الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجبل الذي وُلدت فيه نسراً، لا تمُت فيه عصفوراً...

فاضل الخطيب

2011 / 6 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


الجبل الذي وُلدت فيه نسراً، لا تمُت فيه عصفوراً...
يمكن أن نغلق عيوننا، يمكن أن نعزلها عن العالم، لكن الذكريات لا..
لو استطيع، لركضت إلى مواقع الثوّار، بحثت عن صداهم الذي يتلاشى -ظاهرياً منذ عقود، عن ظل بيارقهم التي تخضبت بالدم مراراً كي لا نضطر للدم مرة ثانية، عن رائحة بارود بنادقهم التي أعطت الفرصة لنا للتمتع برائحة الحبق.. بدون أن أركض أعرف مثل الكثيرين، وطبعاً أجده كذلك في وجدان الكثيرين والذين يعرفون أنه حتى كتب التاريخ أعادت بطانة عائلة الأسد كتابتها من جديد وحفظّونا إياها رغماً عن حكايا أجدادنا التي ينطق البازلت بها، لو.. لكن.. لأن بعض البعض جعلها مراعي وبنى عليها مطابخ للأطعمة الفاسدة..

هل نستطيع العيش في جبلنا وفي تلك الأجساد وبدون استحضار الذكريات غير المشوّهة التي ننحدر منها؟ وهل الشجاعة والأمانة للذكريات يمكن استبدالها بماركات مسجلّة لا تعرف رائحة القهوة المُرّة بالمَرّة، ماركة ورائحة الانقلابات وغدر الرفاق؟. ماركة الصور والملصقات الإلزامية حتى في المضافات.. الاستذكار والذكرى يحتاج إلى فضاء، ويمكن أيضاً الهروب منه إلى حين. الماضي، ليس عارٌ كي نتخطاه، بل هو نبعٌ، ونبعنا صافٍ كان. وإن مهمتنا أن نكون جسراً بين الماضي والمستقبل، جسراً للكرامة والعزة والقيم الإنسانية الغالية..

وحتى هذا اليوم لا يمكن تجاهل هذا الصمت الجبلي غير الطبيعي في فضاء سورية، لا يمكن تجاهل الصدى غير المسموع والذي تنتظره سوريا مدويّاً مسموعاً، كما لا يمكن تجاهل تلك القرقعة الطبيعية منهم ولهم.. لابد لهذه الريح أن تصل، حاملة الصوت الجبلي، لابد لتلك البراغيث أن تهرب نطوطة، لابد أن نغسل أرجل دمشق، لابد أن نرشّ تفاح السويداء ضد الحشرات والجراثيم الضارة، لابد أن نتمرجح على تينة قديمة مهما صار العمر قديم، لابد أن نجدل من قوس قزح ضفائر للصبايا، لابدّ أن يتزحلق فرحاً الأطفال بين المزرعة ومدرسة شرارة درعا على شعاع يغني "جاء الدور يا دكتور"، لابدّ أن يكتب أطفال الجبل إرحل إرحل قبل أن تصلهم رسائل الاعتذار من أطفال الوريث المخلوع...

تُمثل الطيور بالنسبة لنا عنصر سيادة الهواء، ويعتبر عنصراً ضد الجمود، السلبية، والعطالة "الدائمة". كل طيران يقوم به طيرٌ هو رسالة لنا بأن الارتقاء والطيران ليس لإلقاء نظرة على الأرض فقط بل للنظر نحو الفضاء الحر، ومن على قمة الجبل يمكن رؤية الفضاء أفضل، وفضاء الجبل لا يعني فقط أننا ذاهبون لاكتساب الحرية وممارستها، بل يعني أيضاً أننا باقون على التمسك بقلوبنا في الحرية التي ورثناها، الحرية التي لا يُمكن تدجينها في الضمير الجبلي مهما ظهر التشوّه والخوف على السطح. الخوف شيء سيئ جداً، الخوف يُشبه المعطف الضيّق، يشدّ، يشعر الإنسان فيه كأنه مُقيّد، وإذا خلعه عنه يشعر بارتياح كبير، وكأنه رفع عن كاهله ثقلاً كبيراً. إذا كنا لا نخاف، نستطيع أن نكون أحراراً من جديد، وأنا –رغم حدتي أحياناً- لم أشكك في هذا أبداً! وقناعتي أنه هناك تبدأ الحرية عندما ينتهي الخوف، والشجاعة لا تعني فقط أن يقول الإنسان الحقيقة، بل يجب قولها بصدقٍ وبشفافية رائحة "بهار القهوة" والحبق الجبلي..

أتمشى –ولست وحيداً بين الأشجار بهدوء أحياناً كي لا أُزعج الصمت، وأمسح برفقٍ على الأوراق الإبرية، والتي تردّ تحيتها بوخزات تترك نقاطٍ من الدم تتخثر مع الثلج الافتراضي المتساقط بهدوء.. أسأل أنا: مازلتم سهرانين مع الفجر؟ وأسأل أيضاً: لماذا انسلّ الفجر كلصٍ تاركاً آثار حذائه؟ وبسبب تجمد البرد بين الأضلاع أرفع هويتي وجواز سفري وأزرعها على قمة شجرة لوز مضيئة -وربما وحيدة في كرم العنب الشرقي...

كم كنّا نفخر بالجبل، الاستثناء الأفضل للحرية بين كثير من الجبال والوديان في المنطقة، الأقرب للإنسان، الملاذ الحقيقي لكل الثوار والمتمردين على السلطة المركزية منذ عصور الاحتلال في المنطقة، المتنفس الأوكسيجيني الأفضل في سماء مليئة بغاز الكربون العثماني والفرنسي وديكتاتوريات ما قبل عائلة الدكتور. قد يكون فعلاً أبدع الإله في صنعه، وتعب عليه لأنه كان يستحق ذلك.. والآن..؟.. تصبح ساحاته مرابط للمخابرات والزعران، وأكسيجينه يصبح نشادراً للشعارات الخانقة.. لابد أن ينهض وقد ارتفعت الشمس، وشربت بعض صباياه وشبابه المتي، وقام أصدقاءنا والجيران بين الأردن وتركيا بتعداد شهدائهم، وتحضير أكفان ولافتات الغد، وطبعاً تلك القبة النحاسية التي تتدلى منها النجوم الأبدية والتي كانت شواهد على تاريخه وحاضره، تلك القبة تحتضننا مع كامل خريطة الوطن، الوطن الذي فرّط الأب بقسمٍ منه والإبن بقسمٍ آخر، وإن بقي هذا التقليد "الوطني" عند عائلة الأسد وبطانتها –خصوصاً بعد قراءة وزير الخارجية لخارطة أوربا، قد يأتي الأسد الآخر على آخر جزء من الوطن، وعندها لن يبقى في مقابرنا شواهد، وسيصبح أحفادنا مجرد أرواح تبحث عن أجساد وقمصان لتتقمص بها فلا تجد!.
اذا شاهدت في المستشفى شخصاً يلبس أبيضاً ويضع على رقبته سماعة دقات القلب، فليس من الصعب معرفة مهنته.. وإذا شاهدت "رجالاً" مفتولي العضلات ومزودين بالعصي وحتى السلاح، ويقومون بضرب البنات والشباب بدون رحمة لأنهم يرفعون شعارات تطالب بالحرية، وعلى مرأى من الأغلبية الصامتة في جبل كان رمزاً للحرية والكلمة الحرة ونصرة الملهوف والدفاع عن المظلوم، أقول أن حدوث مثل هذا ليس من الصعوبة تفسيره، لكنه من الصعوبة جداً فهمه!

إن عالمنا الكبير يحمل فيه حالات خارقة جداً وغير اعتيادية، وانتفاضة شعبنا فعلاً خارقة وغير اعتيادية. وكثير من الحالات التي كانت خيالية وتصورية أو "مستحيلة" تبين أنها حقائق قريبة، ومن السهل والواجب علينا أن نتعلم الشك ونمارسه بدون خوف وتردد، أن نسمح "للفانتازيا" بالخروج و"التمرد" على ما هو نمطي ومتكرر، أن نكون منفتحين على كل جديد وحتى على المستحيل، وقد أثبت العلم والحياة مرات عديدة جدوى هذا التفكير، وفي تاريخ جبلنا أمثلة كثيرة، وفي انتفاضة شعبنا السلمية أحدث وأكبر إثبات..

الجرأة و"التمرد" مادة كمالية وثمنها غالٍ في هذا الزمن، لكن المسئولية الأخلاقية التاريخية أغلى وتفرض وقفة كهذه. قد يكون صحيحاً أن المستقبل ليس رهن أيدينا بشكل كامل، لكنه أيضاً ليس خارج إراداتنا بالكامل. ولا ينفع لبس البنطال على الوجه الداخلي(قفاه) إذا كان مثقوباً..
من لا يقول وجهة نظره أو يتخذ موقفاً في الوقت المناسب، قد لا يمكن تعويضه لاحقاً. ربما يمكن اللف والدوران، لكنه ليس بالتأكيد يمكن شرحه دائماً. الحياة نرسمها كلوحة فنان، لكن بدون محاية. ويعرف الكثيرين أن وجع الرأس المستمر قد يؤلم حتى القدم، والعكس صحيح أيضاً. المنطلقون من باب الجامع وبعد صلاة الجمعة يُذكّروننا بأنه توجد أزمة اجتماعية وانتفاضة شعبية على الأرض وهنا يجب حلّها وليس في السماء، ونرى أنه لم يبقَ فقط الجامع مكان انطلاق المظاهرات، لكن مكان الحلّ لم يتغيّر. وفي المقابل، القتل جريمة، والجريمة ليست وجهة نظر سياسية –معارضة أو موالاة-. والإنسان لا يقتل شخصاً فقط عندما ينحره في سكينٍ أو يُطلق النار عليه، بل عندما لا يُقدّم له المساعدة عند الحاجة. وهذا لا يُغيّر الرأي من الوقوف ضد من يُحاول التسلق على سكة الانتفاضة –إن وُجد- من قبل أفراد متطرفين في خطابهم أو سلوكهم، وهم لا يُمثلون أي نسبة في الانتفاضة السلمية والتي تدعو للوحدة الوطنية بكل وضوح..
ومن خلال نظرة لمحاولات بعض صبايا وشباب الجبل في التعبير عن رأيهم السلمي الحر، نرى كم من الصعب تقديم الجيّد. لكن إذا أراد شخص عمل شيئ سيئ، فإنه عادة ما يكون غاية في النجاح وهذا ما نراه عند الزعران في قمعهم لأصوات الحرية. وفي هذا الوضوح يبدو البعض كمن يلعب دور الأعمى الذي يصعب عليه أن يقوم بشرح معنى اللون الأبيض! ليس بارداً كالثلج، ولا حلواً كالسكر.!.
"أحب أن أقف أمام محكمة التاريخ كإنسان وضع الأسس العملية لدمقرطة هاييتي!" هذا ما قاله ديكتاتورها دوفالييه الرئيس الأبدي! لكنه لم يستطع تحقيق حلمه الأبدي أو توريث ابنه الغالي..
"لسنا مسئولون فقط عن الأعمال التي نقوم بها، بل عن الأعمال التي لا نقوم بها"، ولا يمكن الهروب من المسئولية، وضريبة ترحيلها أغلى بكثير من مواجهتها!..
فاضل الخطيب، 27 / 6 / 2011.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ?من ثقب البنطالون
شبيح بشار ( 2011 / 6 / 28 - 15:06 )
لم تشرح لنا من ثقب قفا البنطالون! هل هو بشار نفسه? هل تعدى الثقب ما
?وراء البنطالون? كم قطر الثقب وهل هو قابل للخياطه مجددا

اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط