الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نماذج من المسرح الروسي - (بيرغونت) إبسن على مسرح (لينكوم) الروسي

ابتسام يحيى الأسعد

2011 / 6 / 20
الادب والفن


نماذج من المسرح الروسي

المسرح التأليفي أو المسرح الشامل


(بيرغونت) إبسن على مسرح (لينكوم) الروسي د. ابتسام الأسعد

يعزى اهتمام مخرجي المسرح في العالم بمسرحيات الكاتب النرويجي (هنريك إبسن) للموضوعات التي تناولها هذا الكاتب في أعماله المسرحية. فعلى الرغم من تطرقها لقضايا محلية، تناول فيها المؤلف المشكلات النابعة من واقع المجتمع النرويجي، إلا انها تشكل نموذجا للاشكالات التي تعيشها اغلب المجتمعات في العالم، ولهذا فقد امتلكت هذه المسرحيات صفة العالمية. وقد تركزت المسائل التي طرحها (إبسن) في صراع الإنسان مع عادات وتقاليد المجتمع، التي تزداد تعقيدا بشكل مضطرد مع تطور المجتمعات وما يشهده العالم من إحداث سياسية واجتماعية واقتصادية. ومن هنا يمكننا القول أن مسرحيات هذا المؤلف تمتلك صفة التجدد والديناميكية. ولذلك ومنذ القرن الماضي لغاية الآن، تلقى هذه الأعمال اهتماما عالميا، ويتسابق على إخراجها العديد من المخرجين من مختلف أنحاء العالم.


فقد قدم المخرج الروسي (مارك زاخاروف) عرض مسرحية (بيرغونت) على مسرح (لينكوم) في موسكو، ويعزى ذلك للشخصية الرئيسية المثيرة للجدل في هذه المسرحية. فعلى الرغم من الطابع الفولكلوري لهذه المسرحية، التي تعد نموذجا للإنسان النرويجي بسلبياته وايجابياته، إلا أنها امتلكت شخصية كونية في كل تداعياتها. فقد جمع المؤلف في شخصية بطله بين الحقيقة والخيال وادخله في عوالم السحر والغموض والجنون، في سعي نحو البحث في العوالم المتخيلة والمكتشفة من اجل الوصول لمعرفة الذات. وقد جسد الكاتب الأزمة النفسية التي يعيشها البطل في سلوكه الأقرب إلى تصرف مجنون، حينما عاتبته أمه على كسله وخسارته بعدم اقترانه بحسناء ثرية، تعتزم الزواج من شاب آخر بعد أن يئست من ارتباطه بها، مما يدفع البطل للذهاب إلى العرس وخطف العروس والهرب بها حيث البرية ثم تركها، على الرغم من انه قد التقى في الحفل بفتاة جميلة (سولفيغ) وأعجب بها. هذا السلوك البعيد عن المنطق العقلاني يجعل منه مطارد، ويدفعه للرحيل من مكان إلى آخر، وارتكاب المزيد من الحماقات، التي تقود حياته للمزيد من التعقيدات، عندما يتزوج من ابنة الملك حين يصل إلى جبال دوفر، لكنه سرعان ما يهجرها بدورها، من دون أي سبب واضح ويتجه بعيداً.
ان البحث عن الذات الضائعة للبطل تقوده في رحلة إلى الغابات حيث يعيش حقبة سعيدة من حياته، خصوصاً أن الحسناء (سولفيغ) التي كان التقاها أول المسرحية وأحبته، تلاقيه هناك، ويعيش الاثنان معا لوهلة. غير أن القدر يتدخل هذه المرة بوصول ابنة الملك، التي عرفت مكانه وجاءت لتنتقم منه على هجره إياها. فيهرب ليصل هذه المرة إلى حيث تعيش أمه المحتضرة. وهنا يفاجئنا البطل انه لا يغرق في الحزن، بل يسعى للتخفيف من شعورها بقرب انتهاء اجلها، ويقنعها بأنه سيرافقها في رحلة وسيوصلها إلى باب الفردوس الساحر حيث سيكون مستقرها. وهنا تتكشف صفات البطل المتناقضة، فهو يجمع بين الإنسانية والحنان حينا والقسوة واللامبالاة حينا آخر.
كما ويكشف الكاتب عن أزمة الاختيار لدى الشخصية الرئيسية، مظهرا ضعفها والمشكلات النفسية والاجتماعية والحياتية التي تتعرض لها، هذه الأزمة التي تشكل جوهر الوجود الإنساني للفرد. فبعد أن يفقد البطل والدته يشعر بالخواء، وانه يعيش من دون أي هدف واضح، فيبدأ بالترحال من جديد، الذي يأخذه من مكان إلى آخر، فيصل إلى شمال أفريقيا حيث يعيش ردحا من الزمن في غرام راقصة سرعان ما تستولي على ما لديه من مال وتهرب. وتذهب روح المغامرة بالشاب إلى القاهرة، لكنه هناك يجد نفسه مسجوناً مع المجانين. بعدها يكون قد تعب من رحلاته العبثية فيعود إلى النرويج وقد قرر أن يستقر هذه المرة مع حبيبته (سولفيغ) التي ظلت مغرمة به وفي انتظاره. وهو ما يدعوه أخيراً لمعرفة أن الحب قد يكون سبباً للعيش وهدفاً لكل الحياة.

ان الملامح العامة لشخصية (بيرغونت) مثلت محور اهتمام المخرج الروسي (زخاروف)، حيث يرى "ان البطل لا يتفاعل مع شخصيات المسرحية، لكن مع الكون بأكمله، وان ما يحيط به من عوالم هو الشريك الأساسي له، فالعالم يتحول نوعيا ويهاجم إدراكه، وهو يتعامل مع كل ذلك بابتسامة، لأنه يبحث عن طريقه الخاص وسط كل ذلك. داخل شخصية البطل ليس نوع واحد من الجنون، وهو لا يعيش بالتداعيات الفلوكلورية، ولا يقبع الجنون وحده داخل الشخصية، بل الشراسة والفظاظة والجرأة والاستسلام". لقد نبع اهتمام المخرج بهذه المسرحية لأنه يجد نفسه في شخصية (بيرغونت)، فهو يرى أن الحياة ليست نهائية، فمن الممكن رؤية الحياة كرقعة شطرنج، وعندما يمضي الإنسان في حياته، يعرف على أي مربع من قطعة الشطرنج قد مر. المهم هي البداية الصحيحة، لكن الأهم أين هي البداية؟ وهي النقطة التي يحاول البطل الوصول إليها كي ينطلق في حياته.

مثلت حكاية المسرحية المفعمة بالخيال بيئة خصبة للمخرج (زاخاروف) في اخراج هذا العمل بطريقة مبتكرة، وقد دفعته أجواء السحر والخيال إلى الاستعانة بمخرج الباليه (اوليغ غلوشكوف)، لوضع لمساته الفنية على مشاهد عديدة في العرض، قرر المسرحي (زاخاروف) ان يجعلها راقصة ليمازجها مع الحركات التعبيرية والأفعال الدرامية والأغاني والموسيقى الحية التي كانت تعزفها فرقة موسيقية تجلس في الجانب الأيمن أسفل المسرح. فقد عمل (زاخاروف) مع مخرج الباليه في جعل كل هذه الفنون تتآلف معا في وحدة درامية ليشكل كل مشهد محطة من المحطات التي مرت بها الشخصية الرئيسية في رحلة الهروب او البحث عن ذاته، وجسدها المخرج بأجواء حولت الخشبة إلى عوالم ساحرة، فرضت على المشاهد الدخول فيها، ليندمج في أحداثها الواقعية والخيالية في نفس الوقت. إن غزارة العناصر البصرية في هذا العرض فعلت فعل السحر، ورفعت متعة المشاهدة إلى مستوى التحليق في الأجواء الغرائبية للعرض المسرحي.

إن تحقيق هذا المستوى من العرض حتم العمل مع ممثلين ذي مهارات عالية في الرقص والأداء الدرامي والتعبيري، خاصة الشخصية المحورية في المسرحية، ولذلك فقد اختار المخرج ممثلا محترفا يمتلك مرونة جسدية عالية، مكنته من الرقص والقيام بحركات اكروباتية متميزة، بالإضافة إلى قدرة عالية على الأداء التمثيلي، وهو ما أجاد فيه الممثل الروسي الشاب (أنتون شاكين). كما شارك في العرض مجموعة من الممثلين المحترفين وفريق من الراقصين، أبدعوا جميعا في عرض ابهرنا بثراء عناصره.


أما سينوغرافيا العرض المسرحي فقد شكلت عنصرا مهما في هذا العرض، فقد ابتكر المخرج مكعبا سحريا يحتوي على فتحة في وسطه، ووضعه في وسط المسرح، وينفتح هذا المربع في كل مرة من جهة ما، تبعا لما يتطلبه المشهد، فمرة يكون غرفة وأخرى يكون جزءا من غابة .. الخ. وقد استفاد المخرج من التصميم المبتكر لهذا المكعب طوال فترة العرض، وجعله متحركا ليبعده أو ليحركه في أماكن مختلفة، كي يحقق ما أراده عند تغيير المناظر.

اعتمد المخرج في تصميم الحركة على مستويات عديدة، ساعده تصميم الديكور المبتكر في تجسيدها. هذه المستويات كانت أفقية وعمودية لتتحرك في كل فضاءات العرض، دون أن تترك مساحة واحدة غير مشغولة، لذلك جاءت حركة الممثلين داخل مسرح (العلبة) ثلاثية الأبعاد، كي تحاصرهم بيئة العرض داخلها، تاركة لهم الحرية في نفس الوقت للانتقال ضمن مساحتها.

ساهمت الإضاءة كعنصر هام في خلق الأجواء التي رآها المخرج، فكانت مبهرة في تجسيد الجو العام للمسرحية، وبهذا تمكن المخرج من جعل الضوء لغة أخرى لهذا العرض، مما جعل المشاهد أسيرا في بيئته الساحرة.

ومن المؤكد أن هذا العرض كان استثنائيا في إبداعه، حيث كان كرنفالا امتزجت فيه كل الفنون، واظهر الممثلون مهارات في الرقص على أنغام موسيقى حية، ويكاد العرض أن يكون متكاملا، لولا أن إشكالا ظل عالقا في ذهن المتلقي يتلخص في أن المخرج على الرغم من التزامه بالدقة التاريخية للنص المسرحي، وحرصه على تقديم الأزياء والرقصات المستقاة من الفولكلور النرويجي، إلا انه يظهر في مشهد وصول (بيرغونت) إلى مستشفى المجانين في مصر، يظهر ممثلا يحمل (كلاشنكوف)، وكان هذا الفعل صادما، فهو يتناقض والدقة التاريخية التي حرص المخرج على الالتزام بها، كما أن الدلالة لاستخدام آلة القتل هذه لا تدخل ضمن سياق الفعل الدرامي للأحداث، فلماذا استخدمها (زاخاروف) وماذا أراد بها؟ هل هي إشارة إلى أن هذه المنطقة شكلت خطرا على حياة البطل، أم أراد الإشارة إلى الإرهاب جغرافيا، حسب رؤياه، أو ربما تذكيرا بان تسليح المنطقة من مصادر روسية. وأيا كان السبب نعتقد هنا انه قد أقحم السلاح في العرض المسرحي دون ضرورة أو مقدمات تجعل وجوده متناسقا مع العرض المسرحي.


لا بد من الإشارة إلى إن جهد مخرج الباليه كان واضحا ومتميزا في العرض المسرحي لدرجة أن اسمه وضع في الفولدر مشاطرا المخرج (زاخاروف) في العملية الإخراجية. ويبدو أنها سابقة في المسرح الروسي، حيث لم يسبق أن اشترك مخرج بالية مع آخر مسرحي في إخراج عرض واحد، وعادة ما يتم الاستعانة بمصممي رقصات لا يشاركون دراميا في العمل، وإنما يقتصر دورهم على العمل تحت إشراف المخرج.

يعيد هذا العرض إلى أذهاننا أسلوب (المسرح التأليفي) عند المخرج (الكسندر تايروف)، وهو من قادة حركة التجديد المسرحي في روسيا بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث كانت تمتلك فرقته كل مواهب البالية والأوبرا والسيرك والموسيقى والدراما. وبهذا الصدد نشير إلى أن المخرج الروسي سار أيضا على نفس المنهج الذي اختطه (جان لوي بارو) من حيث شمولية جميع الفنون في عروضه المسرحية، وهو ما أطلق عليه (المسرح الشامل).











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - استفسار
kholood ( 2011 / 12 / 17 - 17:21 )
لم يتسنى لي ان اجد الشي الذي استخدمه في البحث حول الازياء في النرويج..وبصوره خاصه لابسن وكيفيةاتوضيف الازياء في بيت الدميه

اخر الافلام

.. نشرة الرابعة | السعودية.. مركز جديد للذكاء الاصطناعي لخدمة ا


.. كل الزوايا - د. محمود مسلم رئيس لجنة الثقافة والسياحة يتحدث




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -شقو- في العرض الخاص بالفيلم..


.. أون سيت - هل ممكن نشوف إيمي معاك في فيلم رومانسي؟ .. شوف حسن




.. حول العالم | لوحات فنية رسمتها جبال الأرز في فيتنام