الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


امرأة ورجلان

رياض كاظم

2011 / 6 / 21
الادب والفن


طفلان يتشاجران على كل شيء ، على الكرة او الحصان الخشبي او على قطعة خبز ، طفلان يقتتلان على أتفه الاشياء على ( الدعبل والجعاب والقبقات واسلاك الوايرات ) ...
اتقاتل معه كل يوم ، احاول ان امطله وادس انفه بالتراب ، اضع اصبعي بانفه ، افقس عينيه اعض اذنه ، اضربه بقسوة بين فخذيه الكمه على اسنانه لارى الدم يتدفق من بينها ، لكنه ينهض وينفض التراب من على دشداشته وكأن شيئا لم يكن ويعض على شفتيه ويهجم ، ينهال علي بالضرب بقساوة لا مثيل لها ، نتمرغ سوية على التراب ، نغرق بالعرق والشتائم والبصاق ، يستمر عراكنا من الظهيرة حتى تغرب الشمس ...
دائما يجد سببا للعراك والمماحكة ، ودائما اجد سببا للرد ...
طفولة قاسية ، شريرة ، مليئة بالبصاق ، بصاق على الوجوه والجدران والنوافذ ، بصاق على السماء ، اسمع صوت امي ( كس أم الله ) ، صوت أبي الذي يصلي احيانا ( خره بيه اذا موجود ) ... الحرارة خانقة وهو يمسك بخناقي ويلكمني على انفي ، تورم انفي بشكل غريب ، اصبح يملأ كل وجهي ، وجهي اصبح عبارة عن انف متورم . ( اخ القحبة ) لكمته مرات ومرات على انفه من اجل ان اكسره ، لويت عنقه ووضعته في ساقية المجرى الخائس ، حاولت كل شيء من اجل ان اترك اثرا على وجهه ، لم افلح ..
_ هل كسر خشمك ؟ قالت امي
_ انا كسرت اسنانه ..
_ اذهب واكسر خشمه ؟
عند الظهيرة خرجت عاريا الا من لباس يستر اعضائي ، وقفت وسط الدربونة وصرخت _ عبوسي ، اطلع ولك ...
خرج عبوسي واهله يركضون وراءه كالمجانين ...
كان عمري انذاك تسع سنوات وعبوسي اكبر مني بسنتين او ثلاثة ، كان اضخم جثة مني ، نحن صديقان ، بل هو صديقي الوحيد في ذلك العالم القاسي ، قساوة عالمنا وشحة الاشياء من حولنا جعلتنا نتعارك على بقايا العظام والدعابل والشرف ، ( الشرف ) نعم كانت لنا مسميات صغيرة للاشياء من حولنا ، الشرف ، كلمة غامضة ، تشبه طفولتنا الغامضة ..
في احد الايام سمعت ابي وامي يتحدثان عن فتاة فقدت عذريتها على يد احدهم ، هذا ما ادركته فيما بعد ، في ذلك الحين لم افهم ما يقولان ...
قالت امي وهي تعد الفطور وتهمس لابي ..
_ محمد اخذ وجه بدرية ...
تعجب والدي واخذ يستغفر الله ويسأل عن الستر والعافية ..
_ أخذ وجهها ؟
الاطفال في مثل عمري يحبون الطعام ، كنت ابتلع الخبز والبيض وانظر الى الطاوة عسى ان احصل على المزيد من البيض ..
اخذ وجهها ماذا تعني امي ، كيف له ان يأخذ وجهها ؟ هل وجهها قناع يلبسه حينما يريد الخروج الى السوق او الى المقهى ، كيف لاحدنا ان يأخذ وجه لا يخصه ..
قلت وانا انظر الى الطاوة _ شنو يعني اخذ وجهها ؟
قال والدي _ اللهم نسألك حسن العاقبة ..
وقفت وسط الدربونة وصرخت _ عبوسي .. عبوسي .
خرج عبوسي عاريا وهو يحاول ان يبرز عضلاته ويصرف بطنه .
هجم علي وامسك بخناقي واخذ يلكمني بقسوة ..
قلت وانا الهث _ عبوسي ، عبوسي ..
قال وهو يحاول ان يقطع اذني _ شكو .. شتريد ..
ضربته على خصيتيه وقلت _ بدرية .. بدرية ..
_ بدرية ؟
اطلق عبوسي سراحي واتكأ على الجدرار _ انا ايضا سمعت ..
_ ماذا سمعت ؟
_ سمعت انها ... مو شريفة لوثت سمعة الدربونة .. اخرج من جيب دشداشته لفافة تبغ ، اشعلها واخذ ينفث الدخان ..
سمعت انها تنام مع محمد...
قلت _ محمد اخذ وجهها !
_ كيف ؟
_ لا ادري ..
_ سنذهب الى بيتها لنرى ..
كانت تلك مغامرة عظيمة بالنسبة لنا ، اذ ليس من السهل بالنسبة لي على الاقل ان ان اخرج من زقاقنا الى زقاق آخر اجهل تماما ما فيه ، وماذا ينتظرنا في ذلك العالم المجهول ..
كانت الدربونة الاخرى لا تبعد عنا سوى عشرات الامتار لكنها بالنسبة لنا بدت رحلة طويلة ، محفوفة بالمخاطر ، عالم مليء بالاشقياء والباحثين عن المتاعب ، هناك اولاد اكبر منا سناً يحرسون منطقتهم وهناك رجال لا يسمحون لغريب ان يدخل عرينهم المحصن ... دخلنا الدربونة ، كان هناك اولاداً مفتولي العضل يدخنون ويتشاتمون فيما بينهم ، اولاد قساة واحدهم يستطيع ان يبطش بنا بضربة واحدة ، نظرت الى عبوسي الذي كنت اجده ضخما جدا كالغوريلا ، فاذا به يبدو لي بحجم الدجاجة ، او الفأر ...
نظر لنا الاولاد بغير اهتمام وسمحوا لنا بالعبور ..
قال عبوسي _ امشي .. امشي دون ان تنظر لاحد ؟
كان بيت بدرية اكبر من البيوت المحيطة به ، سياجه عال وابوابه موصدة على الدوام وهناك نافذة واحدة تطل على الدربونة ، النافذة ايضا موصدة ومغطاة بستائر ثقيلة ..
قال عبوسي _ سننتظر هنا ...
جلس قبالة النافذة واخرج لفافة تبغ واخذ يدخن ..
قلت _ اعطني نفساً ؟
ناولني اللفافة بغير اهتمام ..
اخذت منها نفسا عميقا وبدأت اسعل كالمجنون ، دارت بي الدنيا ، دارت بي الدربونة والاولاد الاشقياء دار من حولي عبوسي ، دخت ، لكنها كانت واحدة من الذ الدوخات بحياتي ، دوخة احببتها والتصقت بها حتى لحظة كتابة هذه السطور ...
جلسنا هناك طيلة الظهيرة تحت انظار الاولاد التي تسلقنا ، انتظرنا عسى ان يفتح الباب او تطل منه بدرية ، عندما حل المساء ، خرجت فتاة في الرابعة عشر من عمرها او هكذا خمنت .. زمن الطفولة لا يعرف الاعمار ولا يأبه بها ، حينما تكون طفلا ، يصبح بنظرك ابن العشرين شيخاً ، خرجت بدرية لترمي الازبال ..
يا الله .. انها انفجارات .. كل شيء صلب وحار ، خدود صلبة صدر صلب جسد ممشوق وصلب وقوي ، يتحمل العراك والضربات واللكمات ، خصم جديد يمكنني ان افرغ به غضبي ..
نظرت بدرية ناحيتنا وابتسمت ، خمنت انها ابتسمت لي ، لي وحدي ، اسنانها جميلة وبيضاء شفتاها غليظتان كزنجية من افريقيا وخديها حمراوين كالرمان كالدم من بين اسنان عبوسي .. انها لي ... لي ..
قال عبوسي وهو يلوي عنقه _ انها صاحبتي ابتعد عنها ..
_ اخرس يا ابن القحبة انها لي ..
_ كلا انها صاحبتي ..
_ كلا انها لي ..
نزع عبوسي دشداشته وفانيلته القذرة وهجم علي ، نزعت دشداشتي ايضا وبقيت بلباسي الداخلي، هجمنا على بعضنا ، ضوء الشمس الغاربة كانت تضرب على اجسادنا السمراء وتجعلها تلمع ببريق الشهوة والشباب ..
توقفت بدرية تنظر لنا ونحن نتعارك .. من اجلها من اجلها فقط ...
آلمني عبوسي جداً ، ضرباته اصبحت كوقع الحديد على جسدي ، ضربني حتى كاد ان يكسر عظامي ، تجمع حولنا الاولاد الاشقياء وهم يحاولون دفعنا للمزيد من الضرب ..
شعرت بعظامي تتحطم ، وشعرت بمدى الالم الذي سببته لصديقي ..
اقتربت منا بدرية ، بكل جرأة مرت من بين الاولاد الاشقياء ورمت عباءتها حول ظهرها وامسكت بذراعينا وفرقتنا عن بعض ..
_ على هونكما ايها الطفلان ، لماذا تتقاتلان ؟
كان وجهي مغبرا والدم ينزف من بين اسناني ومن اذني .
كانت رائحتها مزيج من فاكهة الرقي والشاي ، رائحة عذبة ، لا تشبه رائحة جسد عبوسي او دمه النازف تحت وقع لكماتي ..
قال عبوسي بجرأة _ أنا احبك ؟
قالت _ ماذا ؟
قلت وانا احاول ان اتشبث بعبائتها كأنها امي _ انه كاذب .. انا من يحبك ..
_ انت تحبني ايضاً ..
بدت لي كأنها اكبر من عمرها ، اكبر من الحكايات الباطلة التي تدور من حولها ، لم ار بطنها منتفخة ، لم ار وجهها الجميل قد اخذه احدهم ..
مسحت الدم عن وجهي وعن وجه صديقي ، اقتادتنا من ذراعينا الى منزلها ، الى الحمام ، رشت الماء على جسدينا وهي تقهقه ، قهقهة طفلة بريئة تلعب مع طفلين لم يعرفا جسد المرأة ..
زمن الطفولة يشبه طفل يعبث بانفه ، يعبث مع امه على مائدة الفطور ..
قلت لامي وانا التهم البيض المقلي والخبز _ عندما اكبر سأتزوج بدرية ..
خمشت امي خديها _ بدرية ؟ ... لماذا بدرية ؟
كان ابي يحلق ذقنه ، ذقنه خشنه ، لا ينفع معها موس ..
_ قلت لك من قبل ان هذا الولد لا يصلح لشيء .
سأتزوج بدرية ...
كس ام الله ...
مرت ثلاث او اربع سنوات ...
عبوسي ... عبوسي ..
خرج عبوسي عاريا وهو يحمل بيده ( توثية ) ...
مرت سنوات طويلة ، تضخم بها جسده حتى اصبحت لكماتي لاتجدي معه نفعا ، لكمات تصطدم بجدار صخري ، لكن قبضة يدة تقع علي كالمطرقة ، مطرقة تقع على مخدة من قطن ، حينها قررنا ان نعقد هدنة ، هدنة طويلة استمرت الى اليوم الذي سمعت فيه ان عبوسي سيتزوج من بدرية ..
شعرت بالخيانة ، شعرت بأن بدرية خانتني مع أعز اصدقائي ، رغم اني لم اعد اتذكر منها سوى تلك الصورة الضبابية وهي ترش الماء على جسدينا واثدائها تتقافز كالقطط ..
كنت في ذلك الحين اقترب من العشرين ، اشعر باليأس من الحياة والمستقبل ، اشعر بأن احدهم سرق مني شيئاً ثميناً ، ويجب ان استرده لكني لم اعرف كيف ؟
كما اني لم اعرف ما هو ذلك الشيء الثمين ؟
عبوسي ... عبوسي ..
كان هناك العديد من الناس ، ناس من كل الاصناف يرقصون مع ( الكاوليات ) ناس يشربون ويغنون ويأكلون ، كانت هناك رائحة عرق وعطور وبخور ، كان هناك عبوسي يجلس الى جانب بدرية وهما في قمة السعادة ...
انتبه عبوسي لصراخي المجنون ...
توقفت الموسيقى عن العزف ، توقفت الكاوليات عن الرقص ... تبسم عبوسي وهو يتطلع بي بحب ، رأيت عينيه تمتلئان بالدموع ، نزع ثوبه فبانت عضلاته الصلبة الهائلة الحجم ، تقدم ناحيتي وهو يبتسم ...
نزعت ثوبي وانا استعرض جسدي النحيل امام بدرية والحضور ، اشهرنا قبضتينا بوجه بعضنا البعض ، درنا حول بعضنا ، وجهت له بعض اللكمات لارى ردة فعله ، كان يصد قبضتي بغير اهتمام ، يبعدها عن وجهه وانفه ، شعرت انه لا يرغب بتلك المعركة ، شعرت به يبتسم لي بحب ..
انها معركة خاسرة .. انت تخسر ..
كانت بدرية تنظر للمشهد بقلق ، كنت اود لو انها تتدخل وتمنعننا من العراك ، كما فعلت ذات يوم ، لكنها تسمرت على كرسيها ترقب بحذر المعركة الخاسرة ..
فجأة شعرت بقبضة هائلة الحجم تقع على انفي ، دارت بي الدنيا رأيت نجوما وسماءا بيضاء ، رأيت اشباحا من حولي ، اشباح الحضور والكاوليات وشممت رائحة ثقيلة ...
_ هل هو ميت ؟
سمعت صوت عبوسي _ انه لا يموت ...
كس ام الله ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكاديمية زادك.. أول صرح تعليمي لفنون الطهي في السعودية


.. الفنان ويل سميث يتحدث لصباح العربية عن ردود الأفعال على زيار




.. صباح العربية في لقاء خاص مع أبطال فيلم Bad Boys


.. نبيل الديراني: بالثقافة والفن نعزّز الاندماج والتواصل والانف




.. فنانة فرنسية تبرز جمال أزقة سوريا القديمة في لوحاتها