الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دموع الشموع

دينا سليم حنحن

2004 / 11 / 9
الادب والفن


كل مرة أدخل فيها المدينة القديمة أزور كنيسة القيامة ، أُملي تسبيحاتي وعوزي لله، أقص حاجتي اليه، يُغرقني الشحوب فأبدو أمام الزائرين كطفلة تعاني اليُتم مكسورة الجناح.
كلما وطأتُ عتبتها غزتني دموعي وكأني في محفل خصص للبكاء، والأدهى من ذلك عدم سيطرتي على نفسي فتتحول رويدا رويدا الى بكاء لا يخلو من الشهيق والزفير. عيون الحجاج تحيطني فتشاركني ذاك الموكب فنبدو جميعا في محفل ( لبكاء صامت) .
نفسي تجد خلاصها داخل هذه المدينة المقدسة، تتعلق بهذه الجدران الدائرية المقدسة( ولست من المتشبثين بالعقائد الدينية، بل أنا دنيوية بحتة).
أتسرب بهدوء بمعية هواجسي حيث قبر السيد المسيح ، هي بضعة أمتار يسارا من الباب الخارجي الذي لا يوصد أبدا ، ليلا نهارا، صيفا شتاء.
كان طابور الزائرين يومها طويلا والصمت عميقا، الشموع المضاءة داخلا تمنحك الرهبة ، ومنظر الكاهن القوّام على هذا الركن من الكنيسة منهمك أشد انهماك بالزوار الكثر، تدور عيناه بينهم يتفحصهم، يراقبهم والشموع. وبين الفينة والفينة يُخرج من أحد المصابيح الخارجية المعلقة الفارغة، مكنسة صغيرة ومجروداً، يدخل بهما المقام ويخرج كلما دخل عدد من الزوار. أتخذتُ مقعدا رَكن في أحد الزوايا المقابلة أتابعهُ ، جففت دموعي وانهمكت بمراقبة ذلك البشوش الحائر، سألتُ نفسي مرارا، عما يفعله بهذه المكنسة الصغيرة ؟
انتظرتهُ حتى خرج من الحجرة الضيقة التي لا تتسع الا لنفر واحد أو ربما لأثنين، ضمت قبر المسيح الذي غطيَ بقطعة من الرخام الأبيض، عُلّقت الأبخرة في السقف المنخفض وامتلأت الشمعدانات بالشموع المضاءة ، وكاهننا الكهل منهمك كل حين بتنظيف لوح الرخام من الرمل الأصفر المتسرب من الشمعدانات المليئة بهِ بينما أيدي الزوار تتلاحم على اشعال أكبر كمية منها.
اقتربتُ اليه ضاربة عرض الحائط تنبيهه بعدم دخول أحد ريثما ينتهي من مهمتهِ في التنظيف المستمر للرمال التي لم أستطع رؤيتها بسبب النور الخافت المضاء، حتى اني استعنت بأناملي أتحسسها للتحقق، لمست الرخام البارد للتأكد واذا به ينهاني:
- " احذري لئلا تبلل دموعك الرمال فيتحول الرمل الى وحل فيصعب عليّ تنظيفهُ".
اهتز الشمعدان في الزاوية المحاذية للقبر واهتزت بمعيته الشمعات، ارتجف النور داخل الحجرة الصغيرة، اتكأ الكاهن على ركبتيهِ يطلب الغفران وأنا أقف كصنم بجانبه أراقبهُ. ارتجفتْ يداهُ ودمعت عيناهُ، تمتم بكلمات الصلاة بلغة يونانية، ركع أمام القبر وخرج بعد لحظات ، خطواته خلفية ووجهه يقابل المقام، مطأطيء الرأس يمنح الزوار حق الدخول ، تسمّر مكانه يغلق عينيه خاشعا.

هي أسابيع قليلة تخلفت عن الزيارة، حتى لو لم أتمكن من دخول المكان فيكفيني المسير داخل أزقة مدينتي الجريحة. بحثت عن الكاهن فلم أجده،ُ استدرت داخل المكان عدة دورات، بحثت عنه في الزوايا الأخرى للكنيسة، (فهي لمن لم يزرها مقسمة لعدة طوائف) وما يزال التنقيب عن آثار جديده جاريا ويقوم الرهبان بحراسة المقامات المفتوحة يقيمون الصلاة بالتبادل في جميع الأركان، فتبدو الكنيسة كمدينة بحد ذاتها تقوم على تلاوة الصلوات والخشوع فقط ، بعيدا عن الاضطرابات السياسية، مع أن الجيش يتسكع داخلها بحجة استتباب الأمن فلا يعيق المهام الملقاة على كواهل رجال الدين.
التقي بحسن النجار أحد شبان حارتنا يعمل مرشدا سياحيا ، يتجه نحوي يطمئنني بأن الزائرين قليلون هذا اليوم ويمكنني زيارة أي مقام بحرية والاختلاء بالسيدة العذراء وحدي ممكن بل ضروري، دون عيون المتطفلين المتسائلين. اعتليت السلالم المنحرفة الضيقة بحثت في الأركان عن الكاهن اليوناني وكان غيرهُ أعرفهُ . ما تزال الدموع تترقرق من عيني السيدة العذراء منذ حرب الأيام الستة ، محاطة بألوان الذهب الخالص المهداة من المعذبين والمحرومين، مؤطرة بزجاج سميك مسلح.
أشار لي حسن بيده مودعا يكمل عمله ، الارشاد بأماكن أخرى مقدسة، فهذه لقمة العيش التي يعتاش منها منذ ربع قرن .
كان قد انتهى من فوج سياحي ايطالي بينما قمت بزج ورقة بكلمة تُضَم مع عشرات الأوراق في شق عمود الباب الخارجي ، شقٌ عمره ينيف عن الفي سنة. هي ذات الكلمة ، مكتوبة ومطوية بأكبر قدر من الطيّات.
رجعتُ أدراجي حيث صمتُ بائعي الحوانيت السياحية، كان قد أرهقهم طول الانتظار لدخول أحد المشترين. مررتُ بأزقة خالية من الناس ، انحرفتُ من زقاق لأحط في آخر، حتى وصلتُ الى السوق الشعبي القائم داخل زقاق طويل ضيق، مكتظ بالحوانيت، يهيم بلغات العالم وأنا أهيم بأفكاري نحو ذلك الكاهن الذي رجع من حيثُ أتى، يبطل دورا عاشهُ كي يسترجع دورهُ السابق، يمزج ، يسكب، يخلط ، يمسح منضدة خشبية في خمارة، يلمّع الكوؤس ويعلقها بحيث تحيط البار، يخدم النزلاء الأغراب منهم والمقيمين، يشعل الشموع ويحافظ على عدم إطفائها، يدير الشمعدانات بين الفينة والفينة فتحدث انبهارا ضوئيا يميز المكان، تلمع عيناهُ بالأضواء الملونة، وبين نزيل ونزيل يهيء الكؤوس لنزلاء جدد، يركع تحت المنضدة يأتي بأنواع الخمر، وبخطوات سريعة في مكان ضيق يأتي بأنواع أخرى، وعندما يقابل الزبون ينهمك بملءِ الكأس وهو مطأطيء الرأس، ينحني اليه فيقترب منهُ يتمتم بكلمات تدعو الاثنين الى الضحك المستمر، يصخب المكان وتعلو الموسيقى، وتدمع العيون بسبب الدخان وأضواء الشموع داخل الشمعدانات المعلقة.
ربما تدمع عينا السّاقي على الماضي والحاضر على السواء! وربما تدمعان بسبب ضحكاته المتواصلة وربما الشمعدانات التي تحمل الشمعات في المكانين الضيقين هي سبب كل هذه الدّموع.

دينا سليم – فلسطين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر


.. فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية




.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال