الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عرفات الوجدان الفلسطيني المُوَحِدْ

أحمد الناجي

2004 / 11 / 13
القضية الفلسطينية


تصاعدت دراماتيكية مرض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بشكل متسارع ولافت للنظر، لتؤول بعد مرور أقل من عشرين يوماً الى نهاية حزينة تعلن في الأخير عن ترجل الفارس من على صهوة جواده، بوفاته في باريس، بعد أن حضن بين جوانحه في غمار السنين الطويلة التي قاربت على النصف قرن، أمال وتطلعات الفلسطينيين في نيل حق تقرير المصير، وإقامة دولتهم المشروعة المستقلة.
لقد أجبرته متغيرات الظروف السياسية الدولية والإقليمية والعربية والمحلية، ومكابدات النضال الدؤوب، كقائد لحركة التحرر الوطني الفلسطيني على التنقل بين عديد من الميادين وبين عديد من المواقف وبين عديد من الأساليب، ذلك ما جعل هذا الزخم التاريخي، وكل ما أكتنزه من ارث نضالي ظاهرة مثيرة للجدل، وقد جاءت لحظات حياته الأخيرة متناغمة مع تلك السمات، وبالذات في لغز المرض الذي أصابه، وغموض أسرار وفاته المفاجئة، وعدم معرفة أسبابها.
عرفات رمز لنضال شعب، وتاريخه هو تاريخ لقضية، وأثر مديات فقدانه الكبير، قد ابتدأت من يوم وفاته، لأنه وجوده كان يمثل الوجدان الفلسطيني المُوَحِدْ الذي التف الشعب حوله، وصيرورة التمسك بوحدة الوجدان هذا، جاءت متجاوزةً لكل الأطر الضيقة، الفئوية والحزبية، بعد ان تشكلت عبر سنين النضال الطويلة، وتشذبت في خضم سياق الصراع الرئيسي مع الاحتلال الأجنبي، وتناقضات الواقع الذاتية، والكم الهائل من الضغوط الخارجية، وتجاذب الاختلافات الداخلية بين سائر مكونات الشعب الفلسطيني، وقواه السياسية، وفصائله المتعددة.
لا يمكن تجاوز معضلة الفراغ الذي سيتركه أبو عمار إلا من خلال العمل بروحية الفريق الواحد، والسير على منهجية ثقافة الاختلاف والتعددية، السمة المميزة التي تؤطر الساحة السياسية الفلسطينية، وما كانت لتكون تلك السمة، وحالة الاتزان، لولا شخصية عرفات التي مثل الاعتدال بعينه، فقد كان الخيمة التي ظللت على جميع الفعاليات والنخب السياسية في السلطة أو خارجها، بالإضافة الى تضحيات ونضالات الشعب الفلسطيني الجسيمة، التي تمثلت في تجسيد ذلك على ارض الواقع عبر إقامة المؤسسات الدستورية.
عرفات رمز الشعب الفلسطيني في كفاحه الطويل، وعنوان تجربته الإنسانية في التحرر الوطني، التي لا زالت تحث الخطى تقف أمام الاحتلال الإسرائيلي، تقارع أعتى أنواع الهيمنة الاستيطانية والاستبداد والتعسف، وعند استحضاره، كإنسان ومناضل وقائد، لابد أن يمد مسيرة رفاق دربه التحررية دفقاً في المضي على تحقيق ما كان يصبو اليه، ولابد أن يرفد أبناء الشعب الفلسطيني وهجة الضوء التي تتجلى فيها الثوابت الوطنية بوضوح.
ذلك الاستحضار ما يؤكده نديم نجدي في كتابه بيان الأطياف، حين يتوحد مع المفكر جاك ديريدا في البحث عن إجابات على تساؤلات العقل البشري عبر الدعوة الى قراءة متجددة لإبداع ماركس الفلسفي، فقد استوقفتني بعض العبارات في متن هذا الكتاب التي تعبر عن هواجس الإنسان المنطقية في استحضار المثل الإنسانية الشامخة، فتراها تملي عليك ضرورات تجلي المخزون الإرثي، سواء كان في مجال النتاج الفكري أو لمَنْ ساهم في تجارب الشعوب الحية، فنجد عندما يسبر الكاتب غور تفسيرات ديريدا الفلسفية، ومعنى استدعاءه لشخصية هاملت الإنسان من شكسبير، في الصفحة 113، يورد بالنص، (ان هيمنة شبح الأموات على الأحياء، هو أمر لا طاقة لنا على عصيانه، وطالما لا قدرة لنا على طردهم منا، فلنحييهم لينطقوا همساً اللحظة التي فينا، ولنترك وصيتهم تتكلم بذاتها عن وضع مستجداتنا الراهنة على الرغم من ان الموروث لا يتجوهر بالمصالحة ولا يتطابق بالكلام، سيبقى غيرياً على الدوام فلنعقد اذاً مصالحة مع فئة من الأشباح التي تساعد سعينا للخلاص، بالتخلص من الاحتكام المرجعي للحظة التي إئتمروا منها، فأمروا بها، ومن ثم يجب ان ندعهم يعلمونا دروساً عن تجربتهم، لينزرع فينا تمردهم، لتنمو فينا روح المشاكسة التي يجب ان تبقى مؤتمنة عند المثقفين الثوريين، القادرين على تمييز إشارات الأشباح بشغف الإصغاء الدقيق الى أصواتهم العميقة.
يجب ترك الأشباح تتكلم على هواها، حتى نتعلم تفكيك كلمتهم، لغتهم الدالة على رمز الاختلاف بين المقروء، والمسموع، بين الغياب والحضور، الخ.. يجب ان ندع الأشباح تعود ليمسي حضورها لطيفاً، فإن كان ثمة خطأ في كل ارث، فليكن بأقل كلفة مدفوعة ثمناً للمعاشرة والتعلم من الأشباح الأكثر تجربة، مما يزعمه علمنا غير الكفوء على تعليمهم دروساً تاريخية، هم أصحابها).
من هذا المنطلق، ومن منطق الأمانة التاريخية، في تخليد موروث الرئيس عرفات النضالي، فأن على رفاق دربه وأبناء شعبه، أن يستحضروه مناراً في كل حيثيات النضال الفلسطيني في الأيام القادمة، والقاً لقضية شعب ثائر يطالب بالحرية والاستقلال، وعلى الرغم من إدراكنا الكامل انه وعبر مسيرته النضالية الطويلة، قد أخطأ وأصاب، وبغض النظر عن مدى التوافق والاختلاف معه، فأن لا أحد بمقدوره، كائن من يكون، أن يشكك في وطنية هذا الرجل الثوري الذي أفنى حياته في سبيل قضيته العادلة، فقد كان صادقاً مع نفسه، تلك هي واحدة من خصال المناضل التي مكنته من فرض مصداقيته على الآخرين، لذا فأن ذكراه الشامخة ستبقى في ذاكرة الشعوب العربية وكل الشرفاء في العالم، وليس فقط في ذاكرة الفلسطينيين وحدهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غارات جوية عنيفة من الاحتلال على رفح في قطاع غزة


.. 6 شهداء وجرحى وصلوا مستشفى الكويت التخصصي برفح جراء قصف إسرا




.. الخارجية الأمريكية: لا ينبغي أن تكون هناك مساواة بين إسرائيل


.. وجوه جديدة تظهر في سدة الحكم أبرزها محمد مخبر النائبِ الأولِ




.. العلماء يكتشفون فيروسات نادرة عملاقة عمرها 1.5 مليار عام