الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية 1 الإنكفاء إلى الذات

عبد المجيد حمدان

2011 / 7 / 12
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


د. سعيد رحنيما صديق إيراني ، لاجئ سياسي في كندا ، وحاصل على جنسيتها منذ قرابة ربع قرن ، وأستاذ في جامعة يورك – تورنتو للعلوم السياسية . تابع د. سعيد باهتمام وشغف ثورات الشباب العربي ، خصوصا المصري . راقب نجاحاتها بحرص وعناية ، وتوقف عند معوقاتها وتعرجاتها . وبدافع الحرص على الثورة ، والخوف من احتمال انتكاسها ، كما حدث في الثورة الإيرانية ، كتب مقالة حرص فيها على إبراز أوجه التشابه والاختلاف بين الثورتين ، ومشيرا إلى الأخطاء التي وقعت فيها قوى الثورة الإيرانية ، والتي سهلت ثم مكنت الملالي من اختطافها . استعرض صديقي أحداث الثورة ومركباتها ، وأكد أن التيار المحافظ ، بزعامة الخميني ، لم يكن لا التيار الرئيسي ولا التيار القائد للثورة . ودلل على ذلك بأن أول حكومة رئسها الزعيم الليبرالي مهدي بازرغان ، أحد زعماء التيار الديني المعتدل ، وشاركت فيها كل القوى التي صنعت الثورة . كما أشار لانتخاب أبو الحسن بني صدر ، أحد رموز الاعتدال رئيسا للجمهورية . وأكد أن الخطيئة التي ارتكبتها قوى الثورة ، تمثلت في منح زعيم الثورة ، آية الله الخميني ، ثقة مطلقة ، بلغت حدود السذاجة السياسية ، وليستغلها ، في غفلة الثقة هذه ، في تمكين التيار المحافظ ، ليس فقط من خطف الثورة ، وإنما من تدمير وتشتيت شمل قوى الثورة ، واضطرار من نجا من القتل أو الإعدام إلى البحث عن ملاجئ خارج إيران ختم د . سعيد مقالته بنصح قادة الثورة المصرية ، الاستفادة من التجربة الإيرانية ، بعدم السماح لأي طرف كان ، باختطاف الحلم المصري في الديموقراطية والعدالة الاجتماعية . حذر قائلا : لا تثقوا في العسكر ، وإياكم وحسن النية مع التيارات السياسية الإسلامية .
في ردي على صديقي قلت أنني وإن كنت أشاركه الحذر ، وحتى بعض القلق ، خصوصا من تصرفات التيارات السياسية الإسلامية ، فإنني لا أشاركه الخوف على مصير الثورة المصرية . وأضفت أن متابعاتي للحوارات السياسية والفكرية ، وهذا الحراك الكبير في مصر ، تعزز لدي الثقة ، وتملأني بالتفاؤل ، وأنا متفائل بطبعي ، بقدرة شباب مصر على انجاز حلم المصريين بالديموقراطية ، وبحياة حرة كريمة . وأضفت لصديقي ، محاولا طمأنته ، أن هذه الثقة وهذا التفاؤل يدفعان عندي بالقلق إلى زاوية بعيدة
لم أشرح لصديقي دوافع تفاؤلي ، ولم أعرض له أسباب طمأنينتي . كنت آنذاك ، وحتى الاستفتاء على التعديلات الدستورية ، مأخوذا بروعة فعل شباب الثورة ، بعبقرية القيادة الشبابية كما تجلت في القدرة الخلاقة على التعبئة فالحشد والتنظيم وإشاعة روح الانضباط بين الملايين التي أمت الميادين والساحات والشوارع العامة . وقبل هذا وذاك التقاطها الحلقة المركزية للمطالب الشعبية واللحظة المناسبة لإطلاق شرارة الثورة . كنت مأخوذا بذلك الصمود المدهش في مواجهة آلة القتل العاتية ، وليتبعها جر كل فئات الشعب وقواها المنظمة والسياسية للالتحاق بركب الثورة .
كان الإخوان ، وقد التحقوا بالثورة بعد عدة أيام ، قد طووا شعاراتهم ورفعوا شعارات الثورة . وبدوا ، في كل ظهور لهم ، ليس فقط متمسكين ، بل ومدافعين عنيدين عن الديموقراطية وتجلياتها : عدالة ، حرية وكرامة ، التي شكلت الحلقة المركزية لأهداف الثورة . وبدا وكأن الإخوان ، ولحقتهم التيارات الدينية الأخرى فيما بعد ، قد تفهموا روح العصر ، وتجاوبوا مع متطلباتها . ثم كانت وحدة الجيش والشعب ، وزهد الجيش في السلطة ، ثم هذا الحر اك السياسي والفكري غير المسبوق في مصر .
بعد بعض الوقت فوجئت بصديقي وقد أجهد نفسه في البحث عن مترجم لمقالته ، وبطلب عوني لنشرها في وسيلة إعلام عربية ، بعد أن حدث ما جعل قلقه يتفاقم . أعدت تحرير الترجمة وبعثتها لكاتبي أعمدة في صحافة مصر المستقلة ، وتفضل الحوار المدني مشكورا بنشرها .
ولأن الوقائع هي المقررة لمسألتي التفاؤل والتشاؤم ، فقد أخذ قلقي أنا الآخر يتصاعد على حساب ثقتي التي اعتقدت أنها راسخة ، ولا سبيل إلى زعزعتها . فلقد وقع ما رأيته سلسلة من الأخطاء المتتابعة ، والتي لم يبادر أي طرف ، خصوصا من تسلموا دفة قيادة وتحقيق مطالب الثورة ، لوضع حد لها ،فتصحيحها وإزالة آثارها . من البداية ، واستنادا لدرس التاريخ ، لم يساورني شك في أن الثورة ستواجه ثورة مضادة . والأخيرة تتشكل من جملة مركبات داخلية وخارجية . والخارجية من داخل الإقليم ومن خارجه . ومن متابعاتي لفعل الثورة ، في شهريها الأول والثاني ، تشكلت قناعتي ، وتعززت ثقتي بقدرة الثورة على الانتصار . ولأن الخطر الأكبر على أية ثورة يأتي من داخلها ، ومن أخطاء أطرافها ، تصاعد قلقي كما أشرت ، وعلى حساب ثقتي وتفاؤلي بالنصر .
الانكفاء إلى الذات :
إذا صح القول بأنه من غير الممكن أن تسبح في النهر الواحد مرتين ، يصح القول بأن ثورة شعبية تحدث في بلد ما ، لا تتماثل ، ولا نقول تتطابق ، مع ثورة شعبية وقعت في بلد آخر . وإذا صح القول أن مياه النهر في السباحة الأولى تتماثل تماما ،أو لنقل لدرجة كبيرة ، مع مياهه في السباحة الثانية ، فإنه يصح القول أن الثورة الشعبية في بلد ما تحمل الكثير من أوجه التشابه ، كما من أوجه الاختلاف ، مع تلك التي تحدث في بلد آخر . أما أن يقال أن ثورة ما فريدة من نوعها ، ولا يجمعها جامع بالثورات الأخرى ، فهو قول لا يؤشر إلا إلى رغبة في الانكفاء إلى الذات وعلى الذات . وهذا يعني إدارة الظهر إلى إمكانيات الاستفادة من تجارب وخبرات الآخرين ، في مواجهة وحل المعضلات الملازمة للثورات .
يسود قول في مصر ، من بعد نجاح الثورة في إسقاط الحكم ، بأن ثورة 25 يناير فريدة ولا نظير لها بين ثورات العالم ، قديمها وحديثها . ولما كان صحيحا أن ثورة الشباب المصري رائعة بكل المقاييس ، إلا أنه لا يصح القول بتفردها على النحو الذي قيل ويقال به ، لأنه قول دعوة للإنعزال عن التجارب الإنسانية أولا ، ودفع للغرور الذي يقتل صاحبه ثانيا . وعلى عكس هذا القول ، هناك إعتراف بأن شباب الثورة استلهموا التجربة التونسية . كما أن هناك اعتراف بأن ثورة الياسمين احتفظت بقصب السبق ، في كثير من خطواتها ، وفي تحقيق المكتسبات ، وتجاوز المعترضات والمعوقات ، وفي تصحيح السلبيات ، وتعديل المسار .أي أن هناك ثورة قائمة وعديدة أوجه الشبه معها.
في وقت سابق خرج الرئيس الأميركي بتزكية لتفرد الثورة المصرية . وفي خطاب مجاملة للثورات العربية ، أشار أوباما إلى أهمية تعلم الشباب الأمريكي ، وغير الأمريكي منها ، ومن خلال تدريسها في المدارس والجامعات . ولحق بأوباما ساسة ومفكرون أوروبيون . ورأى ساسة ومفكرون وأساتذة علوم سياسية في الجامعات المصرية ، في هذه الأقوال ، شهادة تأكيد لا تقبل الدحض ، على صحة القول بتفرد الثورة وبعدم حدوث نظير لها . ولا غبار على هذا القول ، أو لوم على قائليه لو أن الهدف اقتصر على إبراز القائلين اعتزازهم بالثورة المجيدة . لكن حين يصل الأمر إلى إنكار الحقائق القائمة ، لابد أن يظن القارئ أو السامع أن للقائلين أغراض أو أهداف تتجاوز الاعتزاز بكثير . فحين يجري الحديث عن سلامية الثورة مثلا ، لا يجوز تجاهل حقيقة أن الثورة اليمنية كسرت كل الأرقام القياسية في سلاميتها . فليس هناك من لا يعرف أن اليمنيين أكثر شعوب العالم تسليحا . والمعلومات تقول أن عدد قطع السلاح بين أيدي المدنيين اليمنيين يزيد على ضعف عدد السكان . ورغم محاولات النظام المستميتة ، وتنويع أساليبه ووسائله الخبيثة ، لنقل المواجهة من سلامية إلى عنيفة ، إلا أن شباب الثورة أحبطوها جميعا . وبصورة تثير التقدير قبل الإعجاب ، واصلوا سلامية الثورة .
مقارنات كسيحة :
وإذن لنقل من موقع الاعتزاز بثورة يناير ، واصل المحللون وكتاب الأعمدة في الصحافة المصرية ، وحتى المتحاورون على القنوات الفضائية ، الابتعاد عن المقارنة مع الثورات الأخرى ، حتى عند التعرض للعقبات التي لم تنجح الثورة في التعامل معها ، ولا نقول تخطيها . وهم إن فعلوا يفعلون ذلك في عجالة لتأتي المقرنة مسطحة ، وفي الأعم الأغلب كسيحة .


وإذا صح القول بأن كل مقارنة عرجاء ، فإن القول يصح أكثر بأن المقارنة تصاب بالكساح ، حين يغيب تحري الدقة ، ويجري تعمد إغفال عوامل هامة ، كان لها دورها الفاعل سواء في صنع الثورات ، أو في التأثير على مساراتها ، عن المقارنات . ولا أظن أن أحدا يمكن له أن يقفز على السمات الخاصة لكل ثورة ، تلك السمات التي تفرزها خصوصية البلد ، ثقافته ، تراثه ، تاريخه ، مكانته على خارطة الحضارة ، موقعه الجيوسياسي ...إلخ . إلا أنني أكاد أجزم ، استنادا لما قرأت من مقارنات بين ثورة 25 يناير وغيرها من الثورات ، أنها مقارنات شحنت بفيروسات الكساح . فلقد ذهب كثيرون إلى القول بأن ثورة 25 يناير أعظم من كل ثورة ، حتى من أم الثورات ، الثورة البرجوازية الفرنسية . وكان هناك من ذهب إلى مقارنتها بالثورة الاشتراكية –البلشفية –لا لغرض إلا للتذكير بفشل نموذج الاشتراكية السوفييتيه . ولا أظن أن المشكلة ، في هكذا مقارنات ، تقف عند حدود عدم تحري الدقة ، وتغييب عوامل شديدة الأهمية ، بل تتجاوز كل ذلك إلى محاولة حرمان عقل الثورة المصرية ، استهدف ذلك المقارنون أم لا ، من الاستفادة من تجارب وخبرات ودروس وعبر الثورات التي سبقت ثورة 25 يناير وما أكثرها .
الثورة البرجوازية الفرنسية حدثت قبل قرنين وربع تقريبا . والثورة الروسية الاشتراكية حدثت هي الأخرى قبل أقل من قرن بقليل . ولحقتها الثورة الاشتراكية الصينية بعد ثلاثة عقود . وتلتها ثورات أخرى كثيرة ، شعبية سلامية وعنيفة . وفي الثلث الأخير من القرن الماضي ، وفي هذا العقد الأول من القرن الحالي ، وقعت ثورات عديدة ، وعلى مساحة القارات الخمس . وأحدثها ثورات البحرين ، ليبيا ، اليمن وسوريا ، وقبلها جميعا ثورة قرغيزيا، وحيث أحداث ثلاثة منها ما زالت جارية . والمنطقة العربية ما زالت مرشحة للجديد من هذه الثورات . ويمكن القول ، دون الوقوع في خطأ للتعميم كبير ، أن عاملين مشتركين انتظما فعل هذه الثورات وهما : أنها جميعا بدأت شعبية ، وقاد الشباب جماهيرها . وأنها جميعا قامت ضد أنظمة قمعية فاسدة ، واستهدفت حياة أفضل للجماهير الواسعة والمسحوقة ، ورافعة ذات الشعارات : حرية ، عدالة وكر امة. ولكن إلى جانب ذلك حكمت هذه الثورات عوامل فارقة ، تجعل المقارنة ، دون الانتباه لها والوقوف عليها ، ليس ظالمة فقط ، بل وسخيفة أيضا . وإذن اسمحوا لي بالتوقف لحظات عند بعضها .
ثورات التغييرات العميقة :
هناك اتفاق على توصيف الثورة الفرنسية بأم الثورات . لماذا ؟ لأنها دشنت عصر التغييرات العميقة للتشكيلات الاجتماعية التي مرت بها البشرية ، وفي سعي الأخيرة لتخفيف حدة استغلال طبقات اجتماعية لأخرى ، وتوفير حد مقبول من العدالة الاجتماعية . استهدفت هذه الثورة إزاحة تشكيلة اجتماعية اقتصادية ، وإحلال تشكيلة نقيضة وبديلة محلها . عصفت الثورة الفرنسية بتحالف الإقطاع والكنيسة ، وأحلت مكانهما الطبقة البرجوازية الصاعدة وتحالفاتها . وكان ضروريا لإتمام الثورة هدم كامل مؤسسات الدولة ، بما في ذلك الجيش ، المصممة لخدمة التحالف السابق ، وبناء مؤسسات بديلة تخدم الطبقة الصاعدة . وكان من البديهي أن يستنفر فعل الثورة هذا ، كل القوى المتضررة داخل فرنسا ، والمستشعرة بالخطر خارجها ومن حولها ، لتتحالف هذه القوى ضد قوى الثورة ، وبهدف منعها من تحقيق أهدافها ، فيما صار يعرف بالثورة المضادة . وظل هذا المسعى محكوما بالعنف . هكذا اضطرت الثورة ، التي بدأت شعبية وسلامية ، إلى الانتقال للمقاومة العنيفة في مواجهة الثورة المضادة . ونتج عن هذا أن غرقت فرنسا في فوضى أمنية شاملة ، وتدهور للاقتصاد بلغ حد الكارثة . ولم تعرف البلاد الاستقرار السياسي إلا بعد عقود طويلة . إذ انتقلت إلى النظام الجمهوري بعد سقوط الملكية ، لتعود إلى الملكية على أيدي نابليون بونابرت ، ثم إلى الجمهورية بعد سقوطه ، فالملكية من جديد على أيدي أبناء عائلته ، فالجمهورية مجددا بعدهم ، وليستغرق الحال كله قرابة سبعين سنة ، غرقت فيها الأمة الفرنسية في بحور من الدم ، ومن الشقاء والآلام مما لا يستطيع العقل الآن تصوره ، ولا نقول تحمله . وكل ذلك سجله الأدب الفرنسي في صفحات رائعة
قريب من هذا حصل مع الثورة الروسية –البلشفية - . ففي العام 1917 وقعت في روسيا ثورتان شعبيتان متتاليتان وسلاميتان ، استهدفتا تغيير التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية القائمة . الأولى وقعت في شباط وعرفت بالثورة البرجوازية ، أطاحت بالقيصرية دون إراقة للدماء ، لكنها فشلت في حل المشاكل المستعصية ، التي كانت تعاني منها روسيا آنذاك ، وعلى رأسها إخراج روسيا من الحرب العالمية الأولى ،التي ظل الجيش الروسي يتكبد فيها هزائم مهينة ومذلة ، وتنعكس وبالا على الاقتصاد والاحتياجات المعيشية للسكان . وكان أن تمت الدعوة للثورة الثانية ، وتحت شعار انجاز ما عجزت ثورة شباط البرجوازية عن انجازه .
أنجزت الثورة الثانية مهمتها في عشرة أيام فقط ، سجلها الكاتب الأمريكي جون ريد في رائعته المشهورة " عشرة أيام هزت العالم " . وكان مما يثير الدهشة أن هذه الثورة جاءت من أقل الثورات دموية في التاريخ . فقد قال سجل وقائعها أن ضحاياها كانوا أقل من ضحايا مظاهرة وقعت يوم أحد ، في العاصمة الروسية ، بطرسبورغ ، أو بتروغراد ، وفي السنة السابقة ، عرفت تاريخيا بيوم الأحد الدامي .
لكن الحال لم يستمر على هذا النحو . فقد كانت الثورة قد رأت أن انجاز المهام التي عجزت الثورة السابقة عن انجازها ، يتطلب قلب التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية القائمة . وكان ذلك ما خطط له قادة الثورة ، وعبأوا الجماهير به ، على مدار شهور التحضير لها . وعنى ذلك إسقاط تحالف البرجوازية والإقطاع القائم ، وتجريده من ملكية وسائل الإنتاج ، ونقل هذه الملكية إلى الطبقة العاملة وحلفائها . وإذا كان هذا الفعل قد عنى إقامة نظام للعدالة الاجتماعية غير مسبوق ، فإنه استلزم بالضرورة تفكيك كل مؤسسات الدولة ، وبما فيها الجيش ، وبناء مؤسسات جديدة بديلة ، تخدم وتحمي المكتسبات الجديدة ، كما سبق وحدث مع الثورة الفرنسية .
استدعى هذا التغيير العميق استنفار، فتحالف ، كل القوى المتضررة من الثورة داخليا وخارجيا ، كما سبق وحدث أيضا مع الثورة الفرنسية ، أي نشوء الثورة المضادة . وكان أن أشعلت قوى الثورة المضادة الداخلية ، نيران حرب أهلية طاحنة ، اعتمدت فيها على دعم قوى البرجوازية العالمية ، ولتشن الأخيرة حرب تدخل على الثورة ، شاركت فيها 14 دولة ، بينها بريطانيا التي كانت عظمى آنذاك ، وألمانيا التي كانت قواتها تحتل أقسام واسعة من البلاد وتهدد العاصمة ، ثم فرنسا والولايات المتحدة ، من بين دول أخرى .
انتهت حرب التدخل بالفشل بعد فترة قصيرة ، وبعد أن ألحقت الكثير من الدمار والخراب بالبلاد . وتواصلت أحداث الحرب الأهلية لسنوات نتج عنها الحرب كوارث أمنية واقتصادية . تسببت في وقوع مجاعات وانتشار للأوبئة ، أودت بحياة ثلاثة ملايين مواطن ، إلى جانب ملايين ثلاثة أخرى أسقطتهم الحرب الأهلية .
في مثل هكذا أوضاع تتعدد الرؤى والأفكار واقتراح الحلول للمعضلات الحاصلة . وحدث أن تصادمت رؤى أطراف تحالف الحكم الجديد ، والذي تشكل من مجموع الأحزاب اليسارية ، بقيادة حزب البلاشفة الشيوعي . وتم ليس فقط إخراج هذه الأحزاب من الإتلاف ، وإنما حظر نشاطها أيضا ، مضافة إلى أحزاب البرجوازية ما قبل الثورة . وفي هذا المناخ ولدت نظرية الحزب الواحد ، الذي يضمن تفرده بالحكم حماية الثورة ، وتطبيق قاعدة دكتاتورية البروليتاريا .
قبل الثورة كان لينين ، والحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي ، البلشفي الشيوعي فيما بعد ، قد شن حملة مركزة على الديموقراطية البرجوازية ، وعلى شقها السياسي بصورة محددة . وتحدث عن ديموقراطية بروليتارية أرقى وأكمل . لكن مجريات الحرب الأهلية ، والخروج بنظرية الحزب الواحد ، أطاحا بكل ذلك . وبديلا للديموقراطية البروليتارية الأرقى والأكثر تطورا ، حلت المركزية الديموقراطية ، والتي عصفت بالديموقراطية السياسية ، وقدمت نموذجا جديدا من الحكم الشمولي ، وبذلك الوجه البشع للديكتاتورية .
كان المنطق يقول بأن نظرية الحزب الواحد ربما صلحت لمرحلة الحرب الأهلية ، ولتتراجع بعدها . لكن ما حدث أن جرى مد صلاحيتها حتى نهاية الصراع مع الرأسمالية العالمية . والآن بتنا نعرف أن ذلك كان خطأ مهد لسلسلة أخرى من الأخطاء ، قاد تراكمها لإفشال التجربة وبعد سبعة قرون من نجاح الثورة .
لكن وبالعودة إلى مجريات الثورة ، وهي ما يهمنا في مجال المقارنة ، لا بد من الإشارة إلى أن عبقرية قيادة الثورة تجلت بأسطع ما يكون ، في قدرتها على إقناع سكان الامبراطورية الروسية مترامية الأطراف ، متعددة الأديان والأعراق والأجناس والثقافات ، ورغم الدمار والخراب الذي لحق بالبلاد ، بأن المستقبل الذي تعدهم به ، يستحق كل هذه المعاناة والآلام والتضحيات . وصدقتها الجماهير التي صمدت في مواجهة المحن والبلايا . وانتصرت الثورة ، وقام الاتحاد السوفييتي على أنقاض الامبراطورية القيصرية . وفي أقل من عشرين سنة صعد إلى منافسة الولايات المتحدة على قمة العالم ، بعد تنحية بريطانيا وفرنسا عن هذه القمة . ولا بد أن يلفت انتباه القارئ ، وهو يراجع هذه التجربة الثورية ، أن كتاب ومحللين سياسيين ، ومفكرين مصريين ، وقد عمدوا إلى مقارنتها بثورة 25 يناير ، لم يروا منها إلا فشل التجربة الاشتراكية ، وسقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي ، وما كان يعرف بالمنظومة الاشتراكية . وإذا كانت الأسباب والعوامل التي قادت للسقوط المروع ، وهي كثيرة ، ليست مجال بحثنا هنا ، فإنه يمكن القول بثقة أن تلك مسألة تختلف تماما ،عن المرغوب لشباب مصر وغيرهم ، الوقوف عليه ، من الخبرة اللازمة لتسليح ثورتهم بها . فهل يعقل مثلا أن كاتبا ومفكرا بوزن د . سعد الدين إبراهيم ، لا يعرف أن خلافات في الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي أدت إلى انقسامه ، قبل الثورة بكثير ؟ وهل يمكن أنه لا يعرف أن هذا الانقسام ، مثل كل انقسام أو انشقاق ، أسفر عن خروج أقلية ، عرفت بالمنشفيك أو المنشفية ، من كلمة مينشي الروسية التي تعني أقل ، وأكثرية ، عرفت بالبولشفية ، من كلمة بولشي التي تعني أكثر ، وليتشكل منهما حزبان ، حزب المناشفة وحزب البلاشفة – الشيوعي فيما بعد ؟ هل من الممكن أنه لا يعرف أن المناشفة كانوا جزءا من الحكومة البرجوازية التي أطاحت بها ثورة أكتوبر ؟ ذلك ليطلع علينا في مقال ، جريدة المصري اليوم ، عدد 2 / 7 ، ليقول أن الحزب قبل أن ينقض على ثورة شباط ، كان حزب أقلية صغيرة ، عرف بالمولشوفيك التي تعني بالروسية أقلية ، ليتحول بعد ذلك إلى القوة المهيمنة التي تعني البلشوفيك ، ولتأخذ الثورة اسم الثورة البلشفية منه ؟ ولعل القارئ لكتابات مثل كتابات الدكتور سعد الدين إبراهيم يسأل : إذا كان هؤلاء الكتاب أو السياسيين لا يريدون الاستفادة من تجارب ثورة كالثورة البلشفية ، فهل يكون تعظيم ثورة 25 يناير بتشويه الثورات الأخرى ، وبتحريف والافتراء على وقائع التاريخ ؟ نفهم أن يقال أن أهداف هذه غير تلك ، وأن المشترك بينهما ، كما مع الثورة الفرنسية ، قليل ومحدود ، ولذلك فإن المقارنة ، ومن ثم امكانية الاستفادة من الخبرة غير واردة . أما تصفية الحساب مع من غدا في ذمة التاريخ ، وفي مجال كهذا فأمر غير مفهوم ، وهو غير مفيد لأحد .
الثورات الحديثة :
في الثلث الأخير من القرن الماضي ، والعقد الأول من القرن الحالي ، وقعت سلسلة من الثورات الشعبية ، شملت معظم القارات ، أكثرها نجح وأقلها فشل . ونتج عنها أن غيرت وجه العالم ، بأن أزالت الكثير من علامات القبح عنه . ويمكن ، على ضوء أهداف هذه الثورات ، تصنيفها إلى : واحدة استهدفت العودة عن نموذج الاشتراكية السوفييتية ، على الرأسمالية . والثانية جرت في أحضان الرأسمالية ، واستهدفت استبدال نظم الاستبداد والفساد بنظم ديموقراطية ، مستلهمة نموذجا غربيا . وبغض النظر عن الفوارق في الأهداف ، فإن تحقيق الأهداف للأولى تطلب هدم مؤسسات للدولة ، ثم إعادة بنائها لتخدم النظام الجديد . لكنها أبقت على الجيش الذي وقف على الحياد ، باعتباره مؤسسة مهنية ، مهمتها حماية البلاد . ونجم عنها كلها تدهور في الاقتصاد ، وتردي في مستوى معيشة السواد الأعظم من الجماهير ، وفوضى أمنية ، وتوليد أجهزة الأمن المنحلة ، دقيقة التنظيم ، لمافيات متنوعة ، أعملت السلب في ثروات البلاد ، وعاثت فسادا في أمنها . واحتاجت أكثرية هذه البلدان لفترات زمنية طويلة للتعافي من الأزمات المتنوعة التي ألمت بها . وفي النهاية لم تحصل على الديموقراطية التي حلمت بها الجماهير ، والتي ثارت من أجلها . هنا لابد من الإشارة إلى أن هذه الثورات ، بسبب طبيعة أهدافها ، حصلت ، وفي وقت مبكر ، على حليف خارجي ، أمريكا ودول حلف الناتو ، كان دوره حاسما في نجاحها .
القسم الثاني وقع في البلدان المصنفة بالعالم الثالث ، وفي بلدان اشتراكية سابقة مثل أوكرانيا ، جورجيا وقرغيزيا . استهدفت الثورات في هذه البلدان استبدال النظم القائمة ، الفاسدة والمعادية للديموقراطية ، بنظم بديلة ترسي دعائم ديموقراطية حقيقية ، وتعالج الأزمات المتنوعة ، التي تأخذ بخناق البلد ، بما فيها تنمية الاقتصاد ، ومعالجة البطالة والفقر ..... وتوفير حد مقبول من العدالة الاجتماعية . وإلى هذا القسم من الثورات تنتمي الثورات العربية الجارية ، لعظم الشبه بين الظروف ، والأهداف ، ووسائل وأساليب العمل .
باعتماد الجغرافيا بديلا للتسلسل الزمني للثورات نذكر من الدول التي نشبت فيها الثورات : كوريا الجنوبية ، تايوان ، تايلند – جرى احتواء الثورة بوسائل وأساليب قريبة الشبه بما جرى في البحرين – الفلبين ، اندونيسيا ، باكستان ، السودان ، ومرورا بعدد من الدول الإفريقية ، لنصل إلى هاييتي ، الأرجنتين وتشيلي . والذي تابع مجريات هذه الثورات ، متابعة سريعة وعبر وسائل الإعلام ، يمكنه أن يرصد عددا من أوجه الشبه بينها ومنها :
1) أنها جميعا حكمها جنرالات وصلوا عبر انقلابات عسكرية ، وأنهم أقاموا نظما دكتاتورية ، بدأ بعضها باقتراف مجازر دموية هائلة البشاعة – تشيلي واندونيسيا كأمثلة . بحق شعوبها .
2) أن هذه النظم ، جميعا ، كانت صديقة لأمريكا ، وحتى التبعية المطلقة ، وأنها استندت في بقائها على الحماية الأمريكية .
3) أنها جميعا أغرقت البلاد في فساد مذهل ، كشف سقوطها عن نهب ثروات بلغت لرأس النظام مليارات الدولارات المهربة إلى البنوك الأجنبية ، فضلا عن أفراد عائلته الذين رأوا في البلد إقطاعية خاصة بهم . ولا أظن إلا أن القارئ ما زال يذكر تلك التقارير التي تشبه الأساطير ، عن ثروة الجنرال ماركوس ، وزوجته إميلدا ماركوس ، ونهبهما للفلبين .
4) أن الثورات فجرها الشباب ، بدءا من حرم الجامعات في غالبيتها ، وحيث انضمت لها قوى المعارضة المختلفة في فترات لاحقة .
5) أن الثورات جميعا لم تتجاوز مطالبها ، بعد إسقاط النظام وتطهير البلد من الفساد ، إقامة ديموقراطية حقيقية ، مشتقة من إحدى نظم الديموقراطية الغربية . لم ترفع شعار إسقاط طبقة ، أو تغييرا للنظام الاقتصادي ، واكتفت بمطالب محدودة للعدالة الاجتماعية .
6) أن هذه الثورات جميعا ، بحكم وضعها هذا ، لم تجد حليفا خارجيا واحدا ، يبادر إلى مد العون ، لمساعدتها في مواجهة النظام ، وعلى تحقيق أهدافها .
7) أن موقف الولايات المتحدة اتسم بالتردد ، بين المبادرة لعون حليفها ومساعدته على البقاء ، وبين التجاوب مع مطالب الثورة التي تتفق مع مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان ، التي تدعو لها . ولأن أمريكا ، في البداية والنهاية ، تستهدف ضمان وحماية مصالحها ، احتارت بين صديق مجرب وموثوق لضمان هذه المصالح ، ولكن نظامه فاسد ومعادي للديموقراطية وللمبادئ التي تروج لها ، وبين نظام ينادي بالتوافق مع مبادئها ، ولكنه قد ينقل العلاقة من التبعية إلى الشراكة ، وربما إلى الندية في هذه الشراكة .
8) أن جميع هذه البلدان، ونتيجة لانهيار مؤسسات القمع البوليسية ، التي اعتمدها النظام لحمايته ، شهدت فوضى أمنية ، وتراجعا اقتصاديا ، عانت منه الجماهير لفترات ، طالت في بعضها ، وقصرت في أخرى .
9) أنها جميعا ، عدا السودان ، حققت أجزاء من طموحاتها للديموقراطية ، تفاوتت في درجاتها ، وفي المدد الزمنية التي استغرقتها للوصول . إلا أن الأمر المؤكد أن قضايا الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان ، غدت فيها جميعا أفضل حالا مما كانت عليه قبل الثورة . والأمر ذاته فيما يخص التنمية الاقتصادية ومشاكل المعيشة والبطالة والفقر ...الخ ، فيما قفز بعضها ، كوريا الجنوبية مثلا ، قفزات هائلة إلى الأمام .
10 )فيها جميعا إما أن الجيش وقف على الحياد ، واكتفى بدور حماية البلاد ، أو أنه بادر لحماية الثورة ، والضغط على النظام للإسراع في الرحيل ، أندونيسيا مثلا .
11) أن من بين هذه البلدان ثلاثة حكمتها نظم إسلامية ، قام بعضها على تطبيق الشريعة ، وأضاف رأس النظام إلى ألقابه لقب أمير المؤمنين ، لكن ذلك لم يحصنها ضد الفساد ، ولم يحل بين الجماهير وبين الثورة عليها ، وهي لمن لم تسعفه الذاكرة : نظام سوهارتو في اندونيسيا ، نظام ضياء الحق في الباكستان ونظام النميري في السودان .
وبعد فنحن لا نملك معلومات عن الكيفية التي حلت بها النظم الجديدة مشاكل الفوضى الأمنية . ولا الكيفية التي اتبعتها في بناء المؤسسات التي سقطت مع سقوط النظام ، ومنها وفي المقدمة الكيفية التي أعيد بها بناء وزارات الداخلية . لكننا نملك القليل من المعلومات عن الخلافات التي تفجرت بين ائتلافات الثورة بعد النجاح في إسقاط النظام . وكيف انعكس ذلك سلبا على انجازات الثورة . ففي كوريا الجنوبية مثلا ، وفي أول انتخابات ، تصارعت قوى الثورة الليبرالية ، وتقدمت بثلاثة مرشحين للرئاسة ، مكنت مرشح اليمين ، وكان جنرالا متقاعدا من الفوز ، وليعود بانجازات الثورة خطوات كبيرة إلى وراء . وفي الدورة التالية ، وبعد استيعاب الدرس ، تقدمت بمرشح واحد حقق الفوز ، وحيث بدأت خطى إرساء وتدعيم الديموقراطية في الثبات .
والآن وبعد هذا العرض من حق القارئ أن يسأل : وماذا عن الثورة الإيرانية وموقعها على خريطة الثورات ؟ وللجواب أحيله إلى مقال الصديق د. سعيد رحنيما المنشور على الحوار المتمدن ، إذ ليس عندي ما أضيفه لما ورد فيه .
ونختم هذا الحديث بالإشارة إلى حقيقة أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت ثورة شعبية بنكهة خاصة وطعم خاص ، سوف نأتي على بعض جوانبها فيما بعد . ولنقول أن هناك الكثير من الخبرات ، كدستها هذه الثورات ، خصوصا في مواجهة الثورة المضادة ، وفي إعادة بناء مؤسسات سقطت مع النظام القديم ، مثل مؤسسة الأمن مثلا ، يمكن لثورات الربيع العربي أن تنتفع بها . وسوف نتابع إلقاء بعض الضوء على بعض هذه الخبرات في أحاديث لاحقة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - Mr Abuwadeeda
Jacob Qatato ( 2011 / 7 / 12 - 20:53 )
Very good article ! My best to you and your Family .

اخر الافلام

.. تقارير تتوقع استمرار العلاقة بين القاعدة والحوثيين على النهج


.. الكشف عن نقطة خلاف أساسية بين خطاب بايدن والمقترح الإسرائيلي




.. إيران.. الرئيس الأسبق أحمدي نجاد يُقدّم ملف ترشحه للانتخابات


.. إدانة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب توحد صف الجمهوريين




.. الصور الأولى لاندلاع النيران في هضبة #الجولان نتيجة انفجار ص