الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ساعات ساخنة في اوراق مسافر / 5

محمد نوري قادر

2011 / 6 / 22
الادب والفن


فوضى عارمة وقلق يعم كل مكان , لم انتبه في البداية لأشخاص كانوا قريبين مني يحتمون من الرصاص كما انا تحت الجسر , بعضهم يحمل السلاح , عيونهم تتحدث عن الفزع , لا يجمعنا سوى الخوف والصمت ونظرات قلقة تحمل مشاعر وأحاسيس مشتركة من هاجس خفي , متسمرين في أماكنهم , وجوههم مصفرة , كأنها وجوه الموتى , يتنفسون الصعداء كلما انخفض قليلا أصوات البنادق , ثم تعود إلى حالها كما هي. مرعب حقا هو الموت وتلك هي الحقيقة , ومرعب جدا عندما يكون جليا , وعندما تراه قريب جدا منك , وانه اقترب أكثر ,ولكن , ما أروع الموت عندما توجد قضية , قضية حقيقية .
كيف لا يعرف المرء ما يجري حوله , ما يحدث , إلا بعد فوان الأوان ؟ كيف لا يعرف انه ظل سيختفي إذا ابتعد الضوء عنه . أن ما يحدث مثل زوبعة , زوبعة يتقدمها بامتياز ولم يعلن إنها خطيئة ,مثلما هو , تنتهي بانقطاع أنفاسه , وكما هي العاصفة أيضا عندما تبدأ , تقتلع الأشجار , تفعل الخراب , تزيد الأوجاع ثم ترحل إلى حيث تختفي , وربما تبتلعها الصحراء أو يلتهمها البحر . فما اشد بؤس هذا الإنسان ,انه دائما يشعر بالضجر , لا يرى ابعد من خطواته , ساخرا , منفعلا , متكبرا , لئيما , مشاكسا , متمردا , حالما أن يحصل ما ليس له , وحده يمرح الذي لم يفقد صوابه , لم تجرفه الأمواج , ويراها كما هي الأشياء . فالمرء بإمكانه أن يفعل أي شيء حتى اشد الأمور غرابة إذا فقد صوابه , إذا أغمض عينيه ولم يسمع شدو البلابل , ولم تلامس شفتاه شفتي عاشقة ,ولم يتذوق طعم قبلة ممزوجة بالرضاب , ولم يكترث للندى المتساقط في عالم ارتفعت في الأصوات كي يصبح جميلا كامرأة , عالما مقتربا جدا من نهاية بائسة , متقلصا كالتمر حين يترك على النخلة , الرقيب وحده يفلح , ينظر بشغف الثمرة , والأوفياء لها يستحقون الغزل .
لقد امتد الزمن طويلا ونحن نقف هكذا منتصبين ينظر احدنا الآخر بهلع وكأنه لا يريد أن ينتهي , ننتظر نهاية الانفعال والسخط ونستمع للأصوات المرعبة من القذائف المتساقطة والاطلاقات النارية التي تمزق السكون . وشعرت بالعطش ولم يوجد ما اشرب , شفتاي جفت من الظمأ. إلى متى ستستمر تلك الحال ؟ وجوم وقلق , لن تهدأ النفوس إذا أمتد الغضب , ولن تهدأ إذا لم يتدخل الوصل والقي فيها الحطب , إنها ترقص من الأوجاع تسأل عن السبب , كل شيء يدعوا للريب فيها , كأنها مدينة تسكنها الأشباح فقط , تتلظى من النار , اختارت الصمت كي تدافع عن نفسها , كي لا تغرق, ولا يقال عنها ما لا تريد أن يقال فهي لم تكن يوما آثمة .وتنفست بعض من خوفي حين انخفضت كثيرا شدة الأصوات , وتنبهت لسيارة صغيرة توقفت , ترجل بعض من فيها , يبدو إنهم ظلوا الطريق أو ابتعدوا عن المكان الذي يجري في القتال , يبحثون عن مكان آمن وسط هذا الجو المشحون بالكراهية , هدأ الأمر , قال احدهم , لكن أصوات البنادق لم يزل يسمع . كنت قد تعبت جدا من السأم , من الضجر , من الانتظار كي ينقشع هذا الصخب . في كل المدن التي وطأتها قدمي لم اشعر بما شعرت به الآن , وفي كل أحلامي لم اصدق إني موجودا في خضم معركة , معركة لم اعرف دوافعها وأسبابها بعد , كم أنا أحمق , من يريد المعرفة عليه أن يتريث , ليرى ماذا سيحصل . ولكن , ماذا سأحصل ؟ المعارك كلها خاسرة ,من يخوضها ومن سيربح , فكم يكون الثمن باهظا لو تعرضت لإصابة , لقد جئت كي أرى وامرح , خنقتني العبرة , شهقت بألم , ندمت لأني اتبعت غريزة الأحمق , وندمت أكثر لأني تخطيت حدود العقل , لا بأس , كل شيء عاد كما هو ,فقد بدأت تدب الحركة شيئا فشيئا في الجوار , أصوات رجال فوق الجسر , مركبات متباعدة بين واحدة وأخرى , تقدمت بضع خطوات , بيت زامل المناع كما هو , نخيل بستانه الوارف الظلال لم يكن على عهده , البلابل التي سميت باسمه ,آه البلابل , كم تمنيت عندما كنت صغيرا أن احضى بواحد منها , صوتها الشجي لم يزل يسكن في ذاكرتي , استيقظ فجأة وغمر نفسي بهجة بعد كل هذا القلق . لم تكن معركة حقيقية حقا , ثيابي اتسخت , كان لغطا فحسب , صراع من اجل السيطرة بطريقة سمجة , لها رواسب في مخيلة الآخرين , تركها في النفوس ارث امتدت جذوره عميقا مع الزمن , لن تضمد الجراح هكذا , الجراح تنزف بغزارة منذ زمن, لا يطربها الذي وقع , لا يطربها هذا العهر . الشوارع مغطاة بالأنقاض والمركبات بانواعها محترقة , فعلت فعلها القذائف في كل مكان وصلت إليه منذ بداية الخصام ولا أقول الحرب , الحرب نعم, فعلت فعلها القبيح عندما أعلنت ودخلت القوات الغازية بغطاء دولي , الشوارع امتلئت فجوات واسعة من القذائف المتساقطة , وتبعثرت ايضا قطع الرصيف الإسمنتية أجزاء متناثرة . كان العطش قد اشتد بيَ كثيرا , صداع شديد لا زمني , كان الخوف له سببا وربما العطش له سبب في ذلك ,عندها وقع نظري على البهو , تلك البناية التي تشبه الكوخ التي صممت لتكون مسرحا رئيسيا للمدينة ومكانا للندوات والحفلات والمهرجانات الثقافية هو ايضا طعن بقذيفة في خاصرته لم يزل يشكو جرحه , وأجزاء كثيرة منه متناثرة , اقتربت منه , كان مهملا جدا , أفرغت كل محتوياته , لم يبقى منه سوى الهيكل , تسكنه إحدى العوائل التي فقدت منزلها , ومن أجزائه المتناثرة عملت بجهد لتجعل بعضا منه مأوى وسياج يحفظ من يوجد خلفه .كانت حركة المركبات قد نشطت وازدادت حركة المارة , المسلحون اختفوا فجأة , ابتلعتهم الأرض , لا احد الآن يحمل السلاح . في الشارع الجميل الذي اعشقه بداية التقاطع , المقبل ببسمة على بناية البهو وبدايته ,حيث يمتد عميقا في قلب المدينة وشارعها الرئيسي الذي كان يسمى عكد الهوى والذي أصبح فيما بعد بشارع ألحبوبي- تيمنا بالمجاهد الكبير الشاعر محمد سعيد ألحبوبي حيث وافاه الأجل في هذه المدينة وفي بيت العضاض بعد حزن وسأم أصابه في معركة في البصرة لمواجهة الغزو البريطاني للعراق عام 1914 ,- امتلئت عيوني دموع الفرح , لامست يدي جدار المدرسة الملتصقة بالقسم الداخلي للبنات , غمر كل جسدي المرح , وددت لو اصرخ , لو ارقص , شربت بعض الماء من بائع على الرصيف رغم قذارة الكأس جرعة واحدة . رائحة الشارع بعثت البهجة في نفسي رغم الإهمال والوجع والخراب الذي لحقه , لم يزل كما هو , لا احد يستطيع أن ينكر كم يملك القلب له من وجد , وكم طوته أقدامنا فرحا نلهث في صبانا , نلهو ونلعب , وكم وقعت دفاترنا في وحله أيام الدراسة عندما ينزل المطر . توقفت , رغبت فجأة النظر في المستشفى , كانت مكتظة بالجرحى , أعداد غفيرة من ذويهم يحتشدون عند المدخل , ينتظرون الإذن بالسماح لرؤية جرحاهم , خجلت جدا لاني شهدت ما يحصل وأصبت بصدمة مؤلمة وكأني أمام هذا العهر كمن تعرى وسط جمع غفير من البشر ولم يستطع أن يستر عورته , كنت خجلا جدا من نفسي لأني عرفت جيدا ما يجري . واستطيع القول أن الجميع قد خدع لا شيء أكثر . في خضم هذا القتال , الخصام , خطة خطرة للعب , خطة للبقاء هنا فترة أطول , سوف تكشفها الأيام عن قريب وتوضع على الطاولات لمعرفة السبب , سوف يندم الجميع بعد أن يعرفوا هوية القاتل الشرير الذي أضرم النار وذكى فيها الحطب متدحرجين ككرة كيف يشاء لها أن تكون عندما تركل بالقدم , ولكن ,عندما يحين الوقت تكون الشمس قاربت المغيب , لا احد الآن يفهم اللعبة , لا احد الآن يريد أن يفهم السر . المسار واضح , لا يحتاج إلى النور , وحدهم المتعكزون بالفضيلة , اللصوص , والأبواق المأجورة , لا يحبون الألفة , لاشك إنهم يمسكون شراع المركب , يكتبون أناشيده , يرسمون مصيره , يغضون البصر عما نحب . كل ما نحتاجه أن ننظر بعمق باتجاه الشمس . المأجورين , الرثة ثيابهم , سيتساقطون كأوراق الخريف . والأزهار فقط تبقى نظرة بألوانها وعطرها .
وبتثاقل تابعت اقدامي سيرها على رصيف شارعي الجميل تعصف في رأسي أفكار وذكريات , متزاحمة كأنها شريط كثيف الصور استيقظت فيه الأحاسيس والرغبة امتزج بها الخوف والمتعة , الدهشة و الاستغراب , يغمرني شعور غريب وصدى صوت يمزق احشائي ويأمرني بالعودة والرجوع بأسرع وقت , لم اطيق ما رايت وما يحصل, يشوبني القلق من الخطر الذي يعصف بأيامنا المقبلة , وكيف سيجتمع المتخاصمون لإزاحته والفرصة لم تزل مؤاتية ,ولكن يبدو جليا ان الامر لا يعني احد ,فحزمت امري احمل حقيبتي وانا اودع من اودهم ومن التقيت بهم وسط دهشة وتساؤل , وأيقنت أن الخراب آت مرة اخرى لا محالة يرتدي ثيابا أخرى , وأيقنت أن لا جدوى من الصراخ , متشابهة الأيام كلها في خن الدجاج, روائحها , طعامها , بيضها , أفراخها الصغار , ديكها المبجل أبدا مزهوا على الدوام , سمائها لا يفارقه الغمام , لا ادري , ربما ذلك ما تفعله قوارير الماء في الأحلام .الذباب , آه الذباب متزاحما بكثافة على الطبق . والخوف يغمرني أن يحمل الوباء , . الحمير وحدها تمرح . زادوها فوق اوجاعها وجع , المسعورين , كلاب الصنم , اختاروا طريقا آخر , ترنحوا من الوجل , فقدوا شهية الجماع , تناثروا في المساجد , ومرة أخرى وجدوا متعة في حمل الحطب , خلعوا ثيابهم , ثياب الأمس , تركوها جانبا , لبسوا ثيابا أخرى , أطالوا لحاهم , تركوا أقلامهم على المناضد , استبدلوها , ووضعوا بدلا منها في أصابعهم خواتم , وشرعوا بالاتهام للأخر , يا لبؤس حظنا العاثر .,انهم أعلنوا بلا هوادة الحرب على النهار في كل المدن والأرياف , من لا يعلن توبته هو الخاسر , ومن لا يعلن الإيمان والولاء هو الآثم . خفافيش الظلام نهضوا من السبات , رفعوا الحراب , أعلنوا الحداد على الأيام , متثائبين على الفراش , أجازوا متعة النكاح , متكئين على وسائد , متخاصمين على الأطباق , يتنابزون علنا بالشتائم , سذج حتى النخاع , يطربهم الخصام , لا يجيدون معنى للكلام , همهم الأكبر أن تتوسع اكبر هذه الحظائر , يمشطون بمتعة لحاهم , لا شأن لهم ما يأكل الفقراء , كل ما يزعجهم امتداد الأشجار , زقزقة العصافير , هديل الحمام , شدو البلابل , تجمعهم بقوة رائحة الولائم . كل شيء كما هو , ما حصل تبادل للأدوار وله فواصل , لم تزل مكومة الأفواه , لم تزل مكتومة الأنفاس , لم تزل مغمورة بالوحل كلها الأحلام , موصدة الأبواب , ولم تزل كما هي الأصفاد , متعددة الأشكال ملونة عليها أختام , في زنزانة مترامية الأطراف , لم يقترف أهلها إثما , لا يوجد بينهم عاق , شردوا , قتلوا , امتلأت بهم الأصقاع , لأنهم يعشقون السلام , لانهم يريدون الحياة , لأنهم يسعون للخلاص , لأنهم عاشوا هنا وشربوا ماء الفرات . كيف الخلاص ؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_