الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياسة اللجوء الأوربية.. أسئلة حائرة

علي بداي

2011 / 7 / 10
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


في يوم الملكة الموافق (30 نيسان 2009) وهو عيد شعبي تقليدي في هولندا ، كانت الملكة "بياتريكس" تختفي كعادتها تحت قبّعة فريدة من نوعها ، وفيما تعزف مجاميع من الهولنديين من ذوي الأصول الأفريقية أناشيد الترحيب راقصة، يُسمع فجأة صوت إرتطام ما، كأننا في بغداد أو بيروت أو واحدة من عواصم التفجير والتفخيخ . تهبط سيارة آتية من جانب مباغت غير محسوب في الشارع الفارغ الا من باص الملوكية، ناثرة معها أجساداً بشرية جرفتها أثناء طيرانها الجنوني، متجهة صوب الباص الملوكي ، ثم تنحرف السيارة لترتطم ثانية بتمثال حجري فيما الأجساد التي كانت قبل قليل تنبض بالحياة والرقص والغناء، مُلقاة على أسفلت الطريق وسط الحطام والدم . ليس بوسع المرء تصديق عينيه .

وفيما كانت السيارة المجنونة تُصدر دوياً هائلاً وهي ترتطم بالنصب الحجري، وكان أحد أفراد الشرطة (المأخوذة بالمفاجأة) يتفاداها بإعجوبة، كانت العائلة المالكة لم تع بعد ماهية الحادث، ولا سبب الضوضاء الا بعد أن تناثرت الأجساد على الأرض، لترتفع بعدها أكف الأميرات لتسد الأفواه المندهشة جراء الصدمة .
لم يُصدّق أحد من ركاب الباص الملوكي أن السيارة كانت تقصد الباص بمن فيه من حملة الألقاب الرفيعة ، بل ولم يصدق أحد من المراسلين الهولنديين ، أن الحادث كان يستهدف الملكة وآل بيتها ، وظلت تحليلاتهم تدورحول السطح كعادتها، وتشير بصورة مبطنة الى إحتمال إرتباط الحدث بقصد "إرهابي" وهو ماأدار رؤوس المؤسسات الإعلامية بتأهب الى الجالية الإسلامية من اللاجئين وسليلي عمالة سنين الستينات والسبعينات من الترك والمغاربة. إنه منظر لم تألفه هولندا المسالمة ظاهرياً، دولة الإستعمار السابق، الذي إستعمر أكبر دولة مسلمة هي إندونيسيا و الأن "كيراساو" و"الأنتيل" و"اروبا" والتي أنهت إستعمارها "سورينام" قبل ربع قرن.

وبإنتظار التحقيقات ، تحرك إخطبوط الإعلام الهولندي بما عرف عنه من دهاء وقدرة على إدارة رأس البلاد الى الوجهة التي يريد ، عبر لقاءات "بريئة" وتحقيقات "عفوية" مع مواطنين ومسؤلين سابقين مستخدمين لغة التلميح " هذا غريب على الطبيعة الهولندية .. "لاشك أنه فعل غريب على الأخلاق الهولندية" وما الى ذلك من إثارة لهاجس الخوف من ذوي الرؤوس السود. ردود الأفعال هذه كانت تعيد نفسها كل مرة ،فحتى بعد أن أتت النتائج الأولى لتؤكد أن الذي هاجم الموكب الملكي كان هولندياً أصيلاً ، وتناول الصحفيون بلا إكتراث المعلومات التي أفادت أن الجاني كان قد فصل قبل شهور من العمل في طاقم حماية الأمير(وليم الكسندر)، وأنه كان ينتظر يوم غد أن يطرد من بيته لعجزه عن دفع الإيجار، عادت إشارات الإتهام تحوم مجدداً حول قضية القادمين الجدد لهولندا، وسخرت وسائل الإعلام كلية القدرة في المجتمع الهولندي جهودها لخلق صلة ما بين الحادث ومايشهده العالم من موجات عنف وتطرف ديني مما مهد لأن يحرز المتطرف "خيرت ويلدرز" نتائج بارزة في إنتخابات عام (2009).

في الأيام التي تلت ، كان الحدث محط إهتمام المدارس أيضاً فبدأت تنظم حوارات بين الأطفال لأن الجميع تقريباً شاهد المجزرة مباشرة على شاشة التلفزيون، فكان من الضروري أن يطرح الأطفال ما بدواخلهم كي لاتتراكم المعاناة، لم يتطرق أحد الى جوهر الموضوع ودوافع العمل الذي راح ضحيته سبعة أشخاص ، ولم يخف العديد من المشاركين بالنقاش تخميناتهم الأولية بأن الحادث كان " إرهابا" من قبل من هو" غريب على أعراف المجتمع" وقد كان القصد، كما في كل مرة هو أجانب هولندا.
بلاشك، أن كل أجنبي في هولندا( تقريباً 10% من مجموع السكان) قد وضع ذاك اليوم يده على قلبه تحسباً للنبأ السئ الذي قد يكشف أن المهاجم كان أجنبياً . ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يضع فيها "أجانب هولندا " أيديهم على قلوبهم خشية أن يكون حادث إجرامي ما، قد إقترف من قبل أجنبي "مسلم بالأخص" . حدث ذلك يوم إغتيال "بم فورتاين " المرشح للإنتخابات عام (2001) ، وحين هوجمت مدرسة وطُعن أحد أطفالها عام (2009) ، وقبلها بسنين حين وُجدت جثة طفلة في صندوق جمع القمامة في مدينة "أترخت"، وقبل إثنتي عشرة سنة حين حامت شبهات قتل فتاة في شمال هولندا حول لاجئ عراقي مريض بالقلب دون وجه حق. في كل تلك الجرائم تبين لاحقاً أن الجاني لم يكن أجنبياً ومع ذلك ،وفي كل مرة كان كل من اللاجئ المسلم حديث الوجود في هولندا والذي مرعلى تجنّسه سنوات وأصبح قانوناً مواطناً هولندياً ،يُحس بأصابع إتهام خفيه تشير اليه.

لم يعد ممكناً إذن ، إخفاء حقيقة عدم رضا المجتمع المضّيف عن "سلوك" بل و"وجود" القادمين الجدد بين صفوفه. هذه الظاهرة لاتقتصر على " هولاندا" بل تمتد الى أستراليا وبلدان أوربا كلها. ولايمكن تجاهل كم المشاكل المتأتية من الإصطدام الثقافي بين موروث القادمين الجدد وثقافة البلد المضّيف.

إزاء ذلك لايملك المرء الا أن يُحار حقاً في إيجاد تعليل منطقي لسياسات الهجرة واللجوء التي تنتهجها بلدان المجموعة الأوربية فمرة تُفتح أبواب اللجوء على مصراعيها بحيث تسمح لأعداد غفيرة من دخول البلاد وهم يسوقون حججاً ضعيفة وقصصاَ مفبركة تكاد تكون مكررة ، بل وبإنتحال واضح لهويات وجنسيات أخرى من قبل قادمين من بلدان آمنة ، ومرة أخرى تُغلق أبواب اللجوء حتى آخر مللمتر بحيث يتطلب قرار بقاء طفل لاجئ ينتظر الموت إجتماعا للبرلمان أو للحكومة .
هذا الوضع الأخيرهوما حصل قبل شهور قليلة مع الطفل السريلانكي "أبيرام " ذي الثمانية سنين الذي يعاني من مرض غير قابل للعلاج، هكذا تتلاشى عواطف الدولة التي تصف نفسها بذات القلب الإنساني الكبير، والتي تعج بمنظمات جمع التبرعات للفقراء والمعوزين ، يصل قلب هذه الدولة الكبير في وقت معين الى حد من التقلص بحيث لا يتسع لطفل مريض .

هذا الغموض الذي يلف سياسة اللجوء الأوربية يُثير سؤالاً لم يجد جوابا لحد الآن: ماهو الهدف الحقيقي من وراء سياسات الهجرة التي تنتهجها بلدان المجموعة الأوربية ؟ ولماذا تفتح تلك البلدان باب الهجرة إذا كان هذا الباب سيكون معبراً لدخول كم المشاكل الإجتماعية والإقتصادية التي كثير ما يُرجعها إعلام البلدان الأوربية وأوساط شعبية وسياسية الى القادمين الجدد؟ ولمَ كل هذه المشقة إذا كانت الدول المضّيفة غير قادرة على الإنفاق لتأهيل اللاجئين القادمين من بلدان متخلفة ؟
هل يكون فتح هذا الباب حقاً هو المعوّض الوحيد عن النقص البشري الحاد الذي ستعانيه دول أوربا المتميزة بمعدلات نمو سكاني منخفضة جدا خلال السنين القليلة القادمة ومابعدها؟ أم أن اللجوء كما يفهمه البعض سياسة مدروسة تهدف في أوقات معينة الى إمتصاص العناصر الناقمة على حكومات ما موالية للغرب؟ كيف يمكن تفسير ذهاب حكومة هولندا الى الصومال لتسهيل تدفق الآلاف منهم الى أراضيها ثم طرح مشكلة الصوماليين كواحدة من أهم المشاكل الإجتماعية الداخلية؟

لمصلحة من سياسة اللجوء هذه ؟ هل هي لمصلحة اللاجئ نفسه كوجود إنساني يتهدده الخطر الفيزيائي والروحي؟ أم أنها لمصلحة البلد المضيّف؟ أم هي لاتعدو سوى أن تكون إستجابة إجبارية غير مدروسة العواقب لقوانين حقوق الإنسان ؟
قد تبدو الإجابة عن هذه الأسئلة صعبة، ولكننا لايمكن ألا أن نؤكد مثلاً أن سياسة اللجوء الأوربية قد وفرت أمام الحكومات القمعية في العالم الثالث فرص التخلص بأقل الكلف من المعترضين والثائرين ومنحتها الوقت والفضاء الكافيين لإعادة ترتيب وتشكيل المجتمع وفق ماتقتضيه مصالحها.
ولو تفحصنا العراق وإيران خلال العقود الثلاثة الماضية "كمثال " ،لتلمسنا الآثار المدمرة لسياسة اللجوء على حاضر ومستقبل البلدين، فخلال ثلاثة عقود فُرّغ البلدان تماماَ من عشرات الآلاف من العناصر المتعلمة والمتمدنة التي تسربت الى الغرب بفعل القمع وسياسة فتح أبواب اللجوء، بحيث أضحت مهمة تحديث هذين البلدين الآن تصطدم بركود فكري لأجيال من البشر بُنيت وفقاً لمنظومة دينية سلفية عشائرية متخلفة منغلقة على ذاتها.
في ظروف خاصة ، تبرز المكاسب "المادية" للجوء ، كوسيلة لمعالجة مشاكل أولية، مثلاً ،ساهم ملايين المهاجرين العراقيين في التخفيف من وطأة الحصار بتحويلهم مبالغ طائلة الى وطنهم، وكذلك اللبنانيون في فترات الحرب الأهلية ،لكن على المدى البعيد يمكن التأكيد على إن الإمتيازات التي يحصل عليها المهاجر، لاترفعه الى مستوى المواطن الأوربي الأصيل في أية حال، ولا تجعله مواطناً كامل الحقوق الا بتخليه التام عن كل مايربطه بماضيه، والإنسلاخ عن تراثه ولغته وهو مالايمكن أن يتم في خلال حياة جيل واحد، وبخلاف ذلك يشعر المهاجر على الدوام بفاصل خفي يفصل بينه ومجالات الحياة التي تفتح أمام المواطن الأصلي، رغم مايكرر غالباً من حقوق المواطنة، والمساواة أمام القانون، التي تتضخم وتكتسب سمعة رنانة بالمقارنة مع حالة التهميش والفقر التي عاناها المهاجر في البلد الأم .
كما أن عودة المهاجر "اللاجيء السابق" الى بلاده بعد تغير الظروف وتحسنها، والتعويل عليه في نقل ماتعلمه اليها يصطدم بعوائق عملية قد لايمكن إزالتها، مما يعني ضمناً إن أجيال أبناء اللاجئين هي في الواقع أجيال مهددة على المدى البعيد بالإنصهار القسري في المجتمعات الجديدة وعندها لايصح الحديث الا عن مواطنين أوربيين لايجمعهم ببلدانهم الأم أي جامع.

وبالرغم من هذه الحقائق التي لايتم التوقف عندها ، لايمكننا أن لانرى أن حلم اللجوء بما يحمل من مكاسب (قليل منها واقعية وأغلبها متخيلة) هو ألح مايراود مخيلة معظم الشباب واليافعين، ليس في العراق وإيران فقط بل في بلدان العالم الثالث كلها تقريباً، فالأجيال الجديدة تعيش على حلم الهجرة الذي ينقذها من شبح الخدمة العسكرية الإلزامية والإلتزام العائلي و الدراسي الى الفردوس الأوربي ..
أرجو ممن يعرف عن الموضوع أكثر مني أن يبادر بطرح مايعلم لأني كتبت الموضوع بالقليل مما أعلم بغية الوصول الى الكثير مما لا أعلم ربما..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد سقوط الأسد... ما مصير الوجود العسكري الروسي في سوريا؟ |


.. اعتقل في عهد حافظ الأسد .. لبناني يعود إلى بلاده بعد قضاء 33




.. دول أوروبية عديدة تعلق طلبات اللجوء للسوريين بعد سقوط الأسد


.. آلاف المفقودين الفلسطينيين ما زالت جثثهم تحت الركام في قطاع




.. رئيس الحكومة الانتقالية: حان الوقت لينعم السوريون بـ -الاستق