الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابهام

ايناس البدران

2011 / 6 / 19
الادب والفن


إينما وليت وجهك فثمة جدار يفتح في العقل اكثر من كوّة للسؤال .. كلها مطليّة بالبيج كيما تهوّن ساعات الانتظار .. قيل ان الانتظار انتحار ، على هذا الاساس .. هي قضت العمر انتحارا ، الانتحار حرام ، كذا الزنا وقتل النفس ، وخير ما يصنعه المرء في حياته انتظار الفرج ، ولكن الانتظار انتحار ! .. وقد يفتح ابواب التساؤل والأسى على ما كان وما هو كائن وما سوف يكون ، تزمّ شفتيها ، قد يكون محطة للتأمل واعادة النظر .. تنقّل بصرها في اركان وزوايا الغرف المخصصة للانتظار ، همست في سرّها :
- نشغل انفسنا بإنتظار جودو الذي لن يأتي في الغالب متشاغلين به عن التمتع باللحظة الراهنة.
تتنهد بصوت مسموع " هي انتظرت اشياء كثيرة لم تحصل إلا على النزر اليسير منها ، لم تمنحها السعادة بل على العكس ، إذن نحن نقضي العمر في انتظار اشياء قد يشقينا حدوثها مثلما يشقينا عدمه . "
تنقّل بصرها بين الاجساد المكوّمة حولها ، اكداس بشر تجد نفسها مرغمة على التعاطف معها يربطهم الالم يجمعهم الملل والتصبّر والتأمل داخل الذات وانتظار الجرّاح المشهور المشغول جدا . تتذكّر زيارتها الاولى قبل سنين لعيادته حين اقبل بقامته المديدة وبقسمات وجهه الواثقة ، ها هو يطل من جديد بعينيه السوداوين .. شعره الفاحم الغزير هو نفسه لم يتغيّر .. الانتظار لايشيخ .. وحدهم المهمشون المهشمون الآيلون الى التداعي ، ناطحو جدران المستحيل بقرون استشعارهم الرخوة المهددون بالموت من خضّة او بصقة ، المتحولون الى اشخاص لانعرفهم لو رايناهم في الطريق او قابلناهم في الطريق لما فكرنا بإعادة النظر اليهم المنقلبون الى كراكيب كلما تقادمت بها السنوات .. وحدهم يشيخون .
تهزّ رأسها فترتيبها في قائمة الدخول الحادية والعشرين .. للسبب ذاته ربما بدأت السكرتيرة بإدخالهم ازواجا لافرادى كما في السابق ، بمعدل عشر دقائق بين فتح الباب واغلاقها ، وبحسبة بسيطة هي لن تدخل قبل ساعتين الا ربعا ، واذا اضفنا دخول البعض ممن يطلعه على دواء او تحليل تكون المدة ساعتين بالتمام والكمال ، يضاف لها اربع ساعات على كراسي الانتظار ظلو خلالها يتبادلون الاعراض والوصفات والنظرات .. المرأة التي امامها عجوز لكن اسورتها شابة بقربها سلّة مهملات ظل يرمى بها بقايا طعام و نفايات حتى امتلأت ، يقطع تأملاتها شحاذ وجدته امامها فجأة متخذا وضع الشحاذة بإنحناءة ظهره و بيده القذرة الممدودة بلزوجة ووجهه المحتقن من ادمان الكحول مرددا بلا احساس الكلمات ذاتها
- حسنة قليلة تدفع بلاوي كثيرة .. الله يشفيكم .
- ويشفيك . ردّت عليه ببرود .
يدور في الغرفة الموحشة يجمع ما تجود به الايادي.. ولكن هل تجوز الصدقة على امثاله ؟؟ يختفي بإسماله ، لعله يضحك بسره منّا الان ، باعنا كلاما لايفقه معناه وأخذ مالنا ليسكر به .. مثله امثال اعداد لاحصر لها من اللصوص المنبثين في كل شيء وكل مكان بعضهم رثّ الهيئة والآخر يظهر في التلفزيون ، منهم الشقاوة الذي يسرقك بالقوة ، ومنهم النصّاب الساختجي الذي تتوسل به كي يأخذ نقودك ، ومنهم من يسرقك وينظر لك بإزدراء وتعالي !!.. لصوص من كل نوع ولون وإن اختلفت الازياء والسحنات يتكاثرون كفيروس الايدز .
لم تكن تعلم ان الدنيا تعجّ بهم حتى دخلت معترك الحياة .. السرقة عندهم بزنس وشطارة وتخصصات !! .. هناك من يسرق الكحل من العين ، وهناك من يسرق الاحلام .. او النقود.. او طمأنينة الانفس .. او يسرق الايام ، لتصرخ في النهاية كالملسوع : لقد سرقت يا ناس . وهم ليسوا كهذا الشحاذ البائس الذي يثير اشمئزازك ويستدرّ عطفك لتنفحه بالفتات خلاصا من لزوجته . هم في الغالب محترفون قلّما تطالهم يد القانون لأنهم يلعبون خارجه او فوقه او به ومن خلال ثغراته دون ان يتركوا اثرا ، وعند احساسهم بالخطر يختفون .
شعرت بالارهاق يهدّ اوصالها ، وبالصداع يطوّق رأسها الذي يعمل طوال الوقت كماكنة " فول سبيد " .. تساءلت في سرّها " هل يفكّر كل من حولها بالطريقة ذاتها ؟ " .. يقال ان عقل الانسان تمرّ فيه عشرون الف فكرة على الاقل باليوم الواحد ، والمزعج انها تعاود الظهور احيانا ككوابيس عند النوم .
كانت عيناه السوادوان الواسعتان مسمرتين بوجهها .. خمّنت في سرها ان الجرّاح يشك في قواها العقلية ، فطلبها يعدّ بطرا .. ترفا مقارنة بما يمرّ عليه يوميا عليه من حالات صعبة و مستعصية .
- لا أحب شكل إظفر إبهام قدمي اليسرى .. ارجوك اقتلعه ببنج موضعي كيما يصبح شبيها بنظيره الايمن .. انه يحرمني من ارتداء الاحذية الصيفية المفتوحة .
أتاها صوته هادئا وهو يتأمل الابهامين :
- أ لم تجرّبي طلاءه بطلاء الاظافر ، لن يلحظ احد الفرق .
- جرّبت وظل الفرق واضحا لي .. بل قد حاولت ما هو اكثر من ذلك ، قصصت اجزاء من الاظفر الايمن حتى سالت منه الدماء ولكن دونما جدوى .
يتنهد كأنها نجحت في ادخاله دوّامة حيرتها ، فبدى لوهلة وكأنه نسي كلّما حوله من أنّات وسعال وأنين لاينقطع . مدّت يدها بحركة مفاجئة :
- هذه اشعة . آه .. وهذه نتائج تحاليل كان قد طلبها من طبيب الباطنية العام الماضي ، لم اجد وقتا للقيام بها الا الآن . قلت ان تطّلع عليها بالمرة وأكون شاكرة .
- ما هذه ؟؟ تساءل وإمارات الجد بادية على وجهه . أريد منك تكرارها .. اريدها بأسرع وقت .
غادرت العيادة متمتمة في سرها " هذا الرجل دائما على عجلة من أمره ، يريد ان ينتهي منّي ليعود الى بيته ، لعله يحاول اخافتي كي لا ازعجه في المرة القادمة .. أم ان هناك ما يدعو للقلق ؟" .. في رأس الانسان تمرّ أكثر من عشرين الف فكرة في اليوم ، ستتردد هذه الفكرة بالتأكيد من ضمنها في رأسها كل يوم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بس شنو هو سبيد
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2011 / 6 / 20 - 14:54 )
تاءلمت جدا وانا اقراء هذا النص-انا اسبقك بجيلين او اكثر
ان التحجر القلبي عم اوساطا واسعه من مجتمعنا المسكين
ويظهر انه وصل الى الكتاب
واذا تحجرت الاحاسيس عند الكتاب ايضا فاءقراء على العراق السلام
ماهو رجاء سبيد هل لم يكن مودودا او لم يكن في الاستعمال قبل مثلا ستين
سنه حينما كنت في عمر الكاتبه-الله والنص اعلم

اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي