الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمرين في العمى

ميثم سلمان
كاتب

(Maitham Salman)

2011 / 6 / 23
الادب والفن


قصة قصيرة

أرغب بتعلم الكتابة وأنا مغمض العينين، فربما أصبح ضريرا يوما ما. علينا التهيؤ لأسوأ الاحتمالات، ليس المتوقع منها فحسب بل النادرة الوقوع أيضا. مارست هذا التمرين مرارا، أطفئ النور في غرفتي عند الكتابة وأحيانا أعصب عينيّ.
أشد ما يزعجني هو عدم وضع النقاط في مكانها الصحيح، وخط كلمة فوق سابقتها. أكره الانشغال برسم الكلمات ووضعها بشكل مستقيم على السطور، أكثر من طبخ الفكرة. انشغال يشتت تفكيري، ويخرج الفكرة بلا طعم ولا رائحة، هذا إن ولدت الفكرة صالحة للتناول أصلا!
عندما أنوي كتابة عبارة (أنا لست مختلا)، مثلا، تراني أظل حريصا على تدوين كلمة (لست) بعيدة عن كلمة (مختلا)، وهكذا. إن لم أدونها كما ينبغي سيظن القارئ بأني مصاب بمس فعلا؛ فقد أموت مباشرة بعد الانتهاء من كتابتها.
ما أنا بمجنون. على العكس، أنا الأكثر حكمة منكم جميعا. ما يميزني عنكم هو أنني دائما أتحسب وأتهيأ للأسوأ. فقدان البصر حالة متوقعة. قد يستيقظ شخص ثاقب البصر ليجد عينيه منطفئتين لمجرد إصابته بحمى مثلا، أو يتلاشى النور في نهاية النفق ليرفل في ظلام اليأس، أو ربما هو يقرر رفض رؤية العالم على ما هو عليه.
ليس الكتابة فقط ما يتحتم عليَّ تعلمها عندما أكون كفيفا، بل كل ممارسات الحياة: غسل الأواني، الطبخ، فرم البصل، رمي النفايات خلف العمارة التي أقطنها، التعرف على فئة النقود، الخ.
ما يساعدني في المضي قدما في تمرين العمى هو تسهيل المهمة للمكفوفين حيث وجدت أن أبجدية نظام )بريل( في أماكن كثيرة وعلى جميع العملات الورقية.
هذه التمارين أكسبت باقي الحواس طاقة غير متوقعة. كقابلية أذني باكتشاف رنين خاص لكل شيء، فصرت أخاطب الأشياء بصوت معين ثم أنتظر رجوع صدى منها ليخبرني عن ماهيتها. استغرقتُ عدة أيام لتجريب الصوت المناسب الذي يتحتم عليَّ إطلاقه لإحداث صدى على الأجسام المختلفة. وجدت أن التصفيق هو الأنسب. صرت أصفق دوما فتأتيني أصداء الأجسام المحيطة بي ثم أتلمسها لمعرفة ماهيتها وأسجلها في ذاكرتي. قد يهزأ مني بعض المارة، أحيانا يطلقون قهقهات سمجة، لكني لا آبه لهم.
كل مادة صلدة لها صوتها الخاص. أما التي لا أدركها فتكون أقل من مستوى سمعي أو أعلى. هذه المواد تكون لها رائحة مميزة، بل أن لبعضها رائحة نفاثة لم أكن لأعرفها لولا تمارين تعطيل النظر.
الناس في هذه المدينة تتعاطف معي لظنهم أني أعمى فعلا، فيحاولون مساعدتي. استسلم فقط لرغبة من يود خدمتي عندما تكون امرأة. أمسكُ يدها الملساء الحانية لتقودني إلى الرصيف الآخر. على عكس الرجل، حيث أعتذر منه مؤكدا أنني أتمرن فقط.
تطبعت على التنظيم. فالذي لا يبصر الأشياء عليه وضع حاجياته في مكان معلوم يحفظه في ذاكرته كي يسهل العودة إليها. كذلك تعلمت الصبر بسماع الآخرين بدل متابعة حركة أفواههم وهي تدعك الكلمات، أو مراقبة رونق الأعين إن حدثتني امرأة جميلة. عندما أصغي فقط، أكون أكثر حكمة بالرد. محقا من قال إننا نتعلم الكلام بسنتين ونتعلم الإصغاء بخمسين سنة.
الأعمى يرى ما لا يُرى، هذا ما تيقن لي. التأمل يستدعي تعطيل الإحساس بما حولنا والخضوع كليا لشعورنا الباطني، فصرت أبصر في قلبي وهجا يتسع كلما أمعنت في السكون الأسود. العصابة التي تلف عيني تتيح لي الغوص في داخلي على الدوام، مراجعة ذاتي وأخطائي، اجترار ذكريات لم أستطع استردادها في السابق.
السواد الدائم يريني صورا مركونة في صندوق ذاكرتي، ألتقطتهما عيناي سابقا. أغرفُ صورا مهملة في قاع رأسي وكأنني خاضع للتنويم المغناطيسي.
تعلمت كل ذلك طوال فترة عصب عيني بقطعة شاش بيضاء. عندما ألفتُ الظلمة متقنا فيها ممارسة حياتي اليومية، طلبتُ من الممرضين إزاحة الضمادة، حيث صار يمكنني مشاهدة العالم بأصابعي، وأدراك المسافة الفاصلة، في رأسي، بين كلمة (لست) وكلمة (مختلا).


http://maithamsalman.blogspot.com/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث