الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة بين التلجلج واللجاجة

نعيم إيليا

2011 / 7 / 12
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


تطرح الورقة التي كتبها أخي الأستاذ حسين علوان حسين تحت عنوان (دفاع عن المادية التاريخية...) والتي جاءت ردّاً على انتقادي للشخصية الماركسية، وطعني - في حديث لي سابق - على مبدأ الصراع الطبقي بمفهومه الماركسي، جملةً من النقاط الخلافية بيننا، سأتقصى عدداً منها متوخياً الإيجاز ما استطعت إليه، متحاشياً الإطناب الممل في إيراد التفاصيل، متوكلاً على نباهة القارئ:
يذمُّ الأستاذ حسين في ضجر وتأفف - وفي تهكم أحياناً - إسرافي في صبِّ النعوت الشنيعة على هامة الماركسيّ، نافياً بحزم وإصرار أن تكون هذه النعوت مما يليق به، وينطبق عليه. ويصفها بأنها تُهَمٌ ملفقة تعميمية، ربما كان غرضها تشويه صورة الماركسي؛ كي يكون هذا التشويه من ثمَّ مدخلاً إلى تشويه النظرية الماركسية جملة وتفصيلا، ثم يطالب بإثبات صحة نسبتها إلى الماركسي بالإحصاء أو الوقائع. وهو في هذه الأثناء عاكف على برهانٍ من (البيان) يسوقه لتفنيد ما ألحقتُه بالشخصية الماركسية من النعوت (المهذبة).
إنّه لمن حقّ الأستاذ حسين، بلا شك، أن يطالبني بالإتيان بالدليل على أن الصفات التي ألحقتها بالشخصية الماركسية، تنطبق بصدق عليها، هذه مسألة لا يمارى فيها، وإلا فإن كلامي - إن أنا لم آتِ بالدليل – لن يعدو التجني والتحامل والتخرص البليد. ولكنني مع ذلك لن أسرد جميع الصفات تباعاً مؤيداً إياها بالشواهد الدالة على صدق نسبتها إلى الماركسي كما طالبني؛ لأن ذلك سيأخذ مني ومن القارئ وقتاً طويلا، بل سأكتفي بصفة واحدة وعسى أن تغني عن الأخريات! ثم أمضي بعدها إلى معالجة مسائل مهمة مشوقة وردت في ورقته القيمة.
في البدء لا محيد لي من أن أقف متمهلاً على صورة البرهان الذي جاء به من (البيان) ليكون لي مفحماً حين ادعيت على الماركسي خضوعه الذليل للماركسية خضوعاً أقرب إلى خضوع المؤمن لعقيدته على كل حال؛ وغرضي من ذلك التحقق من سلامة البرهان ومدى مناسبته لمقتضاه. فلا خير في برهان يحيد عن غايته.
يحدثنا الأستاذ حسين عن إنغلز، فيقول:
" بعد وفاة ماركس بخمس سنين ، و في الطبعة الإنكليزية للبيان الشيوعي ، يدرج إنجلز ملاحظته أدناه بخصوص جملة :" إن تاريخ كل المجتمع الذي وجد لحد الآن هو تاريخ الصراعات الطبقية ."
The history of all hitherto existing society(2) is the history of class struggles.
(و ليس الترجمة غير الدقيقة التي يعتمدها الإستاذ نعيم إيليا أعلاه) و ذلك بوضع إشارة رقم (2) بعد كلمة "المجتمع" للهامش المفصل التالي :
"المقصود هنا هو : "كل التاريخ المكتوب"(بتوكيد إنجلز على مفردة : المكتوب) . في عام 1847 (و هو تاريخ كتابة الجملة أعلاه) ، كان كل مجتمع ما قبل التاريخ ، و النظام الإجتماعي الذي وجد قبل التاريخ المكتوب ، غير معروفين . بعد ذلك ، إكتشف أوگست فون هاكسهافن (1792-1866) الملكية الجماعية للأرض في روسيا ، و أثبت گيورگ لودفيك فون ماورر أنها (أي الملكية الجماعية للأرض) كانت الأساس الإجتماعي الذي انطلقت منه كل الأجناس التيوتونية في التاريخ ، و قريباً من تلك الفترة ، فقد وُجد أن المجاميع القروية هي الشكل البدائي للمجتمع ، أو أنها كانت كذلك ، في كل مكان من الهند إلى أيرلندا . و لقد أُميط اللثام عن النظام الداخلي لنظام المشاعة البدائية ، بشكله النمطي ، من طرف لويس هنري مورگن (1818-1861) ، و الذي توَّجَهُ باكتشافه للطبيعة الحقيقة للعشيرة و لعلاقتها بالقبيلة . و مع تفكك الجماعات البدائية، بدأ المجتمع يتمايز إلى طبقات منفصلة أولاً ، و متناحرة أخيراً. و قد حاولتُ أعادة اقتفاء آثار هذا التفكك في (كتابي) "أصل العائلة ، و الملكية الخاصة ، و الدولة "، الطبعة الثانية ، شتوتگارت 1886"
ثمّ يعقب ذلك استفهام منه يستهجن فيه أن رميتُ الماركسيَّ بالانقياد والخضوع لعقيدته؛ ويستنكر فيه كيف أعرضت عن الحقّ وهو أبلج - في حسبانه -:
"أين دلالات فحوى النص أعلاه من إدعاء الأستاذ نعيم إيليا بـ"إلتزام الشخصية الماركسية بالعقيدة الماركسية ومسلماتها إلى حد الخضوع لها خضوعاً يحاكي خضوع العبد الذليل لربه في العقائد الدينية؟".
وتجنباً للإطالة - كما وعدت – سأبادر إلى إجابة السؤال إجابة مباشرة بلا مقدمات، فأقول متسائلاً أيضاً:
وهل هذا (البرهان) الذي يسوقه الأستاذ هنا، وهو مطمئن إليه كل هذا الاطمئنان، سليم من الأذى؟ هل هو راسخ في محله قبل كل شيء؟
إننا لسنا في حاجة إلى تفحص البرهان الشاهد طويلاً، ولا إلى إنعام التفكير فيه، يكفي أن نشخِّص على عجل بعده الدلاليَّ وما يرمي إليه؛ لنتبين بجلاء أن مداه، لا يبلغ غير حقيقة واحدة بسيطة لا تفيد شيئاً سوى الاستدراك والتوضيح. فإنّ إنغلز حين أحسّ أنّ لفظة "كل المجتمعات" Die Geschichte aller bisherigen Gesellschaft ist die Geschichte von Klassenkämpfen“
الواردة في عبارتهما في مستهل كتابهما (البيان الشيوعي) تفتقر إلى الدقة والتحديد وتحتمل التوسيع، عمد إلى الاستدراك عليها بالإيضاح وإزالة اللبس والتحديد؛ فأخرج المجتمعات البدائية من التصنيف الماركسي المعروف للمجتمعات الإنسانية؛ كي لا يتوهم القارئ أنّهما يقولان بوجود تناقضات طبقية في المجتمع البدائي المشاعي؛ وهو اعتقاد – كما يعلم القارئ - مرفوض لديهما كليهما.
فهل مثل هذا الشاهد يصلح لأن يقوم برهاناً على مرونة الماركسي وتحرره من عبودية الالتزام بعقيدته؟
وبصيغة أخرى، هل في توضيح فكرة مشتبهة وفي جلاء غموضها ولبسها، مرونة وحرية وإقرار بالخطأ!؟
أإذا قال المتنبي – مثلاً - إنه أراد الشائلة من قوله: "ومصبوحة لبن الشائل"، عُدَّ قوله الموضّح اعترافاً بخطئه وتصويباً له؟
الأستاذ حسين يجيب بثقة قائلاً: نعم! إنّ لفي هذا التوضيح – ولا أقول التصحيح كما يقول هو – برهاناً على الحرية الفكرية والشجاعة التي يتمتع بهما عقل الماركسيّ بإزاء عقيدته:
" لو كان إنجلز "يخضع خضوع العبد الذليل لربه في العقائد الدينية" مثلما يزعم الأستاذ نعيم إيليا لما تجشم عناء تصحيح قول ماركس و قوله".
وهو غافل عن حقيقة الماركسي المتحزب، الذي لا يملك حرية عقلية تبيح له أن يمسّ بالنقد والتسفيه مبدأ واحداً من مبادئ الماركسية، ولو كان هذا المبدأ يعوق تقدمه الفكري أو يزري بالحقيقة وقد تكشفت أنوارها البهية لبصيرته، ولا أن يصرح، إذا وقعت عينه على خطأ يرتكبه ماركس أو إنغلز، أنهما أخطأا، فهما عنده منزهان. وهو إن تلمّس بعقله هذا الخطأ الذي بدر منهما، تحاشى أن يسميه باسمه تهيباً، وجعل يعلله ويخرّجه ويؤوّله مستعيناً بمنهجه الاعتذاري زاعماً أنه رأي يحتمل التجديد والتطوير والتأويل والتعديل بحسب وصايا مؤسسي الماركسية نفسهما، تماماً مثلما يفعل ذلك المؤمن بعقيدته حين يرى عقيدته تصطدم بما يكذِّبها من التاريخ والعقل والواقع المعيش.
ولعلي أضرب لذلك مثلاً: حتمية انتصار الشيوعية في البلدان الرأسمالية المتطورة، وهي فكرة أجهد فيها ماركس عقله، ونذر لها عمره في مؤلفه المعروف (رأس المال) حتى استنبطها من تحليلاته ودراساته لقوانين الاقتصاد الرأسمالي، فإذا هي نبوءة خائبة كنبوءة (تأبير النخل) وفكرة خيالية لا اتصال لها بالعلم ولا بالاقتصاد السياسي الصحيح من قريب. فلما قامت الثورات الشيوعية في البلدان المتخلفة كروسيا والصين وكوريا الشمالية وافغانستان وموزامبيق واثيوبيا وكوبا على خلاف النتيجة (الحتمية!) التي استنتجها ماركس من تحليلاته ودراساته المطولة المرهقة، لم يكذِّب أحد من الشيوعين نتيجته الخاطئة، وإنما اعتذروا له وللخطأ الذي ارتكبه بحجة امتلاك الماركسية قابلية التطوير والتجديد والتعديل بما يتلاءم مع واقع البلدان غير الرأسمالية، وهذا ما عبر عنه أستاذنا حسين بقوله: "مسلمات الماركسية تحكمها وقائع تاريخ البشر ، و الواقع المعاش الملموس . و حيثما لا تتطابق وقائع التاريخ أو الحاضر مع أي نص لماركس و إنجلز ، فأن على الماركسي ليس فقط أن يعدّل نصوص ماركس و إنجلز ، بل و أن يعدّل معها أي إستنتاج لهما يمكن أن يكون قد أستند عليها".
وهذا اعتذار غير مقبول، لأنه يسمي الأشياء بغير أسمائها الحقيقية. فلو لم تكن هذه النتيجة، التي أفنى ماركس حياته في طلبها عبثاً، خاطئة، فما منع الشيوعية أن تنتصر في أوروبا الغربية والولايات المتحدة؟ وهل "تعديل" هذه النتيجة الخاطئة، ينقذها من ورطتها، ويكسو عريها رداء (العبقرية) القشيب!؟ وفضلاً عن ذلك فإنه يطرح سؤالاً صعباً: ما الفائدة من الماركسية إذن، ما دامت كبرى مبادئها ونظرياتها وحقائقها عرضة في كل حين للجرح والتعديل والتغيير والحذف؟ وما دامت لا تستجيب في مبادئها وأسسها العامة الرئيسة لمعطيات الحاضر والمستقبل؟ وما دامت قد فشلت قبل ذلك في تحقيق أهدافها في الماضي وفي الحاضر؟
ترى، أليس من الأجدى الاستغناء عنها والبحث عن نظرية اقتصادية سياسية فلسفية جديدة لا يعتريها ضعف أو وهن؟
أليس هذا أيضاً ما ننصح به أهل الدين إذا أسرفوا في تأويل دينهم وأخرجوه عن حقيقته؟
فإذا تركت هذا جانباً، وعرّجت على بعض رأيه، وقعت منه على ما ينقض الماركسية، التي يدفع عنها الشبهات ببسالة، من حيث لا يحتسب، ووقعت منه على تهافت وعلى ضعف، فمنه قوله:
"و لكن هل صحيح أن القانون العام للماركسية هو الصراع الطبقي مثلما يريد الأستاذ نعيم إيليا إيهامنا به ؟ بالطبع لا ، لأن القانون العام للماركسية هو "تطور المجتمعات عبر التغيير بتحسين وسائط إنتاج مستلزمات العيش، لقد كان ماركس أول من قال بكون الحاجة لإنتاج مستلزمات العيش هي الأساس في فهم المجتمع البشري و التطور التاريخي".
فإذا لم يكن الصراع الطبقي هو القانون العام لحركة المجتمعات الإنسانية، فلماذا ينظر الأستاذ إلى قول ماركس وإنغلز بعين التقدير والإعجاب؟ ولماذا يعترض على النقد الموجه إليهما إذ اعتبرا تاريخ كلِّ المجتمعات قائماً على مبدأ الصراع الطبقي - ما خلا المجتمع المشاعي على رأي إنغلز - ؟ " Die Geschichte all er bisherigen Gesellschaft ist die Geschichte von Klassenkämpfen“
وهل ماركس حقاً هو أول من قال "بكون الحاجة لإنتاج مستلزمات العيش هي الأساس في فهم المجتمع؟ أشك في ذلك!
فإن تكن الحاجة هي الأساس، فكيف يوفق أستاذنا بينها وبين مبدأ صراع الطبقات الذي هو الأساس عنده، كما جاء في الفقرة أعلاه من البيان بلغته الأصلية. لماذا لم يذكر ماركس الحاجة هنا بدلاً من ذكره الصراع الطبقي، ما دامت الحاجة، هي الأصل في "فهم المجتمع البشري وتطوره التاريخي"؟
ولنفترض هنا أن مبدأ الحاجة مرجح عنده، ألن ينقض هذا بناءه (الشامخ) الذي شاده على أساس الاقتصاد، أي البناء التحتي؟ لأنّ الحاجات غرائز وليست شكلاً من أشكال العلاقات الاقتصادية.
إنّ تحليل الأستاذ حسين لقانون الحاجة الغريزي كما ورد عند مؤسسي الماركسية، لا يؤكد إلا تناقض ماركس وإنغلز أو اضطرابهما في فهم الحركة الأولى للتاريخ الإنساني وتطوره؛ فهما إذ يمنحان الصراع الطبقي رتبة الأولوية، يعودان فينتزعانها منه ليمنحاها لقانون الحاجة:
"علماً بأن إعتبار إنتاج المستلزمات الضرورية للعيش هو القانون الأول للمادية التاريخية أمر معروف و متواتر في مختلف مؤلفات ماركس و إنجلز . ففي مقدمته لـ "أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة" (1884) مثلاً ، يقول لنا إنجلز " وفقاً للمفهوم المادي ، فان العامل المحدد الأساس في التاريخ هو – في التحليل النهائي – إنتاج و إعادة إنتاج الضرورات ألمعاشيه الأساسية للحياة . و لهذا العامل صفة مزدوجة . فمن ناحية فأنه يشتمل على أنتاج مستلزمات العيش كمواد المأكل و الملبس و المسكن و الأدوات الضرورية لذلك الإنتاج ، و هو من ناحية أخرى فأنه يشتمل على أنتاج البشر أنفسهم و تكاثرهم كنوع"
وقد كنت أشرت في أحاديثي إلى أنّ الحاجة هي الأصل في حركة المجتمع أيّ مجتمع، وما الصراع الطبقي إلا حدث عارض من الأحداث العابرة في حياة البشر ربما تجلّى في عصر ماركس، ثم توارى.
فإذا كانت الماركسية على رأيي – والصحيح أن أقول: أنا على رأيها - فلماذا يجادلني الأستاذ في رأيي، ويعرض في الوقت نفسه رأياً يتفق مع رأيي أكثر من اتفاقه مع النظرية الماركسية التي تحلّل جميع الوقائع على ضوء الصراع الطبقي، والشواهد من أدبيات الماركسية على ذلك لا تحصى ؟:
"هناك الصراع القومي و الصراع الديني و العرقي سواء منه الأهلي أو العابر للحدود ، و الصراع لإحتلال و ضم المزيد من الأراضي و البلدان لنهب ثرواتها و شعوبها و الاستحواذ على المزيد من العبيد أو قوة العمل الرخيصة ، و هناك الصراع على الحدود ، و الصراع لكسب النفوذ السياسي – الإقتصادي ، و الصراع للهيمنة على أسواق العالم و الموارد الطبيعية فوق الأرض و تحتها و في الفضاء و تحت البحار، علاوة على صراع الإرادات ، و الصراع لتدمير أو إخضاع أقوى المنافسين دولاً و جماعات لضمان السيطرة و استمرار الوجود ، و هناك الصراعات التحررية و الاستقلالية ، ووو الخ ، علاوة على الصراع الطبقي".
ولماذا يعبث الأستاذ برأيي في مرح، ولا يرى تناقض ماركس - حين يجعل الصراع أصلاً ثم يجعله فرعاً في عين اللحظة - أحرى بالعبث!؟:
"إذا كان الصراع الطبقي أمراً بديهياً عند الماركسيين - مثلما يعلمنا الأستاذ نعيم إيليا - فلماذا يقول لنا ماركس في نفس مقدمته المشار إليها أعلاه بأن الشيوعية هي التي تضع النهاية للصراعات الإجتماعية"
ولا أملك نفسي هنا من أن أظهر الدهشة والعجب وأنا أرى الأستاذ حسين على قوة عقله، ولطف بيانه، ودقة إحساسه، ولا سيما في أدبه القصصي، عاجزاً عن تحرّي الحقيقة في قول ماركس:
"في الإنتاج الإجتماعي لمقومات وجودهم ، يدخل البشر بالضرورة في علاقات محددة مستقلة عن إرادتهم ، و تلك هي علاقات الإنتاج المناسبة للمرحلة المعطاة في تطور قواهم المادية للإنتاج . و من مجمل علاقات الإنتاج هذه تتألف البنية الإقتصادية للمجتمع ، و هي الأساس الحقيقي الذي يقوم عليه البناء الفوقي القانوني و السياسي و الذي تتناسب معه أشكال محددة من الوعي الاجتماعي"
وعلى طرح السؤال المهم: هل علاقات الإنتاج هي "الأساس الذي يقوم عليه البناء الفوقي" فعلاً ؟
وهو السؤال الذي سيميط اللثام عن وجه الحقيقة الجميل، إن يطرح: إن علاقات الإنتاج ليست أساس البناء الفوقي، وإلا كانت سابقة على وعي الإنسان وغرائزه، وهذا من المحال. وإنما هي من إبداع عقل الإنسان تتشكل برغباته وإرادته وغرائزه، وما دامت من إبداع عقل الإنسان وغرائزه، فهي إذن البناء الفوقي لا التحتي.
وأعجب بأشد مما عجبت من قوله السابق، كيف خانه المنطق عند الرد على قولي التالي!:
" إنَّ الحتمية تحمل شروط تحققها في ذاتها، ولا تحتاج إلى شروط خارجية، مثلها مثل قانون الجاذبية. وعلى هذا، فما دام (قانون) الصراع الطبقي، ليس حتمياً، فلا يصح أن يدعى قانوناً".
وشرع يصرخ في وجهي موبخاً إياي على جهلي:
"لكل قانون عام شروطه اللازمة للتحقق ، ولذلك فإنه لا يتحقق متى ما إنتفت تلك الشروط . و حتمية القانون ترتبط كذلك بموجبات تحققه . هذه الحقيقة البسيطة يعرفها طلاب المتوسطة و لا تفيد هنا اللجاجة المتمنطقة بشيء . مثال : الجسم الطائف يفقد من وزنه بقدر وزن السائل الذي يزيحه . قانون أرخميدس هذا يتطلب تحققه و حتميته توفر الشروط الأدناه : 1. وجود جسم ، 2. وجود سائل (مائع ، غاز)، 3. وضع هذا الجسم (1) في السائل (2). و في حالة غياب أي واحد من الشروط أعلاه ، فستنتهي مفعوليته ، و معها تنتفي حتمية القانون"
ولو أنه تأمل المسألة بروية، لأدرك أنني على حق غير مستوجب توبيخاً، بل هو الذي يجانب الحقّ والصواب؛ إذ يضع للقانون شروطاً إن توفرت له ظهر القانون إلى الوجود، وإن لم تتوفر، عدم الوجودَ. وهذا من المحال! كأن يقول إذا وُجد الضوء، وجدت الشمس، وإن غاب الضوء، غابت الشمس عن الوجود. إن الشمس موجودة ووجودها ليس مشروطاً بالضوء فهي والضوء شيء واحد، أو وجود واحد. وكذا قانون أرخميدس فإنه موجود وليس مشروطاً بوجود الماء، لأنه والماء شيء واحد، فلا ماء بلا قانون أرخميدس، ولا قانون بلا ماء. وكذا الصراع فإنه في جبلة الإنسان، ومن المحال ألا يكون صراعٌ والإنسان موجود، أو أن يكون الإنسان ولا يكون صراعٌ.
وأخيراً: إذا كان الماركسيون كما يزعم أستاذنا: "يفهمون تماماً بأن كتابات ماركس و إنجلز لا تقدم سوى وجهة نظر لفهم هذا العالم ، و لتغيير هذا العالم بإلغاء إستغلال الإنسان لأخيه الإنسان" .
فما بال الماركسيين يتحدثون عن نظرية علمية مشيدة على قوانين حتمية تتحكم بالمجتمعات البشرية والكون، اكتشفها ماركس وإنغلز!
كيف يمكن لوجهة نظر أن تمنحنا فهماً للعالم على حقيقته، وقدرة على تفسيره وتغييره؛ وما هي إلا وجهة نظر!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جبيس الإيديولوجيا
فؤاد النمري ( 2011 / 7 / 12 - 03:29 )
السيد نعيم كتب ليبرهن على أن الماركسي هو حبيس الإيديولوجيا فجاءت النتيجة بالعكس تماما إذ بدا بكل جلاء أنه هو حبيس الإيديولوجيا وليس الماركسي الذي لا يعتقد بشيء في كل محاكماته المستندة إلى قوانين الطبيعة التي ليست من الإيديولوجيا بشيء
فالسيد نعيم (يعتقد) أن الصراع الطبقي ليس من التاريخ إنما أقحمه ماركس على التاريخ. نعيم يقول هذا لأنه لا يفهم حقيقة الصراع الطبقي وهو ليس ملوماً على هذا القصور فكثيرون من الشيوعيين لا يعرفون حقيقة الصراع الطبقي
لو كان الإنتاج يفيض عن حاجات الناس لما كان هناك طبقات لتتصارع لكن لأن أدوات الإنتاج تقصر عن حدود الكفاية انقسم المجتمع إلى طبقات تتصارع حول حصة كل طبقة من مجمل الإنتاج وهو ما يشكل بالتالي علاقات الإنتاج. فعلاقات الإنتاج يقررها مستوى تطور أدوات الإنتاج وليس الإنسان متحرراً من القيد كما يعتقد السيد نعيم
أخي نعيم، أنا أقدر كثيراً الجهد الفكري الذي بذلته في مقالتك وكان من اللائق نشرها لأهميتها في مربع الكتاب، لكن أرجو أن تعرف أن نقد الماركسية هو علم معقد لا يجيده إلا أصحابه وأملي أن تكون منهم
أشجعك على الاستمرار في نقد الماركسية
مع كل التقدير والود


2 - ماركسي متمدن
نعيم إيليا ( 2011 / 7 / 12 - 12:19 )
أشكر أستاذي الفاضل فؤاد النمري على حسن ظنه بي، رغم اختلافنا في الآراء. إنه بهذا الظن الجميل أثبت فساد ظني في الماركسي الذي كنت أحسبه لا يجيد لغة الحوار المتمدن.
واسمح لي أن أضع بين يدي القارئ شيئاً من سيرتك - طال بقاؤك وإبداعك - ورد في هذين السطرين:
((اختلف - الأستاذ النمري - مع الحزب في السجن عام 1963 إذ رأى في انحراف خروشتشوف خطراً يتهدد مصير المعسكر الإشتراكي.
أطلق سراحه مع الشيوعيين عام 1965 بعفو عام لكن الحزب لم يوافق على استئناف نشاطه قبل أن يتخلى عن معارضة سياسة خروشتشوف المعارضة للماركسية اللينينية)).
فلعل القارئ يتدبر موقف الحزب إزاء اختلافك معه بالتفكير، ويسأل: أتكون عاقبة الاختلاف في الأحزاب الماركسية الطرد والرفض؟ لماذا!؟
وأرجو أن تجيب مشكوراً على الأسئلة التالية بينك وبين نفسك؛ إذ لست أرغب في أن تتكلف عناء التحرير والكتابة إلي!:
أين هي الحدود الفاصلة بين المشاعية وعصر الرقيق؟
أين تجلى الصراع الطبقي في الخلافة الإسلامية؟
هل الملكية الخاصة غريزة، أم حدث ولد على هامش العلاقات الاقتصادية؟
من يخلق الآخر؟ أهو علاقات الانتاج أم هو الإنسان يخلق علاقات إنتاجه؟


3 - الأخ العزيز الأستاذ نعيم إيليا المحترم
د . حسين علوان حسين ( 2011 / 7 / 12 - 18:32 )
تحية حارة من القلب
أعجبني ردكم الجميل ، و هو يستحق التمحيص من جديد .
أعجبني أكثر أننا بدأنا نقترب أكثر من تناول اللباب ، و طرح القشور .
و بالمناسبة ، فنثركم جميل جداً ، و ينبغي لي الإستفادة منه .
أكون ممتناً لكم لو سمحتنم لي ببعض الوقت للرد ، و بودي التكتم الآن على العنوان إلى أن يحين الأوان .
مع فائق الود و التقدير و الإعتزاز .
أخوكم دوما : حسين علوان حسين.


4 - نحن نفكر، إذاً نحن أصدقاء
نعيم إيليا ( 2011 / 7 / 12 - 21:31 )
أهلاً بأخي الأستاذ العزيز حسين
نحن متقاربان، نحن إخوان الفكر، بل إخوان الصفا - ولا يهمك - لسنا إخوان المسلمين، فكيف لا نتقارب!؟
وما دام الفكر يجمعنا، وما دام الأدب يطوقنا ويسري في دمانا، فسنظل أقرباء، بل أشقاء. ولنختلف ما شاء لنا الاختلاف أن نختلف. فما الاختلاف إلا الصراع الوديع المهذب - مش الطبقي الدموي، أوعى دير بالك وإلا ..- وأنعم به من صراع يبعث في عقولنا النشاط ويدفعنا إلى الإنجاز!
شكراً لك أخي العزيز، ودمت على رغد


5 - للسيد نعيم إيليا مرة أخرى
فؤاد النمري ( 2011 / 7 / 13 - 04:26 )
أسئلتك أخي نعيم جاءت بدافع إثبات بطلان الماركسية ولذلك لم تمس أعماق موضوعنا
أنت تؤمن أن التفكير من خواص الإنسان الطبيعية المتواجدة فيه قبل أن يقوم بأي نشاط خارج جسمه
لكن ماذا لو لم يكن الإنسان منتصب القامة ويمشي على أطرافه الأربعة؟
وماذا لو ل يكن إبهام اليد متواجداً قبالة الأصابع الأخرى وينطوي عليها؟
الإجابة على مثل هذه الأسئلة تؤكد أن التفكير هو دخيل على الحيوان الإنسان بدأ باستعمال الإنسان لأدوات الإنتاج كي ينتج حياته
الحيوان الإنسان كان سينقرض لولا نجاحه في استخدام الآلة للإنتاج
أدوات الإنتاج وانعكاسها على الطبيعة (فعاليتها) هي التي تقرر كل شيء في حياة الإنسان، تقرر مصيره ومستوى تفكيره وحضارته. ولذلك ميزوا عصور التاريخ بأدوات الإنتاج فيها فقالوا العصر الحجري والحديدي والبرونزي، عصر البخار والكهرباء والذرة
وأخيراً ..
هل كان عرب الحجاز ليغزو العراق وسوريا لو كانت شروط الحياة في الحجاز تؤمن الإستقرار للسكان وللقبائل فيها؟


6 - التوحش مازال سيد الموقف
عبد اقادر أنيس ( 2011 / 7 / 13 - 06:42 )
يقول السيد النمري: (لو كان الإنتاج يفيض عن حاجات الناس لما كان هناك طبقات لتتصارع لكن لأن أدوات الإنتاج تقصر عن حدود الكفاية). طيب، هل قل عدد النساء مثلا، عن عدد الرجال في التاريخ، حتى يتصارع الرجال حول اقتنائهن؟ لماذا يجمع هارون الرشيد منهن 2000. إنها طبيعة التوحش في الإنسان، ابن الطبيعة. ولا فرق بينه وبين ذكر الحيوان الذي يريد احتكار كل نساء القطيع له. طبعا، أفاد ذلك الصراع النسل، ولكن تبقى فكرتك عاجزة عن تفسير هذا الصراع. واليوم، هل البشرية عاجزة عن توفير إنتاج كاف يفيض عن حاجات الناس للقضاء على التصارع؟ طبعا لا، لماذا لا تفعل؟ لماذا يعمل بيل غيت على جمع ثروة طائلة تفوق حاجته ألوف المرات، ثم يبدأ في إنفاقها على المشاريع الخيرية؟ لماذا يراكم ملوك وأمراء العرب الملايير دون حاجة إليها ويحرمون شعوبهم منها ويستغلون أدوات الدولة القمعية للحفاظ عليها لزيادتها؟ هل مراكمة الثروة هو لحاجة حيوية معاشية في هذه الحالة أم استمرار للتوحش؟ أرى الأسد يحتكر فريسة ضخمة ويحاول منع إناثه وصغاره من الاقتراب إليها قبل أن يشبع رغم أنها تزيد عن حاجته بكثير. والبشر لم يبتعدوا كثيرا رغم ما حققوه من تقدم.


7 - اليدان أم الذكاء؟ 1
عبد اقادر أنيس ( 2011 / 7 / 13 - 08:31 )
يقول السيد النمري: (لكن ماذا لو لم يكن الإنسان منتصب القامة ويمشي على أطرافه الأربعة؟ وماذا لو لم يكن إبهام اليد متواجداً قبالة الأصابع الأخرى وينطوي عليها؟ الإجابة على مثل هذه الأسئلة تؤكد أن التفكير هو دخيل على الحيوان الإنسان بدأ باستعمال الإنسان لأدوات الإنتاج كي ينتج حياته. الحيوان الإنسان كان سينقرض لولا نجاحه في استخدام الآلة للإنتاج).
عندي هنا رأي لأنثروبولوجي يتبنى سؤالك الأول، لكنه يدحض فكرتك.
http://www.philolog.fr/aristote-la-main-et-lintelligence/
حسب هذا الرأي، فإن وضعية الانتصاب أدت إلى توسع حجم الدماغ وبالتالي زيادة حجم المخ. الدليل أن مخ الإنسان الماهر (هومو هابيليس) كان أكبر من مخ الشمبانزي، في مرحلة متقدمة جدا (قبل مليوني عام أو ثلاثة) لم يكن يعمل ولا كان ينتج، بل كان يعيش على الجيف والقطاف. أي لم تكن اليدان بالنسبة إليه كأداة تختلفان عما لدى حيوانات أخرى من أطراف تقترب كثيرا أو قليلا مما يشبه اليد مثل القردة. بل إن العناكب تمتلك أيادي ماهرة جدا قبل 200 مليون سنة.
يتبع


8 - اليدان أم الذكاء؟ 2
عبد اقادر أنيس ( 2011 / 7 / 13 - 08:32 )
وهو إذن يرى أن انتصاب سلفنا القرد هو سبب رئيسي في التحول قبل أن يطور استخدام اليدين. بل حتى اليدين هما صنيعة انتصابه على قدميه وتحررهما قبل أن تكتسبا مهارة جاءت نتيجة لتطور ذكائه قبل أن تكون استجابة لحاجة، فالحيوانات الأخرى كانت ومازالت تعيش بلا يدين ولم تنقرض فلماذا يجب أن ينقرض الإنسان بلا يدين؟. فالطبيعة زودت الإنسان بأداة (اليدين) لأنه قادر من حيث الذكاء على استخدامهما، ولم تزوده بهما لغاية مسبقة أو لكي يصير قادرا على ذلك لأن هذا يجرنا إلى تبني نظرية الغائية في الوجود. مثال ذلك أنه من المعقول أن نعطي الناي لمن يحسن العزف أفيد لنا من أن ننشغل بتعليم العزف لمن يملك ناياً وهكذا الطبيعة. وعموما لعل المصادفة إلى جانب الصراع من أجل البقاء قد لعبت أدوارا كبيرة إلى جانب الضرورة لتفسير سبب الانتصاب وسبب تطور الذكاء.
تحياتي


9 - الدماغ
نعيم إيليا ( 2011 / 7 / 13 - 10:17 )
دفوع رائع علمي لأستاذنا عبد القادر أنيس يشكر عليه جزيل الشكر
وأضيف إليه شيئاً وأوجهه للأستاذ النمري،
قضية انتصاب الإنسان لا بد أن تكون من عمل الطبيعة، ولكن لماذا الإنسان وحده دون سائر المخلوقات الأخرى منتصباً؟
سؤال صعب، إلا أننا مع ذلك نرجح أن الأمر متعلق بدماغ الإنسان، فلولا هذا التركيب العجيب والفاعلية المدهشة لدماغ الإنسان، ما استطاع الإنسان أن يخلق شيئاً، ولانقرض كما انقرضت من قبله كائنات منتصبة القامة شبيهة به تملك اليد ولكنها لم تزود من الطبيعة بدماغ متطور كدماغه: النياندرتال مثالاً.
وأؤيد فكرة التوحش عند الأستاذ أنيس، وأقول في الرد على غزو أهل الحجاز: نعم كان الحجازيون سيجتاحون المنطقة حتى لو كانوا عائمين على الثروات والخيرات. ها هي أمريكا برهاناً على صحة جوابي. الغزو متعلق بغريزة التوحش، فحيثما ير المتوحش ضعفاً، يهجم لنهشه أو امتلاكه
وقد كانت الامبراطورية الرومانية والفارسية منهارتين بسبب أزمة مالية حاقت بهما، فحرك ذلك نوازع التوحش عند العرب لابتلاع الفريسة الضعيفة، وحينما أصبحوا فريسة ضعيفة، تناهشها الأقوياء فيما بينهم وهكذا..
مع تحياتي وشكري

اخر الافلام

.. الحضارة والبربرية - د. موفق محادين.


.. جغرافيا مخيم جباليا تساعد الفصائل الفلسطينية على مهاجمة القو




.. Read the Socialist issue 1275 #socialist #socialism #gaza


.. كلب بوليسي يهاجم فرد شرطة بدلاً من المتظاهرين المتضامنين مع




.. اشتباكات بين الشرطة الأميركية ومتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين ب