الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كما شق نهر النيل طريقه الوعر

نوال السعداوى

2011 / 7 / 5
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


أنا شاب فى الرابعة والعشرين، تخرجت فى كلية العلوم، اشتغلت فى مطعم وأنا فى الحادية عشرة من عمرى، لأنفق على نفسى ومصاريف الدراسة، كنت أحلم بأن أكون من علماء الكون وأكتشف كوكبا جديدا يعيش فيه الناس سعداء يتمتعون بالحرية والعدالة والكرامة، حياتى منذ طفولتى خلت من الحرية والعدالة والكرامة، أسرتى تحت خط الفقر تعيش الذل كل يوم بسبب الهوان، أقله عدم وجود مرحاض وماء فى الغرفة التى نسكنها، أبى يشتمه رئيسه المقهور دون سبب للتنفيس عن القهر، أمى يشتمها أبى دون سبب للتنفيس عن غضبه من رئيسه، أختى الصغيرة هى الحيطة الواطية تضربها أمى بعد أن يضربها أبى، وأنا أهرب من البيت قبل أن أفقد الوعى،

ساعدت أختى على أن تشتغل فى مطعم نظير ٥٠٠ جنيه فى الشهر، أحبها زميل لها فى المطعم وتزوجها، شاركنا نحن الثلاثة أنا وأختى وزوجها فى الثورة، هتفنا حتى بحت أصواتنا «الحرية العدالة الكرامة» فى نفس واحد كنا نهتف نتطلع إلى حلم الطفولة، ملايين الأصوات تهتف معنا، ترتج الأرض والسماء بقوة الملايين، نفس واحد يد واحدة قلب واحد عقل واحد، أمسكت السماء بيدى فى نشوة الأمل، أصابتنى يوم الأربعاء الدامى ٢ فبراير ٢٠١١ طلقة قناص فى عينى اليمنى وشظية فى العين الأخرى، أظلمت الدنيا بعد أن غرقت عيناى فى نزيف الدم والألم، يشبه النار وأكثر، فقدت الوعى من شدة الألم والنزيف، أفقت فى المستشفى على أصوات حادة، الممرضات يزعقن والمرضى يصرخون، والقطط تموء والصراصير تجرى تحت السرير، أخيرا ظهر طبيب يبدو عليه الهزال والغضب، معطفه الأبيض متسخ مبقع بالدم، قال لى بسرعة دون مبالاة إن عينى اليمنى راحت خلاص مالهاش علاج إلا فى أمريكا، والعين التانية يمكن أشوف بيها إن شاء الله، بدت لى أمريكا حلماً بعيد المنال،

وبدت مشيئة الله أقرب لى من أمريكا، توكلت على الله الملجأ الوحيد لأمثالى تعرضت للإهمال مثل كل الفقراء المرضى الذين ليس لهم ظهر فى المستشفى، لا أحد زارنى إلا أختى التى طلقها زوجها بعد أن تعرف على خادمة فى بيت رجل أعمال بالزمالك يدفع لها فى الشهر ألف جنيه، ضعف راتب أختى فى المطعم، بلغ الحزن بأختى فأصابتها حمى غريبة، فصلها المطعم بسبب مرضها، تمشى فى الشوارع تكلم نفسها، تهيل التراب فوق رأسها، سرق أطفال الشوارع حجابها، ترفع كفها للسماء تطلب العون وتنام الليل على الرصيف، عثر عليها الجيران فى الشارع بعد أن سقطت من الإعياء، أخرجونى من المستشفى، لأننى شفيت من النزيف والألم، فقدت عينى اليمنى تماما، عينى اليسرى أرى بها طشاش، أرى الطريق دون عون من أحد،

حمدت الله على رحمته حين رأيت شابا أعمى يقوده طفل، لو فقدت كل بصرى من يمسك يدى؟ أجلس على قطعة حجر قرب ميدان التحرير أفكر فيما أصابنى، أتمنى أن يعود الزمن قبل ٢٥ يناير حين كنت شابا قوى البصر مليئا بالصحة والأمل، أصبحت شبحا نصف ميت، أحسد شهداء الثورة، الموت أرحم من حياة البؤس، تعرف على وجهى زميل فى الثورة وأنا جالس فوق الحجر، كان محظوظا عنى، أصابته طلقة رصاص فى ساقه اليمنى، يسير على عكاز لكن عينيه سليمتان تلمعان بالصحة، كانت فى يده قصاصة من جريدة «الأهرام» بتاريخ ٢٣ يونيو ٢٠١١، مانشيت صغير فى الصفحة الثامنة يقول: خمسة آلاف جنيه لكل مصاب فى الثورة، لقد عقدت لجنة مصابى وجرحى ثورة ٢٥ يناير، أمس، بمقر مجلس الوزراء اجتماعاً، وتمت الموافقة على صرف مبلغ خمسة آلاف جنيه لكل مصاب بثورة ٢٥ يناير، وذلك من وزارة التضامن الاجتماعى، وبجميع فروع الوزارة بكل المحافظات هذا،

وقد تم صرف مبلغ ألف جنيه، قبل ذلك لعدد ١٠١٤ مصابا من أحداث الثورة سيتم رفعها لمبلغ الخمسة آلاف جنيه وعلى المتقدم للصرف التوجه إلى وزارة التضامن الاجتماعى بجميع مقارها فى كل محافظات الجمهورية، وتقديم البطاقة الشخصية الخاصة بكل مصاب، والتقرير الطبى المذكورة فيه نسبة الإصابة ومحضر النيابة إن وجد، حتى تتم الموافقة على الصرف الفورى، وذلك حتى يوم ٣٠ يونيو الحالى، قال لى لم يبق إلا يومان على ٣٠ يونيو، سألته، هل يكفى يومان لاستخراج كل الأوراق المطلوب تقديمها قبل صرف الخمسة آلاف جنيه؟، قال زميلى: إن الأوراق المطلوبة تحتاج لأسبوعين مش يومين، والأسهل نشوف واسطة لوزارة التضامن الاجتماعى تعرف حد هناك؟ قلت هى فين الوزارة دى؟ قال، دى وزارة جديدة، من الحاجات اللى عملوها بعد الثورة، حطوا عليها وزير من حزب قديم من أيام السادات، يعنى ما فيش فايدة من أى حاجة؟ كنت عاوز وزير من الحزب الجديد بتاع الدقون الطويلة؟ كلهم زى بعض يا أخويا، عوضى على الله فى عينى اليمين، وأحمدك يا رب، رأفت بحالى فى عينى الشمال. غربت الشمس ومصاب الثورة جالس فوق الحجر يتأمل السماء.

بعد أيام قليلة جاءه زميله بقصاصة جديدة من جريدة «الأهرام» بتاريخ ٢٩ يونيو صفحة خمسة، مانشيت صغير تحت عنوان: زكريا عبدالعزيز يعد مشروعاً لعلاج مصابى الثورة، يتقدم رئيس نادى القضاة الأسبق بالمشروع إلى الجمعيات الأهلية تحت التأسيس المختصة بعلاج مصابى ثورة ٢٥ يناير ورعاية أسر شهدائها، وذلك لمساعدتها على بدء عملها، وتوفير المقار اللازمة لها بعد معاناتها مع الحكومة لتحقيق هذا الغرض، وقال المستشار إن المشروع يتضمن عدة مراحل بسيطة، مشيرا إلى أنه لا توجد صعوبة فى المقار، لكن نظرا لتعدد هذه الجمعيات فقد اقترح إنشاء اتحاد عام للجمعيات الأهلية يقوم بالتنسيق بين كل الجمعيات الأعضاء فى جمع المعلومات من المصابين، قرأها الشاب المصاب، وغامت الدنيا فى نصف عينه الباقية، أطرق فى الأرض لا يعرف ماذا يفعل، سأله زميله، ألا تعرف أحدا من نجوم الحكومة أو المعارضة أو الصحافة أو الإعلام؟ لا أعرف أحداً.

ثم سأله، هل تندم لأنك شاركت فى الثورة؟ الندم يقود إلى الموت، وأنا ما زلت أعيش، ويمكن أن آكل ساندويتش فول، وأشارك فى الثورات القادمة حتى أموت، تحمس زميله ودب النشاط فى جسده، سار الاثنان جنبا إلى جنب، والتحما بالملايين الجديدة فى ميدان التحرير، أصابته طلقة رصاص مساء الثلاثاء الدامى ٢٨ يونيو ٢٠١١، لفظ أنفاسه صباح اليوم التالى، نهض زميله يلف الرباط حول ساقه، سمع الهتاف يرج الأرض والسماء بأصوات الشباب والشابات، فاندفع معهم على عكازه إلى الميدان الجمعة أول يوليو ٢٠١١.

الثورة تشق طريقها الشاق كما فعل نهر النيل فى التربة المصرية، ملايين السنين، حتى تصرف الحكومة التعويض للقتلى والمصابين، وتعلن نتيجة التحقيقات مع القتلة والمرابين!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ألا يخجلون؟
أحمد المستعان ( 2011 / 7 / 5 - 18:55 )
يقول المصاب:
أنا شاب فى الرابعة والعشرين، تخرجت فى كلية العلوم، اشتغلت فى مطعم وأنا فى الحادية عشرة من عمرى، لأنفق على نفسى ومصاريف الدراسة.. أسرتى تحت خط الفقر تعيش الذل كل يوم بسبب الهوان، أقله عدم وجود مرحاض وماء فى الغرفة التى نسكنها... أختى ... أحبها زميل لها فى المطعم وتزوجها....أختى التى طلقها زوجها .. بلغ الحزن بأختى فأصابتها حمى غريبة، فصلها المطعم بسبب مرضها، تمشى فى الشوارع تكلم نفسها_انتهى

أول ما يتبادر إلى ذهني_و تحملوا قسوة كلامي_أين كرامة هؤلاء؟ لماذا يرتضون بحياة كهذه؟
ألم يسأل الأب نفسه قبل أن يتزوج وينجب أبناء يظلمهم
أليس الأب عاقلا ومسئولا عن تصرفاته..أيلقي ببشر إلى حياة منحطة ثم يرمي بمآسيه على غيره؟ ما الفرق بين العاقل والحيوان؟
كيف تتزوج الابنة؟ ألا تفهم أنها سوف تأتي بأطفال يعيشون كالبهائم؟

أول المسئولين عن هذه المآسي هم أبناء هذه الطبقات الفقيرة..

لا أطالب بتعقيمهم لكن أطالبهم بتحمل نتيجة انحطاطهم البشري بدون شكوى فهم أول المسئولين قبل الحكومات وباقي المواطنين


2 - هذا هو السبب - 1
Hany Shaker ( 2011 / 7 / 5 - 23:15 )
انتهت الثورة وبدأ العد التنازلى لظلام بارد وليل طويل ستمر فيه مصر باحلك اوقاتها منذ عصر المماليك. لا يمكن اتهام المجلس العسكرى او تحميله المسؤلية عما اوصلنا للظرف الحالى. هم الان حلقة مفصليه فى دورة التاريخ الذى لا نقرؤه وان قرأناه لا نفهمه وان فهمناه لا نصدقه مفضلين دفن رؤسنا فى الرمال. منذ حوالى قرنين هيأ الله لمصر فرصه للنهوض و الترقى. ونحن اهدرنا الفرصه. مر على حكم مصر شرفاء ولصوص. نبلاء و اوغاد. باذلين و افاقين. بناء و مخربون. الاسماء لا تهم و الاحداث مرت. لكن اخر من حكم مصر مسؤل عن اكبر كمية من التدمير. لذلك سيحكمنا العسكر و الاجانب مائة سنه اخرى ‪..‬

‪-‬ اخطر تركه لمبارك ونظامه هو مصر المفككه و حال وحجم الجمهوريه الرابعه التى تركها. خلال السنين الاخيره لحكم مبارك بدت مصر وكانها مكونه من اربعة طبقات او جمهوريات. فى اعلاها يقبع الرئيس المخلوع فى طبقه من مائة شخص يضمون اسرته و اعوانه القربين و رجال اعمال هم قمه فى الفساد. ثرواتهم خياليه و دخل بعضهم يراوح المليون جنيه يوميا. شخص او اثنين من هذه الطبقه ما زالوا فى اماكن سلطتهم وهم الحكام الفعليين لمصر اليوم و العشر سنوات القادمه.


3 - هذا هو السبب - 2
Hany Shaker ( 2011 / 7 / 5 - 23:17 )
بعدها تاتي الطبقه الثانيه , الجمهورية الثانيه , وتتكون من خمسة ملايين من المصريين تصل مداخيلهم الى مليون جنيه فى السنه للاسره وهم معدودين كقوه شرائيه جباره تضاهى الطبقات العليا فى امريكا و اوروبا. هولاء يكسبون رزقهم بالحلال او بالحرام او كليهما. مثلا ميزانية وزارة الداخليه الاخيره كانت سبع مليارات جنيه فى حين وصل استهلاك المخدرات الى ثمانية و عشرين مليار جنيه العام الماضى. الجمهوريه الثانيه حاضره بقوه فى الاستهلاك المسرف التافه و الاعلانات الاستفزازيه المرافقه له و الشئ لزوم الشئ. للامانه اثبت شباب هذه الطبقه انهم اكثر رشدا ووطنيه من ابائهم و حركوا ثورة مصر. الطبقة الثالثه , الجمهوريه الثالثه , تتكون من حوالى عشرة ملايين مواطن معظمهم شرفاء وطنيين هم عصب الاقتصاد الصحى غير الطفييلى. هم التجار و الصناع الذين استحقوا لقب المستورين فى مسمياتنا. دخل الفرد فى هذه الطبقه حوالى الف جنيه فى الشهر.


4 - هذا هو السبب - 3
Hany Shaker ( 2011 / 7 / 5 - 23:17 )

اخطر ما تركه لنا حسنى مبارك و نظامه الفاسد هو الطبقه الرابعه او الجمهوريه الرابعة . خمس وسبعين مليون نسمه من المعدمين سيئوا الصحة و التغذيه يعيش تسعة اعشارهم فى العشوائيات و العشر الباقى فى الشوارع. هذه هى جريمة مبارك الحقيقة و خيانة اكبر من بيع مصر للاعداء و اكبر من نهب خزينه الدوله. متوسط دخل الفرد فى الجمهوريه الرابعه هو الف جنيه فى السنه كلها . حياتهم ومعيشتهم اقل او ادنى من حياة حصان من خيل الاهرامات او ابقار الحقل. كل اناثهم اميين وكذلك تسعة اعشار ذكورهم. دخل الفرد منهم فى عشر سنوات يوازى سرقات مبارك الشخصيه فى دقيقه واحده. بسببهم لا يحتاج اعداء مصر شن اى حروب اما اصدقاء مصر فعندهم معين لا ينضب من صغار الزوجات. بسبب اعداد و حجم الجمهوريه الرابعه ستتكرر غزوات الصناديق و سيحكمنا العسكر مائة سنه اخرى. رئيس مصر القادم مواطن مصرى من الجمهورية , اقصد , الطبقه الاولى. لقبه ورتبته : الامام المشير !


5 - هذه هى حالنا
عبد الله محمد صقر ( 2011 / 7 / 8 - 01:03 )
الاستاذة الفاضلة نوال , انا احيى فيك هذا العرض الرائع وإن دل إنما يدل على أنك معلمة واعية وعلى قدر كبير من المسئولية , ومصيبتنا أننا خلقنا فى مجتمعات لا تقدر الانسان ولا الحيوان , لقد شهاهدت فى التلفاز مشهد حقيقى لكلب سقط فى بالوعة فى أحد الدول الاوروبية , وعلق المذيع على المشهد بأن رئيس الحى قدم أستقالته , وأيضا شدنى مشهد فرق الانقاز التى كانت كخلية نحل كى تخرج كلب من البالوعة وهو حى حتى لا يفقد حياته . فى أوطاننا المزعومة نحن نلاقى حتفنا على الطرق ولا مجيب , نحن نواجه الفقر ولا مجيب بالرغم من أن المواطن فى دول أوروبا تكفله دولنه كفاله كاملة حتى لا ينجرف نحو الجريمة , أطفالنا فى الشوارع ينامون على الارصفة ولا مجيب , أمهات يموتن من فقر الدم خلال الولادة ولا مجيب , التسول من أجل الحاجة ولا مجيب , أنحراف الشباب نظرا للبطالة ولا مجيب , يا سيدتى أنا كنت من الذين أشتركوا فى حرب أكتوبر وأصبت خلال الحرب وخرجت من الجيش دون أن أعطى شهادة شكر ولو كنت بشتغل لدى راقصة لكانت كرمتنى هذه هى حالنا .

اخر الافلام

.. لحظة ضرب مستشفى للأطفال بصاروخ في وضح النهار بأوكرانيا


.. شيرين عبدالوهاب في أزمة جديدة وصور زفاف ناصيف زيتون ودانييلا




.. -سنعود لبنائها-.. طبيبان أردنيان متطوعان يودعان شمال غزة


.. احتجاجات شبابية تجبر الحكومة الكينية على التراجع عن زيادات ض




.. مراسلة الجزيرة: تكتم إسرائيلي بشأن 4 حوادث أمنية صعبة بحي تل