الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من رام الله إلى الفلوجة

ناجح شاهين

2004 / 11 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


كان الطبيب العراقي يشكو بحرقة الأم الثاكل من " أكوام " الضحايا الأموات والجرحى الملقاة في طرقات وأزقة الفلوجة. وفي نفس الوقت كان سيل من الصور المرئية يتدفق من باريس والقاهرة ورام الله حول اللحظات الأخيرة في حياة أبو عمار الذي قرر أخيرا أن يترجل، ويترك هذه الدنيا لأصحابها بعد أن فشل في أن يحصل منها إلا على نصيب قليل. وهو الذي نذر حياته كلها من أجل دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني، يعيش فيها كل الناس الذي يرغبون في ذلك. ربما لأن هذا كان الحل الوحيد أمام إصرار الدول الكبرى على فتح فلسطين للهجرة لكل من يرغب، باستثناء أصحابها الشرعيين بطبيعة الحال.
وسواء أكان ياسر عرفات قد رحل بفعل عملية اغتيال متقنة قام بها " الموساد " أم أنه قد وافاه أجله المحتوم بفعل عوامل الزمن والعمر والمعاناة الطويلة وسط ظروف ولا أصعب، مر بها ومرت بها القضية الفلسطينية، نقول إنه سواء هذا أم ذاك، فإن كثيرين في المنطقة والعالم قد سعدوا بغيابه باعتبار أنه -على الرغم من بعض وجهات نظر المعارضة اليسارية والإسلامية- قد بقي حتى آخر رمق متشدداً كل التشدد فيما يخص القضايا المفصلية في المشكل الفلسطيني ألا وهي: اللاجئين والقدس.
لذلك فإن الأعداء قد تعاملوا بشماتة غريبة لا تجوز أبدا في اللحظات الأنطولوجية الحساسة التي يسميها الناس مواقف إنسانية. في هذه اللحظات يبدو من المحرج تماما الابتهاج بمصائب الآخرين. وتقتضي اللياقة على الأقل أن لا يظهر العدو فرحاً علنياً لا مسوغ له. لكن في الحالة الفلسطينية يبدو العزاء دائماً بارداً حتى وإن كان الفقيد بحجم ياسر عرفات.
ولذلك فإن ابتسامات البعض منهم المتعاطفة، وادعاء البعض الآخر الحزن،
لم يبد في عيون الفلسطينيين إلا كذبا وادعاء لا يحملان من المشاعر إلا بقدر ما تحمل دموع التمساح من ألم على ضحيته.
كان ياسر عرفات مريضاً بفكرة الدولة الفلسطينية، لكن دون أن يفقد المعاني الفعلية لفكرة الدولة. ولذلك فإن الذين يرغبون في أن يجرجروا الموقف الفلسطيني بعيداً عن الثوابت الأخيرة، كان عليهم أن ينتظروا غياب عرفات أو أن يخططوا غيابه. وهو مالا نستطيع أن نجزم بخصوصه لأن المفروض أن يقوم بذلك الطبيب والمختبر. الحق يقال أن الذين يتوهمون أن غياب عرفات سيهون الأشياء قد خاب سعيهم في الأعم الأرجح. لأن عرفات ترك إرثاً سياسياً سُيلزم من يأتي بعده بحده الأدنى. وإن أحدا على الأغلب لن يجرؤ على تخطي الحدود النهائية التي وصل إليها عرفات نفسه. أم أن صناع السياسة في واشنطون وتل أبيب يظنون خلاف ذلك؟ نتذكر تشكيك أمريكا وإسرائيل في شرعية عرفات وإصرارهما على انتخابات ستأتي لهم " بالمعتدلين" المستعدين للتوقيع على " بياض". بعد قليل تراجع الأمريكان عن المطالبة بالانتخابات، لأنهم اكتشفوا أن الانتخابات سوف تعود بعرفات الذي لا يمكن تجاوزه إلا كما يحصل الآن: أي بالموت البيولوجي الذي لا ُيرد. كما اكتشفوا أن من سيسقط هم ممثلو التيارات التي راهنوا عليها أكثر. اليوم سوف يعتمد الفلسطينيون كما يبدو حتى اللحظة الصندوق الانتخابي مرجعية يحتكمون إليها، ونظنها سوف تأتي على الأرجح بما لا يرضي الأعداء. ستأتي بلحمة جديدة، ربما تحالفات مختلفة قليلا أو كثيرا. لكن الأساس أن أولويات فلسطين وأبنائها ستبقى الأساس في كل تغير قادم.
رحل عرفات دون أن يتمكن من الصلاة في القدس، ودون أن يتمكن من أن ينام فيها نومه النهائي. لكنه لم يقف أبداً على الرغم من سوء الأوضاع المقارن وقفة أبو عبد الله الصغير بقرب أسوار غر ناطة. وقف كما تقف اليوم مدن العراق الذبيحة. يمكن للمرء أن ُيدمر وأن ُيقتل وأن.. ولكن ليس بالإمكان أبداً أن ُيهزم أو يدفع إلى الاستسلام.
وقف آلاف بل ربما مئات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين في استقبال المروحيات التي حملت عرفات عائداً، بأيد محايدة هذه المرة. إنها العودة الأخيرة. كان ذلك استفتاء على السياسة أكثر مما هو على الفرد. وكان يجسد إنذاراً بطبيعة المستقبل الذي لن يقبل بأقل ما قبل به أبو عمار.
جموع كبيرة يكللها الحزن العميق، غارقة في الدموع السخينة، تندفع بجنون لتحتضن الطائرة. وفي الجهة الأخرى جموع كبيرة تنتفض في بغداد في مقاومة لا مثيل لها لهجمة رعاة البقر الجدد. ورعاة البقر يحاصرون الماء والهواء من رام الله إلى الفلوجة. لكن جمهرات من الناس تمضي في طريق التضحية لا تلوي على شيء، تلهمهم في ذلك زفرات العظماء الأخيرة. ويشدهم خيط من دماء الشهداء يبدأ من حملة هولاكو على بغداد ويصل إلى شهداء الفلوجة مع المرور غرباً على صبرا وشاتيلا وجنين لتلتقط العدسة في تفاصيل المشهد عز الدين القسام وغسان كنفاني وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي و .... ياسر عرفات. إنها قائمة لا تنتهي. وهذا العرس الذي يتوجه اليوم ياسر عرفات في رام ال،له وآلاف من الأضحيات "البريئة" والمقاومة في الفلوجة، هذا العرس ينذر القاتل في العراق وفلسطين أن حساب التاريخ لن يخلف وعده. وأن هؤلاء الناس سيواصلون الطريق إلى آخره. ألا فليهنأ الشهداء في مقاماتهم الرفيعة، ولينتظر الشامتون قليلا من تل أبيب إلى واشنطون، وربما إلى لندن العجوز، فإن الستارة لم تسدل بعد إلا على جثمان البطل وحياته البيولوجية. وأما الحياة السياسية لعرفات وتراث المقاومة كله من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فلن ُيسدل ستاره إلا بتحقيق الأهداف والأحلام والأماني والآمال. ولينتظر عشاق الموت قليلا فلعله يطال أحلامهم المريضة، ويخلص البشرية منها، قبل أن يطال أجسادهم ونفوسهم الملوثة بالحقد والكراهية للمثل والقيم الإنسانية أجمع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شيرو وشهد يختبران مدى التوافق بين عمار وريم ????


.. بحثا عن غذاء صحي.. هل المنتجات العضوية هي الحل؟ • فرانس 24 /




.. خروج مستشفى الأهلي المعمداني عن الخدمة بعد العملية الإسرائيل


.. إسرائيل قطعت خدمات الاتصالات على قطاع غزة منذ نهاية شهر أكتو




.. أمهات المحتجزين الإسرائيليين ينظمن مسيرة في الكنيست