الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 10

محمد علي الشبيبي

2011 / 7 / 6
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)

انقلاب 8 شباط 1963

الحرس القومي
حين بدأت عطلة نصف السنة، عدنا -نحن الثلاثة الذين تم نقلهم- إلى عوائلنا وبيوتنا في كربلاء بعد رفع الإقامة الجبرية. العطلة ليست مدة كافية نرتوي بها من معاشرة أبنائنا وأهلينا، ونقضي أهم ما تحتاج عوائلنا إليه.
يوم الخميس 7 شباط التقيت بزميلي جليل السهروردي. اتفقنا على موعد للعودة سوية إلى مقري وظيفتنا بعد ظهر الجمعة. إنها آخر يوم من العطلة. ولدي همام هو الآخر قضى أيام العطلة بيننا. إنه يقيم في بغداد معلما مسائيا، وطالبا جامعيا أيضا في كلية التربية. يوم الخميس بدا مكتئبا أشد ما تكون الكآبة. ظهر ذلك واضحا للجميع. وتساءلنا، عما إذا كان يشعر بألم، أو مكدرا وحاجة!؟ أجاب: لا أعرف سر سأمي، إنه مفاجئ، وكمن يتوقع حدثا مخيفا أو محنةً تعصف به ولابد من سفري اليوم إلى بغداد!
لا غرابة إن ربان السفينة مازال معتد برأيه. يلعب لعبة الأطفال. بل السذج الأغبياء. أما قادة الأحزاب الوطنية، هم أيضا يلعبون لعبة خطف اللحاف، كل يريد الأمر له، باسم الشعب. ونهجهم لا يأتي إلا بدمار الشعب، وتشتيت وحدته.
صباح الجمعة الثامن من شباط، حزمت أمتعتي، وانتظرت أن تنتهي ابنتي من كي قمصاني. كان الراديو يصدح بالأغاني. سكن فجأة. صاحت واحدة من أغلقه؟ أجابت الأخرى: يجوز إن الكهرباء تعطل! ردت عليها: المكوي بيدي مازال متقدا!
وفوجئنا بالمذيع يعلن نبأ الإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم، وان الثورة انتصرت! وهي تتعقب أنصار قاسم.
وعجت كربلاء بالمظاهرات، شيوعية وأخرى بعثية وقومية. وأنا ماذا أفعل؟ كان أهلي قد هيأوا ما أريد من أجل السفر، ولكن الآن ما الذي أفعل؟
وأرسلت ابني محمد إلى -الكراج- ليستوضح عما إذا كانت حركة السيارات قد توقفت أم لا. ولم يعد إلا بعد فترة تجاوزت الساعة يعلن عن تفصيلات لا نعلم عن مدى صحتها، وممن استقاها؟ لكنه علم أن السفر ممنوع!
ووقفت على عتبة باب الدار أسائل من يمر، علهم من أهل العلم عما حدث. المارة كلهم يمشون مشية المرتبك بعضهم يضحك ساخرا ساخطا. حين أسائل أمثاله، يردني بهز يده ورأسه وضحكة ألم!؟ وأسمع دوي الهتافات من بعيد، ولا أفهم شيئا. اصعد إلى سطح الدار، وأعود إلى الباب. مرّ احد المحسوبين على صف الشيوعيين. سألته ما الخبر. أجاب لا يهمك، الصراع دائر في وزارة الدفاع! وستبدو عن قريب النتيجة الحاسمة؟
وبعد الظهر انتهى كل شيء بانتصار القوى المتحالفة البعث العربي الاشتراكي، والقوميون العرب تساندهم كل القوى الرجعية والمشبوهة. لم يدر في خلدي أي احتمال بان إجراءات صارمة سيتخذها أولوا الأمر الجدد. لكن الجو أكفهر، وساد الناس وجوم، وعلى الوجوه المنكمشة تساؤل، ماذا يا عصام؟
في العهد الملكي حدثت انقلابات كثيرة. فيسقط حكم ويتربع على كراسي الحكم حكام جدد، غالبا ما يكونون ممن مارسوا الحكم، لكن من يؤيدهم لا يصاب بسوء، الجدد يهمهم الرؤوس لا الأتباع ولا الأذناب. وحين تفجرت ثورة 14 تموز، سمينا العهد الملكي ورجاله بالعهد المباد.
فماذا سنرى من الحكام الاشتراكيين!؟ هل سيحترق الأخضر باليابس! صباح السبت 9 شباط قبيل دوام الدوائر، سيارات الشرطة تجوب الشوارع. تحمل بعض رجال شرطة الأمن. وطُرقت الباب، إنهم من شرطة الأمن.
- نادِ محمد!
- ولماذا؟
- إنه شيوعي!
أيقظته من النوم، وذهبوا به. في ذمة الله يا ولدي! إذن ليس المقصود عبد الكريم قاسم وحده. وعلا نحيب أمه وأخواته. مازال في الصف الخامس الإعدادي. ومادام الأمر أن الفئات السياسية سلكت نهجا جديدا، فماذا سنرى في قابل الأيام. والثوار اليوم هم قادة الذين خاضوا انتخابات نقابة المعلمين بأسلوب يتنافى والديمقراطية وحقوق الإنسان معاً. بل يتنافى مع مصلحة الأمة العربية إذ هي بحاجة إلى التجمع والتكتل، من أجل صد العدوان الامبريالي وإسرائيل التي استولت على فلسطين. هذه القوى كلها لماذا لا تتوحد من أجل الهدف الذي تنادي به كل القوى السياسية في كل البلاد العربية، ومنها العراق!؟ إذا اُحتكِر العمل السياسي لرأي واحد وفئة واحدة، فقل على -السلام- السلام!؟
كنا في قلق شديد على مصير ولدي همام في بغداد. كما كان عليّ الالتحاق بوظيفتي في الخالص. ودعت أهلي وغادرت المنزل. معي خالة الأولاد لتبحث عن ولدي همام في بغداد. انقباض ابني همام إذن وتحسس قلبه كان نابعا من وعيه، وقد وقع!. عند أول نقطة سيطرة اُوقفت السيارة، يستفسر من ركابها لَمَ يسافر وإلى أين؟. معاون الشرطة صاحب علوان، سألني. هات هويتك، عندما أجبته معلم في قضاء الخالص. حين أبرزتها، قال: هوية جديدة من مسؤولي الحكم الجديد!؟ قلت: أجددها حين أصل، ألم أقل إني معلم في قضاء الخالص! وقبل أن أركب السيارة ناداني ثانية، بلهجة عكس الأولى، تعال، أنت المعلم! تعال. عدت أجاب: إن الأخ الحرس القومي (الحرس القومي مليشيات الانقلابيين) أمر أن أسلمك إلى الشرطة. بعد فترة أكثر من شهر علمت أن اسم هذا الحرس القومي هو "مهدي الغانم" وهو معلم عين هذا العام، أخوه الأكبر يختلف عنه.
وحضرت سيارة لهذا الغرض. إن تصرفات الشرطة مضحكة، تدل على عقلية فجة، وحقد لا مبرر له. الشرطي الذي جاء بسيارة ليستلمني، أخذ طريقا عجيبا، وكأنه قام بعرضٍ اُمر أن يقوم به. فبدلا من سلوك الطريق الذي وجدني بنظارة -الأخوين- الشرطي صاحب علوان والمعلم مهدي الغانم، إنه قام بجولة، دار فيها عدة شوارع. من شارع العباس، إلى شارع "أبو الفهد" ثم شارع باب قبلة الحسين، ومنه إلى شارع الذي يوصل إلى حي الحسين، ومن حي الحسين إلى شارع المستشفى (القديم/الناشر)، وإلى بناية المحافظة والشرطة! بينما كان شارع العباس يؤدي مباشرة إلى بناية المحافظة ومركز الشرطة، ولا داعي لهذه الدورة الاستعراضية. ربما كان القصد من هذا الترهيب لا أكثر!
يبدو أن هذا الشرطي السائق قد سمع من قراء المنابر الحسينية، إن جنود بني أمية قد طافوا بعوائل الحسين ومن أستشهد معه في شوارع الكوفة، وشوارع الشام أيضا بعد وصولهم إليها، يشهرون بهم كسبايا، خارجين على حكم السلطان!؟
لا بأس. لقد شاهدني بعض الذين أعرفهم ويعرفونني. فوقفوا باكتئاب وهزوا رؤوسهم أسفا. وزجني بموقف السراي. كان الموقف قد ضاق بمن فيه، بينما تدفع الشرطة بالمزيد. إن الموقف -لو أنصف المسؤولون- إذا لم يقصد إيذاء الموقوفين لا يسع أكثر من عشرة.
جن الليل، وتقدم بعض الموقوفين ليضعوا حلا لمسألة النوم. عدد المعتقلين تجاوز 110، فما هو الحل؟ قال واحد منا: ينام عشرة عشرين دقيقة فقط ممن أدركهم النعاس. رد الآخر: الأحسن بالاقتراع. وتساءل آخر: حسنا وإذا وجد بعضهم نفسه غير محتاج للنوم في هذه اللحظة، ماذا يفعل؟ وأشتد اللغط. صاح أحد المحترمين، لا قرعة ولا هم يحزنون مع هذا العدد؟ الموقف هذا لم يسعكم إيقاظا كيف يسعكم نياماً؟ أفضل الحلول، من أدركه النعاس يدبر أمره، وعلى الله التكلان!؟
وبعد يوم من اعتقالنا اُخذ ولدي كفاح. جاء يشتري حاجات الغذاء، فأشار عبد الله أسد إلى الأمن فاقتنصوه بملابس الراحة، وزاد النواح من الأم والأخوات. لا بأس المصيبة إذا عمت هانت! هكذا يقال. ولكن الأمهات؟ الأمهات قلوبهن رقيقة... وعبد الله أسد بقال، حانوته يعود إلى البيت الذي أسكنه، والشائع عند جميع سكان الحارة إنه وكيل أمن. فلا غرابة فهو فارسي قبل المهمة ليتقي شر الشرطة على أمثاله من الأجانب. ومع ذلك فالمستقبل يجد فيه جزاء نذالته.
في ظهيرة اليوم الثالث أو الرابع من اعتقالنا، فوجئنا بشرطي وواحد من الحرس القومي يضربون باب الزنزانة الحديدي بأيديهم وكأنهم ينبهون نياما غطوا في سباتٍ عميق، وساد صمت وسكون. هما -شرطي وحرس قومي- يصرخان بصوت عالٍ: انتبهوا جميعا. احزموا حاجاتكم، سترحلون إلى مدينة أخرى!؟ حاول بعضهم الاستفسار، لكنهما ذهبا بعد هذا التبليغ الموجز.
بعض الموقوفين من الشباب لم يبدُ عليهم اكتراث، أو تذمر من وضعنا الذي نحن فيه. كانوا لا يكفون عن الهزل والدعابة، وإرسال النكات كأنهم في عيد، أو على مسرح.
وهب الجميع يجمعون حاجياتهم، وحدث ضجيج، وجدل، بسبب جمع الفراش والحاجات. بعض البسطاء كانوا منذ حلوا تعروهم كآبة، أهلوهم لا يعلمون عنهم شيئا، هم غرباء، وهم هنا بحكم الوظيفة وفقراء أيضا.
ونهض المدرس موسى الكرباسي يخاطب الحرس القومي: أخي رجاءً أمهلوني أبحث عن حذائي، أم أخرج حافيا!؟ ورد عليه الحرسي وكان أحد تلامذته: نعم أخرج حافيا!؟ هذه هي إذن أخلاقهم وهذا هو وفاء التلميذ لأستاذه! ضج الجميع بالضحك. وأخذ الهازلون بالتعليقات. وقلدوا المدرس بندائه، وحرفوا وبدلوا ما شاء لهم أسلوبهم بالنكتة والهزل.
وفي الخارج وصل خبر ترحيلنا لعوائلنا المتجمعة خارج مركز الشرطة والتي جاءت وهي تحمل طعام الغداء وما نحتاجه من مواد أخرى ضرورية ولتقصي أخبارنا. قابلت عوائلنا قرار الترحيل بالاستنكار والغضب الشديد. وتعالى صراخ الأطفال من الأبناء والأشقاء. وأمام غضب العوائل تراجع الحرس القومي عن قرار الترحيل، لتهدئة العوائل!؟.
وعندما جن الليل مع تكاثر أعدادنا في الموقف واشتداد أزمة النوم والجميع قد أدركهم النعاس والتعب بسبب الازدحام وعدم القدرة على النوم. فوجئنا بعد منتصف الليل مجددا بضرب هيستيري على باب الزنزانة الحديدية. وابلغنا الحرسي والشرطي بالتهيؤ وجمع حاجياتنا للترحيل! ونهض الجميع وبعضهم أنهكه النعاس وأتعبه الضيق بسبب ما يعانيه من مشاكل صحية كالربو وغيرها. الكل يبحث عن حاجياته، ويتساءل هل جميعنا سنرحل أم بعضنا فقط، ومن هم المرحلون؟.
هكذا جمع الموقوفون حاجاتهم. ووقف كل منهم إلا العاجزين والمرضى. ومر أكثر من ساعة، جاء حرسي وشرطي، عادوا أيضا يضربون باب الزنزانة الحديدي، استعدوا وسنعود! طال الانتظار، والموقوفون بانتظار، وفي انزعاج. وحانت اللحظة الحاسمة. وقف ألحرسي وأخذ ينادي بأسماء، لم يتجاوز العدد خمسة عشر موقوفا، كان منهم إبنايَ كفاح ومحمد، ولا نعلم إلى أين سيتم نقلهم!؟.
فتحت باب الزنزانة ورحنا نودعهم بلهفة واكتئاب، لا غرابة. نحن لا نعلم ما تخبئ الأقدار، إن هؤلاء الحرس يعاملوننا وكأننا قتلة! ونام بعض وسهر آخرون يتحرقون. إنها مأساة الشعب العراقي ومحنة العوائل. وعند الصباح جيئ بفوج من المعتقلين عددهم أربعون، بين معلم ومدرس من النجف وغير النجف، أربعون حلوا مكان خمسة عشر، يا للإنسانية! الإنسان يمتاز عن الحيوان بفكر. ولكننا هنا نزدري بذوي الفكر، أو أن الحكام يريدون أن نقلد أفكارهم، هي وحدها الصائبة!؟

الناشر
محمد علي الشبيبي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم


.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام




.. دلالات استهداف جنود الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم غلاف غزة


.. مسارات الاحتجاجات الطلابية في التاريخ الأمريكي.. ما وزنها ال




.. بعد مقتل جنودها.. إسرائيل تغلق معبر كرم أبو سالم أمام المساع