الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفيلم العراقي (كرنتينة) صناعة الواقع من ذاكرة لا تموت !!

صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)

2011 / 6 / 21
الادب والفن


كرنتينة ذلك الحي القديم في بغداد ،لا يبعد كثيرا عن منتجع الموتى المبرد في الطب العدلي ، ولا يختلف في ذلك عن المعنى القديم للكلمة ذاتها (كرنتينا) والتي كانت تعد مكاناً مخصصاً للحجر الصحي في تلك السنوات التي كان الطاعون يفتك بالأرواح بلا هوادة .
إن اختلاف الأمكنة والأزمنة لا يغير من المضمون الذي أراده المخرج (عدي رشيد) في فيلمه الأخير ، فقد بدا واضحا للمتلقي أنه كان يسعى إلى ذلك المزيج الوظيفي والمكاني ،إذ أن حي (كرنتينة) البغدادي لا يختلف عن المحجر الصحي فكلاهما منغلق على فئة معينة من البشر تعاني من العزل الاجتماعي لأسباب عدة أولها الفقر وآخرها الإهمال وما بينهما يجلس شبح الموت في انتظار ضحيته التالية التي لن يبذل جهدا في إيصالها إلى تلك الثلاجات المبردة لتدخل في حجر صحي إلى الأبد.
لم تكن عملية الولوج إلى الواقع العراقي في زمن القتل المجاني واختزاله في لقطات سينمائية بالأمر اليسير ذلك أن المتلقي العراقي يحتاج إلى ما يثير الانتباه لديه؛ أكثر من نقل صورة الواقع الذي يعيشه ليل نهار ، من اجل ذلك اختار المخرج تقنياته المتمثلة بأسلوب معين في التمثيل قد يبدو للبعض غير فاعل في نقل الحدث ، إلا أن شخصيات الفيلم الرئيسية استطاعت أن تنقل إلينا فرضية الحدث المرعب والمستمر، فضلا عن توظيف المخرج للرمز والدلالات المتعددة التي تحيل المتلقي إلى مضامين جديدة .
أن الاختزال البصري الذي اشتغل عليه المخرج ساهم في التواصل مع المتلقي بعيداً عن الثرثرة المشهدية التي تتعارض مع منظومة التلقي الحديث كما أنه عمد إلى توسيع دائرة الاختزال ليشمل اللغة المنطوقة أيضا والتي ساهمت في تخليص الفيلم من الترهل في كثير من المشاهد ، ويعود السبب في ذلك إلى خطورة المنظومة الإيقاعية التي أراد المخرج الاشتغال عليها ، والتي تجعل من الفيلم يغادر الإيقاع التقليدي المتنامي مع الحدث ، باحثا عن إيقاع يسير بخط مستقيم مع جميع الأحداث حتى انه يجعل المتلقي يشعر بالملل ، وتلك منظومة إيقاعية التي ندرك أهميتها وصعوبة الحفاظ عليها في سياق متصل ، وفي هذا الفيلم استطاع المخرج وبحرفية عالية الإصرار على هذا النمط الإيقاعي ،كما انه جعل شخصياته تلتزم بأسلوب تمثيلي يتناسب مع هذه المنظومة ، باستثناء شخصية العرافة (عواطف نعيم) التي هربت من قيود المخرج المدرك جيدا لخطورة وضع مثل هذا النوع من الشخصيات في منظومة إيقاعية مغلقة ، لذلك بدا واضحاً لدى المتلقي تغير اللون الإيقاعي مع دخول هذه الشخصية وانتهاءه بخروجها .
أن الحكاية التي اشتغل عليها كاتب السيناريو في فيلمه هذا لم تكن غريبة على المتلقي العراقي ، ذلك أنها تعتمد على قصة قاتل يتجول في شوارع بغداد حاملاً معه قائمة طويلة بأسماء ضحاياه ، وهو ينتمي إلى ذلك النوع من القتلة الذين يعملون على وفق أجندات يقودها متنفذون في السلطة أو خارجها ، وقد بدا ذلك واضحاً في شخصية الأستاذ (حكيم جاسم) التي استطاع اختزالها في مشهد واحد عبر من خلاله عن قدرة السلطة الإجرامية على تصفية الجميع حتى القاتل لا يملك القدرة على الخلاص منهم.
لم تكن الانكسارات الكثيرة التي أصابت المجتمع نتيجة الحروب المتتالية ، بعيدة عن الشخصيات التي تعيش في تناقض مع ذواتها ، وكأن المخرج يحاول قراءة الواقع سيكولوجيا ، معتمداً في ذلك على تحليلات (علي الوردي ) السسيولوجية للفرد العراقي بكل ما تنطوي عليه من متناقضات كانت واضحة في شخصية الزوج (حاتم عودة) الذي يترك لدى المتلقي تصوراً واضحا عن ماهية هذه الشخصية التي تعيش خلف ستار من المحرمات الدينية يفرض بها سلطته على زوجته عبر كلمات قليلة وصارمة محذراً إياها من عدم ارتداء الحجاب بوجود رجل غريب في المنزل في إشارة أولى إلى وجود القاتل الذي يسكن في الطابق الأعلى ويراقب كل شيء .
أن سلوك الزوج في المشهد الأول للفيلم يدفعنا إلى مراقبة أفعاله التالية على الرغم من أن المخرج لم يترك له مساحة كافية نستطيع من خلالها أن نحلل أسلوب تعامله مع المجتمع تاركاً ذلك لتأويلات المتلقي التي ينبغي عليه أن يستنبطها من دلالة هذه الشخصية التي يتجه سلوكها نحو العدوانية ، ويعود السبب في ذلك إلى الكبت الجنسي الذي يعانيه جراء رفض الزوجة (آلاء نجم) الاقتراب منه والتفاعل مع رغباته ،الأمر الذي يدفعه إلى ممارسة هذه الرغبات مع ابنته متجاوزاً بذلك جميع الأعراف والقوانين الدينية والاجتماعية التي تحرم هذا السلوك ، ومن جهتها فإن الابنة الشابة تلوذ بصمت عميق رافضة التواصل مع العائلة التي يقف على رأس الهرم فيها الأب الزاني .
إن اختيار المخرج للصمت بوصفه واحدا من المعالجات الإخراجية التي يلجأ إليها تعبيراً عن الرفض الذي تتبناه الابنة الشابة (روان عبد الله) يعد خياراً مضاداً لسلوك الأب الذي يعود إلى صلواته لابساً رداء التوبة الديني .
لم تكن الزوجة بمعزل عن تلك المتناقضات التي يخوضها المخرج في (كرنتينة) ذلك أنها تتجه إلى القاتل لتبوح بشهواتها إليه رافضة مساعداته المادية ، فالمحرك لسلوكها الشهواني تجاه القاتل يستند إلى مفاهيم عدة من بينها أن القاتل غريب ويحفظ السر ويساعدها على التخلص من الكبت الجنسي الذي ترفض أن تبوح به إلى زوجها الشرعي .
إن اللجوء إلى المحرم في سلوك الزوجة يحيل المتلقي إلى إحساس المرأة بوجود الخيانة ذلك أن رائحة الزنى لا تخطئ ،وكان على المخرج أن يعزز هذا الإحساس لكي لا يترك المتلقي في صراع مع الأسئلة لاسيما وان فكرة العجز الجنسي لدى الزوج لم تعد واردة بعد المشهد الذي يطلب فيه من زوجته أن تقترب منه ،فما يمنعها عنه إحساسها بخيانته لها من جهة ، ورائحة القاتل الغريب على جسدها من جهة أخرى.
يلعب الطفل (سجاد علي) دوراً محورياً في هذا الفيلم بوصفه ماضياً ومستقبلاً ،وقد استطاع المخرج توظيف هذه الشخصية لتكون ماضياً للقاتل ومستقبلاً نجهل هويته على الرغم من أن المخرج حسم الأمر ليمنحنا شيئاً من الأمل بأن مستقبل أطفالنا سيكون أفضل وقد بدا ذلك واضحاً في المشهد الذي قايض فيه الطفل السكين التي ظلت ملازمة له طوال المشاهد السابقة ، بكتاب الرياضيات الذي سبق للقاتل أن أحرق ذاكرته فيه ؛إلا أن المخرج يناقض نفسه مع الفكرة التي منحها للمتلقي إذ أن السكين انتقلت من يد الطفل (سجاد) إلى يد طفل آخر يبدو انه يعاني من مشاكل نفسية هو الآخر وبالتالي فإن أداة القتل لم ينته مفعولها وما كان تخلي (سجاد) عنها إلا لأنه حصل على سلاح أكثر فتكاً بعد أن دخل غرفة القاتل واستحوذ على مسدسه الصغير .
لا تولد الجريمة من العبث ولكنها يمكن أن تنمو في أجواء عبثية ، ويبدو أن القاتل (أسعد عبد المجيد) يلعب دوراً عبثاً في مأساة واقعية ، فالقتل لديه هروب من واقع تتصارع فيه الظلال ، إن اختيار المخرج لشخصية القاتل التي لم تكن تعيش حياة مجهولة بل على العكس من ذلك نجد أن القاتل ينتمي إلى عائلة واضحة المعالم ، وهو طالب جامعي ، ولم تتحرك غريزة القتل لديه لأسباب طائفية أو عرقية ؛ بل بقي السبب في امتهانه وظيفة القتل والتخلي عن مستقبله الجامعي مجهولاً ،إذا ماحاولنا ربط خيوط كتابة الشخصية حيث يمكن العثور على أسباب قد تبدو واهية أمام فعل القتل الدموي. فالمخرج يمنحنا دلالات تعبر عن تحول الإنسان إلى قاتل ، من بينها وقوف الحبيبة (زهرة بدن) التي قام القاتل بالتنكيل بها واغتصابها وتركها لمجتمع لا يساوم على الشرف ، كما بدا ذلك واضحاً في تعنيف صديق القاتل المصور (هادي المهدي ) ، ومن جهة ثانية فإن الإشارات التي أرسلها المخرج والتي عبر فيها عن رفض عائلة القاتل لوجوده في المنزل والسلوك العدائي الذي تصدى له الأب تجاه ولده الأمر الذي يمنحنا أسئلة عدة حول الأسباب التي دفعت الأسرة إلى رفضه ،ترى هل يرتبط ذلك بسلوكه الإجرامي أم أن تسلط الأب ما هو إلا دافع لذلك التحول؟
لقد ترك المخرج هذا السؤال مفتوحاً على تأويلات عدة ، ومن جهته فإن القاتل الذي يرفض هو الآخر أن يكون نكرة في المجتمع ليبدأ بحرق ذاكرته الصورية التي تتمثل بصوره الجامعية وأحلام الطفولة متمثلة بصورة والديه وأصدقائه ، حتى انه سارع إلى سرقة كتاب الطفل (سجاد)وإحراقه كأنه يحاول أن يلغي كل معرفة سابقة له بالثقافة ، إلا أن السؤال الذي يظل عالقاً في وعي المتلقي ، حول السبب الذي دفع المخرج إلى اختيار كتاب الرياضيات من دون غيره من الكتب ؟
لم يتوان القاتل عن التوجه إلى سلوك عدواني خارجاً في ذلك عن الأجندات التي رسمت له من قبل (الأستاذ) ومن يقف خلفه في إدارة لعبة القتل ، وراح يقتل من دون اللجوء إليهم ، الأمر الذي جعل الأستاذ يسعى إلى التخلص منه وإلقائه في ذلك النهر الذي كان يجري في المشهد الأول جارفاً معه جثة القاتل كأنما عمد المخرج إلى فرضية الزمن الدائري التي تحيلنا إلى عبثية (صاموئيل بيكيت ) .
لقد كان الأداء التمثيلي للفنان (أسعد عبد المجيد ) ينحاز إلى السلوك النفسي أكثر منه إلى الواقع الحياتي للشخصية ، وقد اقترب في هذا من أداء الممثل الفرنسي (جان رينو) في فيلم (ليون) ذلك القاتل المحترف الذي انطلقت شخصيته من سلوك نفسي معزول عن الواقع إذ أن حياته لم تكن تقتصر على شيء آخر سوى القتل، الأمر الذي منح شخصية القاتل في (كرنتينة) عمقاً في السلوك يحيل المتلقي إلى طبيعة تلك الشخصيات التي تجوب شوارعنا وتقتنص كل ساكن ومتحرك فيها .
إن الاستعانة بالخبرات التمثيلية في (كرنتينة ) يعد واحداً من الحلقات الهامة التي تؤكد على التواصل بين الأجيال إلا أن اقتصار هذا التواصل على مشاهد قصيرة وغير فاعلة كما هو الحال مع المشهد الفقير الذي تم اختيار الأستاذ سامي عبد الحميد لأدائه لم يحقق الغاية المطلوبة للتواصل ، كما أن المتلقي لم يجد ما يسوغ للمخرج استعانته بشخصية (فضة ) (عواطف السلمان) التي كانت حاضرة وفاعلة في فيلمه السابق (غير صالح للعرض ) على العكس من ظهورها الفقير في فيلمه هذا ، ولا يخفى على المتلقي وجود الكثير من الدلالات التي أحالتنا إليها هذه الشخصية بوصفها أنموذجا واقعيا لبائعات الإفطار في صباحاتنا العراقية ،إلا أن إصرار المخرج على ربطها بفيلمه السابق كان عائقاً وراء تواصلنا معها ، ومن جهة أخرى كنا نأمل أن تتحرك الكاميرا في البيئة البغدادية بشكل أكثر أتساعا من شارع السعدون وان لا يقتصر تنقلها في السيارات العسكرية التي تشير إلى أن هذه البلاد لاتزال قابعة تحت سلطة الاحتلال التي كانت علامتها واضحة وتكرارها ضروري.
كما أن اختيار النهاية المفتوحة للفيلم وعدم انحياز المخرج إلى نهاية معينة منحته فرضيات دلالية كثيرة متمثلة في سلوك الطفل (سجاد) ونظرته الأخيرة قبل اللحاق بأمه وأخته تاركين الزوج مجهول المصير .
في الختام لابد لنا من الإحساس بالفخر بوجود فريق سينمائي قادر على صناعة الأمل في تطوير الفن السابع في هذه البلاد ، لاسيما أن قدرة المخرج (عدي رشيد) والكادر التمثيلي الذي يؤكد على وجود قدرات متميزة في الأداء والتعبير فضلا عن وجود مدير التصوير المتميز (أسامة رشيد) الذي أنتج لنا صورة فنية نشهد لها بمستقبل واعد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا