الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاختزالية السورية وتخوين المختلف

مصطفى اسماعيل
(Mustafa Ismail)

2011 / 7 / 10
أوراق كتبت في وعن السجن


السوريون اليوم أسرى حقل التخوين المتبادل, فالسلطة تُخوٍّن المعارضة, والمعارضة تُخوِّن السلطة, المُوالون للسلطة يُخوِّنونَ ما عداهم ويشهرون الصفعات والعصي في وجوههم, فنانٌ يُخوِّن آخرَ لأنه يدَّعي امتلاكَ جُرعةِ وطنية زائدة, وهي جرعة مسحوبة من صيدليات الأجهزة الأمنية, وتطولُ قائمة التخوين إلى اللانهاية السورية.

الشعاراتُ البرَّاقة واللمَّاعة التي رفعتها السلطة السورية خلال عقود من هيمنتها على مفاصل المجتمعات السورية كانت البيئة الخصبة لإنتاج مفاهيم اختزالية غير أخلاقية, من خلال تعليب الإنسان السوري وإرضاعه حليب الفكر الإيديولوجي الأحادي في شرطه البروكوستي الذي يقزم الآخر المختلف ويشطب عليه, محاولاً جره إلى فيء السلطة المُتغوِّلة التي طرحت على الدوام نفسها كهيولى للقومية والوطنية, وفي الأزمة الحالية هي التي أطلقت ثقافة التخوين من عقالها عبر فضائيتها والمنابر التي تدور في فلكها.

الحالة السورية اليوم تدعونا إلى الابتعاد عن التخوين, وعدم اعتماد المفردات التخوينية, فالبلاد تعيش مرحلة مخاض مستجدة, وينبغي التخلص من المفاهيم القاصرة, ومفارقة تسطيح المسائل, لأن الذهنية التخوينية هي ذهنية كارثية, وذهنية متأزمة, وذهنية عاقر, لا يمكنها وليس بوسعها إنتاج حلٍّ, بل تزيد الطين بلة, وتُفاقِمُ الأزمات, فما تحتاجه البلاد في راهنها الموَّار هو المزيد من الوئام الأهلي والمكابرة على الجراحات والبحث عن القواسم المشتركة الكثيرة فيما بين السوريين ( التطلع إلى الحرية من بينها ), ولا يخدم البلاد من قريب أو بعيد تحويلها إلى مجموعة كانتونات لفظية, تُشنُّ من كل منها حرب بسوسٍ لفظية إقصائية, مضافة إلى الإقصاء العنفي العملياني الذي للسلطة, من شأن ذلك تقسيم سوريا أفقياً وعامودياً, وهذا لا يخدم سوريا الراهن وسوريا الغد.

لا يوجد في سوريا ولا في أي بلد آخر من العالم أهراماتٌ محددة ومطلقة للوطنية الحقة, كل السوريين وطنيون حتى يثبت العكس بدليل شفاف وواضح وقاطع, ويُفترضُ أن ليس هنالك من هو أكثر سورية من غيره, ومن هو أكثر حرصاً على سوريا من غيره.

الكائنُ التخويني هو كائن مريض نفسياً, هو لا وطني وخارج عن السرب الوطني, فلا تمنح الوطنية عبر الصكوك والبطاقات التموينية وقسائم المازوت.

قد يختلف سوريان إثنان في مقاربة الوطنية ومصلحة البلاد, لكن اختلاف الآراء ثروة, فلا يُعقلُ أن يكون 23 مليون سوري نسخاً فوتوكوبي واحدة, ولا يستدعي الاختلافُ الشطبَ المتبادل.
أكثرُ من سجين رأي عبر من برزخ الاعتقال أكد تعرضه لنوع من الاضطهاد النفسي والمعنوي والتخوين, فمحققٌ بائسٌ, شبه أمي, مستسلم ليقينياته الأحادية الكبرى, يقرر ببساطة مطلقة مدى منسوب الوطنية السورية في دمك.

أحد السجناء الكورد أخبرني أن محققاً أمنياً كان يقول له أن ( صرماية ) رئيس وزراء تركيا ( أردوغان ) تساويه وأهله وشعبه الكوردي, وآخر كان منزعجاً لأن محققاً كان يشتم الكورد بلا استثناء ويعدهم عملاء لإسرائيل, أي خونة, وفهمي المتواضع لاتهامي من قبل القضاء العسكري في مدينة حلب السورية بمحاولة اقتطاع جزء من الأراضي السورية وضمًّها إلى دولة أجنبية هو أنه اعتماد لنهج تخويني بحقي.

لا يُستغربُ ذلك, فالسائد كان أن محققاً أمنياً لم يقرأ في حياته ثمة قصيدة شعرية ولم يتصفح جريدة أو لا يستوعب الفكر والثقافة والمصطلحات يعد نفسه بالمطلق المتحدث الرسمي والناطق الرسمي باسم الوطنية السورية, ويعتبر نفسه طنجرة الوطنية وغطائها, ومبتدأ الوطنية ومنتهاها, أما الآخرون – في عرفهِ – فهم مجرد فاقدي وطنية أو مصابون بفقر الوطنية.

ثمة اخطاء لا عدَّ لها تراكمت وتناسلت طيلة العقود السابقة, أخطاء مبرمجة أفرزت أخطاء أكثر هولاً, تماماً كدمى بابوشكا الروسية, ولأنها كانت أخطاء مسكوتاً عنها, وعصية على المساءلة والمحاسبة ولا تزالُ, فإنها وضعت قطار الوطن على مفترق سككٍ.

اللحظة السورية الراهنة تستدعي من الجميع ومن السلطة أكثر نبذ المفردات اللاوطنية ونبذ ذهنية الأحكام المسبقة القبلية, والابتعاد إلى أقصى الحدود عن الانفعالات الآنية وردود الأفعال الارتجالية.

التسامح المطلق, والوئام المطلق, والابتسامات المطلقة المتبادلة, والاعتراف المطلق المتبادل, هي الضرورات في اللحظة الراهنة من عمر البلاد, أما اعتماد الاختزاليات المريضة وتخوين المغاير والمختلف فهو قاصمة الظهر سورياً.

ملاحظة : كُتِبَ المقالُ في سجن حلب المركزي بتاريخ 21 مايو/ أيار 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - التخوين ثقافة
زارا مستو ( 2011 / 7 / 11 - 08:48 )
يا صديقي,غدا التخوين ثقافة مجتمعية نتناوله يوميا كرغيف خبز,لنشبع به روحنا التائه, ماذا تتوقع من ثقافة غزواتية صحراوية, الاختلاف في قاموس هذه الثقافة حرام وإجرام, ولاتزال هذه الثقافة تفعل فعلها
وألف شكر على مقالتك المؤثرة


2 - شكرا زارا
مصطفى اسماعيل ( 2011 / 7 / 11 - 11:46 )
إنما نحن في هذا الشرق الأوسط الموجع, عبارة عن ورشة هائلة لإنتاج الرداءة في مستوياتها, وعبارة عن معرض دولي مفتوح على مصراعيه لعرض إنتاجنا من المفاهيم والمقاربات المتآكلة والتي عفا عليها الزمن, ولا يمكنها أن تفلح في شد انتباه الناس إلى الغد.
ثقافة التخوين تعني أننا أسرى ورهائن حالة الالتفات إلى الوراء
فيما غيرنا يتقدم بخطى واثقة إلى الغد.
لا تزال صفحتنا بريئة وعذراء من المخلوفق الخرافي الذي يسمى - الغد -.
محبتي

اخر الافلام

.. تونس.. مؤتمر لمنظمات مدنية في الذكرى 47 لتأسيس رابطة حقوق ال


.. اعتقالات واغتيالات واعتداءات جنسية.. صحفيو السودان بين -الجي




.. المئات يتظاهرون في إسرائيل للمطالبة بإقالة نتنياهو ويؤكدون:


.. موجز أخبار السابعة مساءً - النمسا تعلن إلغاء قرار تجميد تموي




.. النمسا تقرر الإفراج عن تمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفل