الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة لوحة شهيرة واحدة وحالة كنوزنا الفنية القديمة والحديثة

أحمد الناصري

2011 / 6 / 16
الادب والفن


قصة لوحة (جولة ليلية) أو ( الحرس الليلي ) الشهيرة للرسام العالمي رامبرانت، و( للوحة تسميات أخرى، وجميعها لم يضعها الفنان )، هي قصة مثيرة ومعبرة في إنجازها وقيمتها الإبداعية الراقية ومكانتها في عقول وقلوب الهولنديين والرسم الهولندي والعالمي، وطريقة المحافظة عليها من المخاطر التي هددت هذا الأثر الفني الكبير، وبناء متحف خاص بها، مع توفير كل تقنيات الإنارة الحديثة وفضاء وضع اللوحة المناسب وإمكانية النظر أليها ورؤيتها بشكل صحيح وسليم.
وحسب سجلات قيادة الحرس الملكي الهولندي لعام 1653، فأن تلك القيادة كلفت ستة من الفنانين المشهورين لرسم سبع لوحات عن دورية الحرس الملكي الليلية، وقد خصصت الأماكن المحددة لتعليق كل لوحة في مقر الحرس الرئيسي، ونفذ رامبرانت لوحته بطريقة غير تقليدية، وسكب فيها مشاعره في حركة وموقع كل شخص موجود في اللوحة حسب مكانته الاجتماعية، وخلق نشاطاً غير اعتياديا فيها، من خلال تقنيات الضوء والظل الخارقة التي يمتلكها وإمكانيات الإضاءة التي يستخدمها في أعماله، الى درجة حيرت خبراء الإضاءة لاحقاً في كيفية التعامل مع اللوحة، وقد أستبدل وصحح مكان وطريقة الإضاءة بعد مائتي سنة، وأدخل رامبرانت عناصر من خارج تركيبة عناصر الدورية الليلية، فقد رسم الطفلة الجميلة، وسلط عليها كمية من الضوء الباهر رغم عدم وجودها في مقدمة اللوحة تماماً، لكي يعطي لها مكانة خاصة مقصودة في الموضوع، ويكسو اللوحة بطابع إنساني قريب وطبيعي، كما وزع الضوء حسب مكانة وأهمية الأشخاص في موضوع اللوحة الذي يريده هو، وليس حسب موقعهم من الضوء.
لقد قصدت بهذه الكلمات القليلة التعريف السريع والعابر بهذه اللوحة الشهيرة، لكي أتابع مصيرها وكيف حافظ عليها الهولنديون من مخاطر التدمير والتلف، لأسباب بيئية ومناخية وتخريبية او عسكرية، خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد أضطر المشرفون على اللوحة نقلها الى منطقة آمنة ومحصنة في محيط مدينة أمستردام، وهي أشبه بملجأ محصن لمواجهة القصف الإستراتيجي والنووي، ولما أقترب جيش الاحتلال الألماني من مدينة أمستردام جرى نقل اللوحة الى جنوب هولندة، ووضعت في مكان آمن بعيداً عن خطر التدمير جراء العمليات العسكرية والاحتلال الألماني، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أعيدت اللوحة الى مكانها القديم، ولكن تطلب ذلك إدخالها الى بلجيكا في رحلة بالقوارب، وهي المرة الأولى التي تخرج فيها قليلاً خارج وطنها الأصلي هولندة، وقد رفعوا شبابيك المتحف كي تدخل اللوحة من جديد بسلام الى مكانها المحدد، وهكذا جرى تنفيذ عملية معقدة لحماية هذه اللوحة الشهيرة من التدمير او المصادرة من قبل المحتل أثناء الحرب العالمية الثانية.
لكن قصة حماية اللوحة لم تنته عند هذا الحد رغم خطورته وجسامته، فقد تعرضت عام 1975 في متحف ركس للتشريح والتخريب على يد رجل مهووس ومختل، وتطلب إصلاحها الى عمل وجهد 100 شخص من المختصين بفن رامبرانت، وبعد ثمانية شهور من العمل الدقيق استطاع فريق العمل إعادتها الى وضعها ومكانها السابقين، وتمكن الجمهور مشاهدة عملية الترميم والإصلاح من خلال زجاج الشبابيك الكبيرة التي أعدت لهذا الغرض، ثم تمكن مختل آخر أن يتجاوز الحراسات والإجراءات الأمنية ويرمي مواداً كيماويةً على اللوحة ويحدث فيها تخريباً خطيراً رغم الإجراءات الوقائية السريعة للتقليل من حجم التخريب، وقد استطاع الخبراء من إعادة اللوحة الى وضعها الأصلي، وهي موجودة الآن في متحف ريكس، باعتبارها من أشهر اللوحات العالمية.
لابد من الإشارة الى أهمية الرسم والتشكيل في عموم تجربة النهضة الأوربية والتجربة الهولندية بشكل خاص، ودور الرسم والمعمار معروف في تكوين ذوق راقي وهاديء في الحياة والعمل والمجتمع، في المدن والريف.
أما قصة كنوزنا الفنية والتاريخية القديمة والحديثة، فهي قصة مأساوية وحزينة، والحديث عنها ذو شجون، رغم أهميتها وقيمتها التاريخية والعالمية المعروفة، ورغم مساهمتها في تكوين العقل والتاريخ البشريين، منذ مغامرة العقل الأولى في بلادنا، واكتشافاته العلمية الكبرى، التي ساهمت بنقل البشرية من عصور ما قبل التاريخ أو العصر الشفهي الطويل غير المدون، الى العصر التاريخي المكتوب والمسجل، أو العصر الواعي الجديد.
لقد تركت آثارنا الكثيرة المطمورة تحت الأرض العراقية نهباً للصوص والشذاذ، في البصرة والناصرية وبابل والسماوة وبغداد وأعالي الفرات وجمجمال وسهل شهرزور والموصل، وجميع المواقع الآثارية الأخرى المكتشفة وغير المكتشفة، وهم يجوبون هذه المواقع الآثارية المهجورة والمتروكة من دون حماية أو حراسة، وينبشونها بطرق بدائية غير متخصصة، بواسطة أجهزة استكشاف متطورة، كما جرى نهب وتدمير المجموعة الثمينة المكتشفة والموجودة في المتحف الوطني العراقي والمتاحف البسيطة الأخرى في المدن، تحت أنظار قوات الاحتلال منذ الساعات الأولى لدخول بغداد، ولم يجر تأمين المتحف الوطني رغم الدعوات الداخلية والخارجية لتأمينه قبل وأثناء الحرب والاحتلال، مثلما أمنت وزارة النفط مثلاً. وقد اجتاحت المتحف الوطني عصابات منظمة قادمة مع الاحتلال ونهبته، وخربت ما لم تستطع نقله بطريقة تخريبية مدروسة، الى جانب عصابات داخلية أخرى استغلت الفوضى العارمة وسقوط وتلاشي مؤسسات الدولة بالطريقة المعروفة بعد الغزو مباشرة لتقوم بعملية النهب والتخريب الواسعة، كما جرى إحراق وتدمير دار الوثائق الوطنية بكل كنوزها الثمينة، ثم جاء دور مركز الفنون، الذي يظم الأعمال الفنية الحديثة للرواد والفنانين الشباب، وسرقت وأحرقت لوحات وأعمال نادرة لعبد القادر الرسام وعاصم حافظ وحافظ الدروبي وجواد سليم وفائق حسن وخالد الجادر وخالد الرحال محمد غني حكمت ونوري الراوي وشاكر حسن آل سعيد وكاظم حيدر وإسماعيل فتاح الترك ورافع الناصري ومحمد مهر الدين وعلي طالب وغيرهم من سلسلة الأسماء الذهبية للفنانين الكبار والفنانين الشباب والجدد الذين لديهم أعمال فنية في المركز، الى جانب نهب وتدمير جميع المؤسسات الثقافية والفنية والإعلامية الأخرى وتخريب الجامعات والمراكز العلمية والثقافية والمسارح ودور السينما والرقص، بعدها جاءت جريمة تدمير شارع المتنبي الثقافي، لتخريب أكبر مركز ثقافي شعبي في بغداد، وأخيراً وليس آخراً اقتحام المكتبة الوطنية هذه الأيام من قبل مجموعة من الجنود وتحويلها الى مركز عسكري مما يعرضها الى عمليات عسكرية مضادة، والمكتبة الوطنية صرح ثقافي نادر لا علاقة له بالصراع القائم، أو هو من الأماكن التي ينبغي تحييدها وحمايتها حماية خاصة واستثنائية، وليس تحويلها الى ثكنة عسكرية.
لا جدال في خطورة هذه الأعمال التخريبية المقصودة التي تسعى الى تخريب وتشوية الذاكرة التاريخية وتدمير الثقافة الوطنية العراقية، التي تكشف الموقف من الثقافة والمثقفين، ومحاولة إبعادهم وإقصاءهم من المشهد الجاري عرضه في بلادنا، إلا من وافق وتوافق مع المخطط التخريبي العام، الذي نفذه الاحتلال ومساعديه، رغم كل سيول التبريرات والفذلكات والمزاعم الركيكة.
في الأخير نذكر من يحشر تجارب اليابان وألمانيا ويسقطها على الوضع العراقي بشكل تعسفي مفتعل، في مقاربة غير مستقيمة وغير منسجمة مع الوضع في بلادنا، ولا مع مخطط الاحتلال وعملاءه، ولا مع الظرف التاريخي السابق أو الحالي الذي تمر به البلاد، من أن الثقافة والكنوز اليابانية والألمانية لم يجر تدميرها ونهبها بالطريقة التي نفذت في بلادنا، ولم يجر استبدال قيم الثقافة الوطنية العامة بتوجهات طائفية مغرقة في الجهل والتخلف والانحطاط، يجري فرضها والسكوت عنها بذرائع وحجج أكثر تخلفاً وانحطاطاً، وهكذا استطاعت التجربة اليابانية والألمانية أن تنهض لأسباب عوامل داخلية بالدرجة الرئيسية، منها قوة وعمق التقاليد الثقافية اليابانية، و( الانغلاق ) الفلسفي الألماني الشديد، وإعادة بناء ألمانيا بالطابوق والحجر والسكراب القديم، قبل الشروع بتنفيذ مشروع مارشال، بينما أدعى بعض من جماعة( التحرير والعراق الجديد) وبغباء وصلف قل نظيرهما، وهم يدورون في نشوة ( النصر) المزعوم، من أن أحجار المتحف المنهوبة هي أشياء بلا قيمة أمام منجز( التحرير)، رغم إنها أحجار ناطقة، وذاكرة عراقية أصيلة وحية، مليئة بالحكمة والقيم الإنسانية الراقية، وقام قسم آخر من الغوغاء بنهب وتهريب كل المواد الأساسية الثمينة وغير الثمينة الى الخارج، بالتنسيق والتشجيع من قبل أجهزة مخابراتية، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين التجربتين.
إذا كانت عملية حماية لوحة واحدة، هي لوحة ( الحرس الليلي ) الشهيرة لرامبرانت، تمثل استمراراً للحظة مشروع عصر النهضة وراهنيته وحضوره الكبير في تفاصيل الحياة الأوربية، واعتراف وتمسك بذلك المشروع العظيم، فإن ما جرى لكنوزنا التاريخية والفنية العظيمة هو تعبير مكثف عن لحظة الضياع والخراب والانحطاط الذي نمر بها، إنها لحظة إقصاء الذاكرة والتاريخ والثقافة الوطنية واستنهاض الرذيلة ومحاولة قتل الأمل وسحق الحلم وإشاعة النكوص الحسي والبلادة الروحية، لتمرير وفرض مولود الاحتلال المشوه ونتائجه العرضية الخطيرة الأخرى.
من هنا تبرز أهمية الجبهة الثقافية الوطنية في المعركة المصيرية الدائرة بين الوطن وبين أعداءه، يقدوهم ويدلهم احتلال استعماري، عسكري وثقافي غاشم، يسعى الى القتل القمع والتنكيل والاستغلال والنهب وتسطيح وعزل الثقافة واستبدالها بما هو هجين ومشين، لتسهيل عملية السيطرة على الإنسان والوطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا أعرف
عبد الرزاق حرج ( 2011 / 6 / 16 - 12:06 )
لماذا أختفت مقالتك عن الضحية داخل ..بهذه السرعة ..أعتقد من المعتاد تبقى أيام عديدة المقالة على لوحة الجريدة ..مع التقدير


2 - المقال موجود على الصفحة الأولى
أحمد الناصري ( 2011 / 6 / 16 - 12:52 )
عزيزي عبد الرزاق حرج
المقال عن الشهيد داخل فرهود لم يزل موجوداً على الصفحة الأولى، وهاأنذا أنشر التعليق في المكانين. ولا اعرف كيف تجري عملية تحريك وبقاء المواد، فهل هي حسب قيمة وأهمية المواد، أم إن المواد الجديدة تدفع المواد السابقة الى الخارج؟؟
تحياتي

اخر الافلام

.. اعتبره تشهيرا خبيثا.. ترمب غاضب من فيلم سينمائي عنه


.. أعمال لكبار الأدباء العالميين.. هذه الروايات اتهم يوسف زيدان




.. الممثلة الأسترالية كيت بلانشيت في مهرجان -كان- بفستان بـ-ألو


.. مهرجان كان 2024 : لقاء مع تالين أبو حنّا، الشخصية الرئيسية ف




.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول