الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العبث والإنسان في مسرح البير كامي

سرمد السرمدي

2011 / 7 / 3
الادب والفن


إن هذه النصوص المسرحية تعد علامات فارقة يستدل بها على الأدب المسرحي العالمي, نظرا لأن كتابها اشتهروا بتوجهاتهم الفلسفية, ولكون هذه النصوص تمثل خلاصة آرائهم من ناحية, وتعبر عن واقع الفكر الإنساني المعاصر من ناحية أخرى, لتحاكي العصر الذي تحول فيه الإنسان إلى مجرد شيء مادي يعامل مثل بقية الظواهر الطبيعية مختبريا, حتى إن اختيارهم كان لمواضيع حساسة ودقيقة جدا تمثل عمقا وفهما عاليين للأزمة الإنسانية.

أن التناول الموضوعي للمسرح يجب أن يكون مركزا على المواضيع التي ترتبط ارتباطا وثيقا بأزمات العصر ومشاكله, فيقول سارتر في هذا الصدد إن من المستحيل على الكاتب أن يتملص او يفلت من الاندراج في العالم وتكون كتاباته تتميز بصفتين: تفرد كينونتها وعمومية مراميها, ويقصد من ذلك أهمية أن تحتك الفلسفة بالواقع من خلال الآداب والفنون, وتجدر الإشارة إلى مقولة سارتر لتوضيح أهمية الاختيار عند الكتاب فيقول: إن اختيارنا لنمط معين من أنماط الوجود هو بالوقت ذاته تأكيد لقيمة ما نختار لأننا لا نستطيع اختيار الشر بل ما نختاره دائما هو خير لنا بل لجميع الناس, و تنطلق النصوص التالية من دراسة ذات الإنسان أولا وأخيرا, ونرى ان النص المسرحي عند البير كامو عادة يميل إلى التعميم والشعبية, ويمتاز بصفة التغيير ومحاولة التأثير في الأوضاع وأحداث الانقلابات بين الجموع, وهو لا يعتمد على المحاكاة البلاغية ولا يقف على دعائم من التعبير اللغوي المنمق, فقد جاءت أعمال البير كامو خالية من المحسنات اللفظية, وبهذا يتم احالة الفكرة الفلسفية الى واقع حسي ملموس, وهكذا تصل الفلسفة لأبسط الناس بشكل يسهل فهمها, لكن هذا لا يعني اهمال الناحية الجمالية في الأسلوب الأدبي, بل يضع الشكل في المرتبة الثانية بعد المضمون, وواقعية عملية إدراك القيم من قبل الجمهور الذي يهدف إليه الأدب المسرحي بالدرجة الأولى, فقد حرص كبار المسرحيين في القرن العشرين على ان يفكروا تفكيرا مركزا عميقا عاكفين على دراسة المشاكل الاجتماعية الكبرى, وعلى ان يدفعوا المتلقي للتفكير بهذه المشاكل, وعلى رأسهم كتاب مثل مارسيل وكامي وسارتر.

قبل الخوض في عرض أعمال البير كامي ومنها مسرحية حالة حصار, لابد لنا من توضيح حول فكره, فلم يكن البير كامي فيلسوفا, ولا معتنقا لنظرية فلسفية معينة, بل كان مفكرا له أسلوبه الذاتي, كما لم يكن من تلامذة جان بول سارتر, ولا من الذين يعتنقون المذهب الوجودي, ولم تكن العلاقة بينهما سوى علاقة تفاهم فكري دام بعض الوقت, وانتهى بخلافات فكرية, إلا أن هذا لا يعني عدم وجود أي ملامح للفلسفة الوجودية في مسرحياته, لكنه كمفكر لا يحسب على الفلاسفة الوجوديين, وتعد رواية الغريب مثالا جيدا للتعريف بأدب البير كامي, فهي كانت إعلانا صريحا من قبله كأديب ومفكر عن الرفض القاطع لما حل بالإنسان المعاصر, وتصويرا دقيقا حيا يتلمسه القارئ من خلال الحوارات الداخلية للشخصيات, لتعبر عن أكثر المشاعر الإنسانية قربا للضياع وفقدان الأمل بالحياة...

مارسيل: كنت متأكدا من نفسي, من كل شيء, أكثر من كل شيء, متأكدا من حياتي, ومن هذا الموت الذي سيأتي, نعم... لم يكن عندي سوى ذلك ولكني على الأقل كنت أتشبث بهذه الحقيقة كما تتشبث هي بي..

وفي رواية الموت السعيد نجد إصرار كامي على تأسيس تلك الرؤية للإنسان والعالم الذي يحيط به, الرؤية التي جسدها بطل الرواية الذي عانى مصاعب الفقر والمرض والحب, أدت إلى صراعات نفسية, ورغم تشابه اسم البطل مع بطل رواية الغريب إلا أن الأحداث اتخذت منحى مغاير تماما في الأسلوب والتصوير من قبل كامي, مع حرصه على عرض وجهة نظر إنسانية مؤطرة بالسواد واليأس, هذه الصفة تسود على أدب البير كامي في رواياته مثل المنفى والملكوت, أسطورة سيزيف, اعراس, المقصلة, السقطة.

تصور لنا مسرحية حالة حصار سكان مدينة اسبانية تدعى كاديز, يعيشون حياتهم الطبيعية الخصبة فاقدي الوعي مسلمين بها تسليما لا يقبل المناقشة, في ظل نظام تقليدي عاجز لا أثر له, يمثله الحاكم والقاضي والكنيسة, وذات يوم ينشب الوباء مخالبه داخل جسد المدينة, فيفرض عليها نظاما بيروقراطيا جامدا مجردا كأنه القدر, ويحطم الوباء حياة المدينة فيشل الوجدان ويقتل الحرية والحب والمغامرة وتصبح العداة انتقاما والحب كرها والشرف جبنا وينقطع تيار الحوار الإنساني الذي يعبر به البشر عن مخاوفهم وآلامهم عن إحزانهم وأفراحهم, عن أسئلتهم وأجوبتهم, ويسود حكم الصمت, ويكثر المونولوج في المسرحية, ويظل الحكم سائدا حتى يتشنج الطالب والعاشق دبيجو وهو الشخصية الرئيسية فيصرخ صرخة الاحتجاج والتمرد التي يعبر عنها أدب البير كامي بشدة في اغلب إعماله.
وينزع دبيجو القناع عن وجهه ويحرر سكان المدينة من خوفهم...

دييجو: مالذي استطيع أن اقهره في هذا العالم , إلا الظلم الذي وقع علينا ..

وينقذ حبه بعد أن يدفع حياته ثمنا له, أن التمرد على المحال ممثلا في صورة الوباء يتجسد في هذه الشخصية للبطل , انه يزيل أكوام الكسل والخوف وعدم الاكتراث ويؤجج شرارة الحياة والقوة والحرية في نفوس سكان مدينة كاديز, لقد سقط شعب مدينة كاديز ضحية نظام سلبي مجرد, تقول سكرتيرة الوباء: هل ما زلت تحس بالخوف؟, ويجيبها دبيجو لا, وترد السكرتيرة قائلة: إذن فلست املك شيئا ضدك!, ويتغلب دبيجو على الموت في نفسه وفي نفوس الآخرين, لا عن طريق غرور وكبرياء بل عن وعي بموقفه اليائس الذي لا مخرج منه والذي يزيد الموت من وطأة الظلم فيه, أن المتمرد الشاب دبيجو لا يريد أكثر من أن يكشف لسكان مدينته عن معنى قدرهم الذي خلا من كل معنى بنظره, انه يريد أن يوقظ حياتهم التي غاصت في السلبية واللاوعي, وعدم الاكتراث, تمرده كان دعوة إلى الوعي الناصع بالمحال.

في مسرحية كاليجولا تتجسد في شخصيته تجربة الإنسان الذي يملك من القوة التي تمكنه من أن يحول منطقة المحال إلى واقع فعلي, فالمحال عنده ليس مجرد شعور أو عاطفة بل فكرة فلسفية تسيطر على كيانه فلقد اكتشف كاليجولا فجأة على اثر وفاة شقيقته أو حبيبته درزيلا, أن العالم محال.

هذا الاكتشاف الذي توصل إليه فيه تكمن حريته في انه جعل المستحيل ممكنا ولو أنها حرية فاسدة, يلخصه في هذه العبارة..

كاليجولا: الناس يموتون وهم ليسوا سعداء, إنا الحر الأوحد في الإمبراطورية الرومانية بأسرها,

وفي حوار أخر ..

كاليجولا: أريد أن أذيب السماء في البحر واصهر الجمال مع القبح وان اخلق من الألم فقاعات من الضحك.

لم يفرق كاليجولا بين الممكن والمستحيل, فهو يريد أن يمد يده فتلمس القمر, ولكنه لم يقدم على الانتحار, على الاختيار الصعب, وهكذا حال هذا بينه وبين معرفة الممكن والمستحيل والفرق بينهما, وشخصية دبيجو المتمرد على الآخرين وكاليجولا المتمرد على نفسه والآخرين تقودنا إلى استعراض شخصية مارتا المتمردة على الله, مع أن الثلاثة يؤكدون في تمردهم عبثية الوجود الإنساني على أكمل ما استطاع البير كامي أن يصور مسرحياته ويتضمنها فكرته عن الوجودية, إلا أن شخصية مارتا في مسرحية سوء تفاهم, تقدم على الانتحار أخيرا حينما تكتشف أنها قتلت أخاها عن طريق الخطأ, بعد أن تدرك أن ذلك لم يكن ليحدث لو لم يكن الوجود عبثا في عبث, لذا فأن أقصى حدود التمرد هي الانتحار. *للمزيد ينظر: سرمد السرمدي, تفكيك المسرح الوجودي, رؤية نقدية, المركز الثقافي للطباعة والنشر(بابل), مسجل لدى دار الكتب والوثائق العراقية, بغداد, رقم الإيداع 250 - السنة 2011م.

الكاتب
سرمد السرمدي
أكاديمي - ماجستير فنون مسرحية - كلية الفنون الجميلة - جامعة بابل
العراق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي