحصل ؟ هو لم يفعل شيء وليس له رأي بما يجري وما فعل الأحمق ,ورغم ذلك يعاقب , يعاقب لمعاقبة نظامه ويا ليت نظامه عوقب , هو فقط من عوقب ,يا للعهر , هو لم يختار نظامه , لم يكن له رأي فيه كما هي الشعوب العربية الأخرى لم تختار نظامها الذي تعشقه , كلهم متسلطون وكلهم فرضوا أنفسهم بالقوة وبالإكراه بمساعدة الآخرين الذين باركوا العقاب وصفقوا له , كما هو الصنم موجودا برضاهم, كلهم آه متى سيرحلون ويتهاوون كما هو الصنم . لا احد يطيقهم ,لا احد يعلم كيف هو الألم هنا , لا احد يشعر به , لا أحدا يكترث , إن الألم لا يشعر به المرء ولا يوجع إلا من أصابه الوجع , كله هراء ذلك الذي كنا نسمع به , كلها أكاذيب لها غايات غير معلنة ومبطنة , وما أكثرها قذارة حين تجد من هو متباكي على ما يجري أمام الملء . هل تجدي هذه الثرثرة نفعا ؟ ربما نعم . وشعرت بأسى بالغ يغمرني من الرأس حتى أخمص القدم حين لامست يدا يدي وصوت طفل اقشعر له بدني يطلب بتوسل المساعدة, آه كان طفلا متسولا بملابس رثة وهو أول من التقي , صعقت ولم أتمالك نفسي وأعطيته ما وقعت عليه يدي دون أن انبس بكلمة وقد هرول مسرعا ليختبئ خلف مكان آمن ليعد بفضول ما لا يصدق انه قد حصل عليه من غنيمة , ربما كان يترصدني وذلك شأن المتسولين عموما , لكني لم استطع المقاومة , رغم إني لا أحبذها ولا أجد لها صدى في داخلي . وتابعت سيري وسط قهقهات متعالية من مقهى كئيب يخلو من المقاعد لرجال يحتسون الشاي وقوفا ونظرات أخرى قلقة تتفحص القادم الغريب الذي وصل توا بملابس جميلة وحقيبة جلدية أنيقة إلى سيارة أجرة تنتظرني , سائقها يضغط بشدة على المنبه ليعلن لي انه ينتظر ويدا أخرى ملوحا بها , خرجت بعدها امرأة منها ,لم تستطع كبت انفعالها وعواطفها مسرعة تعدو باتجاهي لتحضنني بقوة , تارة تضحك وتارة تبكي ثم تمسح دموعها المتساقطة بغزارة بأكمام عبائتها , يا لسخرية القدر , عرفتها إنها أختي الكبيرة ولم اعرف إنها الصغرى التي تركتها تلعب عندما رحلت باتجاه الشمس
مغمورا بالأسى والفرح , معا صعدنا إلى سيارة الأجرة وجلست مع أختي في المقعد الخلفي , السائق هنأني بسلامة العودة يبتسم ويدمدم بكلمات لم اسمعها , واني لم أكن مصغيا لها , فزعا انظر ما أصاب المدينة على طول الطريق المؤدي إلى محلتي القديمة (الإسكان ) حيث لم يزل بيتنا كما هو وكما اعرف , ربما كنت من القلائل الذين توافدوا إلى المدينة , الأبنية جميعها لحقها الدمار, آثارها لم تزل واضحة جدا , كما لحقها الخراب أيضا على أيدي عبثت فيها ما شاء لها العبث وخاصة الأبنية والمؤسسات التابعة للدولة والحكومية , محترقة بشكل كامل مسلوبة محتوياتها حتى المصابيح ومفاتيح الكهرباء وبعضه محطم بكامله بفؤوس لم تزل حتى اللحظة لانتزاع الطابوق منه ونقله إلى مكان آخر , أو بيعه بعد تنظيفه بثمن بخس , بعض الجدران ملطخة بالدخان من الحرائق التي نشبت فيها , أسلاك الكهرباء مقطعة وسط الشارع وعلى جانبيه وضعت الأعمدة أيضا مما جعل مرور المركبات صعبا للغاية , ربما وضعت عمدا, وربما لم تجد من يزيحها عن الطريق , وربما لها غاية تخدم من وضعها ويريدها هكذا , فوضى عارمة تعم المكان برمته تشعر المرء بالأسى والقرف , لكنها لم تكن هكذا في نفوس الكثير , بل وجدت طربا له في نفوس أخرى وله ما يبرره نتيجة لما قد حصل , ولم يكن للأسف في نظرهم خراب , ثمة أمر خفيا للفرح لا يعرفه إلا من نزعت منه الأصفاد ولم يصدق إنها نزعت , أو يوجد آخر حطمها ,فلم يبال لما يجري لذلك هو فرحا يرقص , فرحا يغمره لأنه فجأة أصبح حرا وكما يحلم , لا يوجد ما يعكر صفائه بعد الآن , وله أن يفرح على طريقته ويعبر عنها بما يشاء وفي كل مكان حتى إن وجدت الرفض عند الآخر وما يشير إليه بأنه أبله , لقد رحل الخوف وولى عهد طمر حتى العنق بالوحل , كم يشعر المرء بالسعادة والزهو حين بغتة يحصل . الشارع وعلى طول امتداده مزدحما بتجمعات هنا وهناك بعضهم بعمر الزهور وبعضهم تجاوز الثلاثين عاما وأكثر , يحملون هراوات وسكاكين وأسلحة آلية ربما غنموها من المعسكرات القريبة منهم التي كان يجري التدريب فيها دائما وبالإكراه على تعلم فنون القتال تحسبا لنظام كان الخوف هاجسا قويا يهز أركانه مما سيحصل , يلوحون فيها بفرح غامر للمركبات التي تكون قريبة منهم . مندهشا جدا مما رأيت وكأنني في حلم وعالم آخر , لوحت لبعض منهم بيدي وأحيانا بابتسامة قابلني الكثير منهم بمثلها وأكثر , وكم شعرت بالفرح لأني وجدته تسلل إلى روحي وغمرني كما يغمر الماء حقول القمح , في عيون الجميع وحركاتهم الصادقة والعفوية وفي كل شيء تنطق به أقدامهم فاستسلمت له كله ولأمر مرهونا به , رغم الفزع والدوار الذي يلازمني كظلي حين تقع عيني سلاح مهما كان نوعه ومهما تعدد الغرض منه , لا ادري فانا امقته جدا منذ كنت صغيرا عندما قتل احدهم امرأة في إحدى أيام الصيف القائضة في محلتنا قيل إنها كانت تمارس الدعارة غسلا للعار كما يسمى في العرف العشائري ,ولم تكن كذلك , بل إنها أحبت شخصا وتزوجته رغما عن الجميع , لم يكن كذلك مستساغ طعمه عند الأهل, عموما هم فعلوا ما يجب أن يفعلوه , هكذا أصبحت لا أطيقه ولا حتى النظر إليه , اشعر منه بالنفور والاشمئزاز معا , ماسكا المقعد الأمامي بقوة ,كأن شيئا أخاف أن يفلت مني , رغم الألم في أصابعي , اتركها برهة ثم تعود مرة أخرى إلى مكانها حيث لا ادري , أغمض عيني أحيانا رغم الرغبة الجامحة لمعرفة كل التفاصيل التي تجري والمشاهد اللامألوفة ثم افتحها لأجد السائق في مرآته الأمامية ينظر إلي ويبتسم ,لا يعرف ماذا يجري في عروقي حتى نبضات قلبي أصبحت متسرعة جدا كأنها تريد لقلبي أن يخرج من مكانه , لم أقوى على الرد بما يجب فقد تلعثم لساني تماما , لم أقوى على أي شيء آخر سوى الرد بابتسامة مثلها مع شعورا بالحرج . مندهشا جدا وقشعريرة تسري في جسدي كله طول الطريق الذي لا يبعد سوى دقائق معدودة حتى ترجلت من السيارة وأنا أتلفت وابتسم كي اخفي ما انتابني من فزع .
لم تكن محلتي بمنأى عما يحصل , ولم تكن بيوتها بأحسن حال من البيوت الأخرى فهي كما عرفتها رغم بعض التغيير فيها ,بيوتا متناسقة جدا بنيت على طراز هندسي معماري واحد رغم الاختلاف في المساحة بين قسميها , أبوابها المتشابهة , الأسطح المتلاصقة بعضها مع البعض الآخر , أزقتها المنتظمة والمعبدة , شارعها الرئيسي العريض حيث اسكن , نظيفة جدا ومميزة في خدماتها والتي كان يشرف على خدماتها كشكول وغازي المنكرش ولهم مودة في قلوب المحلة ,- تختلف بعض الشيء عن المحلات الأخرى في المدينة , السراي الأم والأصل والبداية والسيف والشرقية والثورة والشعلة وشارع بغداد والإدارة المحلية ,- لأنها بنيت كوحدة سكنية مجتمعة في عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم وفي عهده تم توزيعها على الموظفين والعسكريين سواء , لمعت كما هي المحلات الأخرى بسخطها وغضبها عما يجري في أروقة ودهاليز الحكم المستبد بأفعاله ,بشبابها الثائر والعاشق للثورة والتغيير ,
أناسها طيبين للغاية , يعيشون فيها بألفة كعائلة ,منسجمين فيما بينهم حين يمس خطبا أحدا ما , كرماء تجمعهم المودة , وهي صفة غالبة تطفو على السطح في كل مدن العراق قاطبة ولها خصوصية في منطقة الفرات الأوسط والمناطق الجنوبية لها من الأسباب عديدة ومتنوعة لا مجال لذكرها الآن ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فقدنا الكثير
حسين طعمة ( 2011 / 6 / 11 - 18:38 )
الاخ الرائع محمد ...ماهي الا غصة في القلب ..ووجع في الذاكرة التي تأبى نسيان سنين اللوعة والخوف ولكن .........ماذا أكتنز لنا الزمن ..ثم ...ما الذي جاء بعد المكابدات والالام وجراح كان لها ما كان في حياتنا ..انه الوجع الذي سيبقى يؤرقنا وسنعيد الكرة من جديد= ..فهل يمكننا ذلك هل .....تحية لك .

اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل